أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا

منذ 2006-09-14

مذكرات طفل

أخيرًا وُلدتُ بعد انتظار دام تسعة أشهر قضيتها في مكان مظلم ضيق، اضطرني إلى البقاء في وضع متعب مضحك، وقد علمت فيما بعد أن ولادتي كانت حدثًا انتظرته الأسرة بشوق شديد، وكانت أمي تعد الأيام وتفرح كلما زاد حجم بطنها.

وعند أول ركلة مني في بطنها هرعت إلى جدتي تخبرها أن المولود قد تحرك لأول مرة، وكانت تسليتها الوحيدة في فترة الانتظار هي حياكة الملابس التي سوف أرتديها في حياتي الجديدة، وكم دارت التساؤلات حول مائدة الطعام عن جنسي، يا ترى ولد أم بنت؟ وماذا سيكون اسمي في كلتا الحالتين؟

وصارت أمي تقرأ الكتب عن تربية الأطفال وتسأل جدتي عن متاعب الولادة بشوق وتوتر ، ثم ولدت.
أحاطوني بحنان شديد، وكان أبي وأمي يهرعان إلى عند أول آهة بسيطة تصدر عني وكم قضيا الليالي ساهرين عندما يصيبني أحد الأمراض المعتادة مثل النزلات المعوية والسعال، ولم يكفا عن تدليلي وحملي وتقبيلي، ومنذ ولادتي شعرت بأنني قد تربعت سلطانًا على عرش قلبيهما، وكلما كبرت زاد شعوري بحبهما وتقديري لهما فكنت أبادلهما إياه بفطرتي.
باختصار لقد أمضيتُ أيامًا سعيدة كنت فيها محور اهتمام الأسرة كلها.

وكنت أظن أن الدنيا بخير وأن السعادة تدوم إلى الأبد، فلم أعر أي التفات لبطن أمي الذي بدأ أخيرًا ينمو بالتدريج، كما تجاهلتُ تمامًا الأحاديث التي بدأت تدور عن مولود جديد.
ثم بدأت بعض التغيرات تحدث في حياتي، فقد نقلوني من سريري الذي تعودت النوم فيه بل ومن حجرة بابا وماما إلى حجرة وسرير آخرين، حتى أخلي مكانًا للمولود الجديد، وهنا بدأت أشعر بشيء من الشعور السيئ نحو الدخيل الذي أحدث أول تغيير في حياتي الأسرية، ولم أكن أعلم أن ما خفي كان أعظم.

لقد أخذت أمي في الحديث عن جنس المولود الجديد، وماذا تسميه، ووجدتها تعد له ملابسه ولاحظت أن التاريخ يعيد نفسه، وأخذت أترقب في اهتمام هذا الشيء الجديد حتى أحدد موقفي منه.
وفي يوم من الأيام بحثت عن أمي في الصباح فلم أجدها فسألتُ جدتي وكانت قد حضرت أمس، فقالت لي أمي في المستشفى حتى تلد أخي الصغير الذي سوف يسليني ويلعب معي، فانشرح صدري قليلاً لأنني في الواقع مللتُ الوحدة.

وفي اللحظة المنتظرة سمعتُ صوت الباب يفتح فهرعت نحو أمي في شوق وانتظرت أن تقابلني بنفس الشوق الذي تعودته منها، ولكنها قابلت شوقي بهدوء ولا أقول ببرود، ولقد علمت فيما بعد أنها كانت متعبة جدًا من الولادة، وكان أبي مشغولاً عني بهذا الطفل وأمي كذلك.
وفي غمرة من خيبة الأمل نظرت إلى هذا الدخيل وقلت في نفسي: أهذا هو الولد الجديد؟ وما إن أقبل هذا الولد حتى تغير جو المنزل تمامًا لغير صالحي، لم تعد أمي وأبي يهتمان بي أبدًا وصار يوجهان كل اهتمامهما إلى المولود، وكان حديثهما وفرحهما وتدليلهما مركزًا فيه فقط، وأحسست بأن سلطاني على قلبيهما قد بدأ يتزعزع، وفي يوم من الأيام شاهدتُ منظرًا أفزعني لقد وجدت أمي ترضع أخي من أين؟ تصوروا من ثديها من نفس المكان المخصص لإرضاعي أنا فقط، ومن هذا الوقت نشأ عندي شعور غريب أعرفه الآن باسم الغيرة.

وفي البداية كانت غيرتي بسيطة، فقد كنت أعتقد أن الطفل سيبقى مدة بسيطة في المنزل حتى أني قلت لأمي ، أرجعوه إلى المستشفى أنا لعبت به خلاص، ولكن علمت فيما بعد أن الأمر ليس بهذه السهولة، وأن الموضوع سيطول فقررت الدفاع عن كياني وعن أهميتي بطريقة أكثر وضوحًا، فكنت أضرب أخي وأعضه، وفي أحيان أخرى كنت أتصرف بذكاء فاحتضنه ولكنني أزيد العيار قليلاً حتى أكاد أخنقه وفي الحقيقة أن هذا التصرف كان بسبب تضارب مشاعري بين حب الطفل والغيرة منه.

وكثيرًا ما وجهت غيرتي وغضبي نحو أمي فكنت أكسر الصحون أحيانًا حتى أثير غضبها واهتمامها، وعندما لم تفلح هذه التصرفات في جذب انتباه أهلي، حاولت أن أعود إلى أيام الطفولة السعيدة فكنت أمص إبهامي وأتبول على نفسي في المساء ، ولا فائدة.
وبالتدرج نما شعور الغيرة عندي حتى صار كرهًا، ثم زاد فصرت أغار من كل من ينافسني ، وبهذا صارت حياتي سلسلة من الهزائم الشخصية فصرتُ منطويًا على نفسي كارهًا للمجتمع ولكل ناجح فيه .

لم يسلم منها أبناء يعقوب:
الغيرة هو شعور فطري عند الطفل إن فقد اهتمام والديه، فالطفل عنده حاجات نفسية، فيجب أن تلبي حاجته إلى الحب وحاجته إلى التقدير والنجاح والدلال، وإن قصر الآباء في إشباع هذه الحاجات لدى الطفل، سيتسلل إلى نفسه الشعور بالغيرة خاصة في حالة المولود الجديد.

لذلك أشار القرآن الكريم إلى الغيرة في سورة يوسف، فهاهم أبناء يعقوب يغارون من أخيهم يوسف قال تعالى: { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ . اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } [يوسف:8 ـ 9].

انظر كيف وصلت بهم الغيرة إلى حد الرغبة في القتل.
لذلك يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أكثر من موضع أن يعدلوا بين أبنائهم لتفادي هذا المرض الخطير (الغيرة) فيقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني: « ساووا بين أولادكم في العطية ».

روى أنس أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابنٌ له فقبّله وأجلسه على فخذه، وجاءت ابنة له فأجلسها بين يديه، فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: « ألا سويت بينهما ».

وانظر إلى هذه المرأة الذكية كيف عدلت بين طفليها روى البخاري في أدبه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها فأعطتها ثلاث تمرات فأعطت كل صبي لها تمرة وأمسكت لنفسها تمرة، فأكل الصبيان التمرتين، ونظرا إلى أمهما، فعمدت الأم إلى التمرة فشقتها فأعطت كل صبي نصف تمرة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته عائشة فقال: (وما يعجبك من ذلك؟) لقد رحمها الله برحمتها صبييها.

فرحمها الله تعالى لأنها آثرت أطفالها على نفسها، وكانت بهما رحيمة، ورحمها أيضًا لأنها عدلت بينهما ولم تفرق.


الغيرة شقاء وعداء

إن الغيرة بين السنة الأولى والخامسة من العمر انفعال سوي شائع بين كثير من الأطفال غير أنه كثيرًا ما يتطرف هذا الانفعال ويطغى على الشخصية طغيانًا يؤدي إلى عسر شديد في توافق الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه.
إن الغيرة في هذه الحالة أساس لمعظم السلوك الذي يتسم بالغرابة والشذوذ والخروج عن المألوف، فالطفل الغيور لا يستقر على حال ولا يشعر بالهناء، لا يأخذ من الحياة أو يعطي سوي القليل، يختزن أحزانه ويبالغ فيها حتى يؤدي به شعوره إلى الظن بأن الدنيا بأجمعها تعمل ضده فيكون مصدرًا لنكد أهله وينبوعًا لخطر كامن مقيم، رغم أن الغيرة تبدو على عدة أشكال مختلفة كلها تهدف إلى جذب الانتباه ولفت الأنظار.

وإليكم نماذج من الأطفال:
* كثير الشجار محب للاعتداء.
* يتطلب انتباه أمه أبدًا ويصر على أن تكرس كل وقتها له.
* دائم الحنق والتبرم والعبوس ولديه الرغبة في الانزواء.
* خجول هياب يتراجع إذا واجهته المشكلات المألوفة في الحياة اليومية.

كل هذه الحالات من الأطفال وجدنا أن السبب الكامن في كل حالة هو انفعال الغيرة وهو ناشئ غالبًا عن أسباب صغيرة كانت ملازمة للطفل في صغره ولكنها غذت كيانه بمشاعر الغيرة ومن هذه الأسباب:
1ـ السخرية من الطفل كأن يطلق عليه لفظ ملازم له يناديه كل الناس به فهذا يثير غيرته.
2ـ ولادة طفل جديد وتوجيه العناية والاهتمام إليه من قبل الآباء وإهمال الطفل الكبير.
3ـ عندما يظهر الآباء عطفهم على الأطفال الآخرين الأغراب عن العائلة أمام الأبناء.
4ـ مواصلة المديح والثناء على أخ الطفل أو أخته والتحدث عنهم كأنهم نماذج يحتذى، مع الإغراق في الإشارة إلى عجز الطفل الغيور وعيوبه.

وإذا اشتدت الغيرة عند المرء في صغره لازمته في كبره فإذا كان طفلاً تعسر عليه كثيرًا أن يوفق في صِلاته مع أترابه وهو لهذا يشعر بالخيبة والخجل ، وفي هذا نفسه ما يعوقه عن التوفيق وهو يشعر بأنه مهيض الجانب مهمل مظلوم، فهو يتركز حول ذاته ويزيد هذا التركيز حتى يدفعه إلى تجنب أترابه والابتعاد عن غمرة الحياة، وقد يتملكه اليأس والقنوط، وقد يغدو عاتيًا معتديًا حتى يجتذب الأنظار إليه، فإذا مرت الأعوام أدى هذا الانفعال إلى عجزه عن مشاطرة غيره في ما يشعرون به من متعة وهناءة، وصار مستحيلاً عليه أن يشهد نجاح الآخرين دون أن يبدو منه لذلك سخط واضح مكشوف، ومن ثم يكون الإنسان الغيور الحاسد موضعًا لكراهية الناس ونفورهم، وهو كثيرًا ما يعتقد أن الناس يضطهدونه ويسيئون إليه، وكثيرًا جدًا ما تنتهي الغيرة إلى حقد طاغٍ ينزل به أسوأ العواقب.


الغيرة والأنانية

ليست الغيرة أمرًا وراثيًا بل هي تأتي نتيجة للأنانية التي تنتج من التربية السيئة الخاطئة فإذا تعلم الطفل مشاطرة لعبه مع الآخرين، واقتسام محبة أبويه مع غيره، وإذا عرف أن على أمه في الحياة واجبات أخرى غير كل رغبة وأمنية تبدو منه، أقول إن هذا الطفل لن تلازمه الغيرة أو تطغى عليه، لكن الآباء الذين يرون الغيرة أمرًا ظريفًا فيحاولون ابتعاثها أبدًا في الطفل، كأن يقارنوه بغيره من الأطفال أو يواصلوا كيده للمتعة بما يبدو منه، إن أولئك الآباء يضعون الأساس لكثير من المصاعب العسيرة في حياة ولدهم المقبلة.

اذكروا أن الطفل الغيور سوف يكون رجلاً غيورًا، وأنه سوف يكون رجلاً يحسد أصدقاءه على ما يواتيهم من نجاح وتوفيق، وأنه قلما يستطيع العمل مع غيره، وأنه سوف يكون دائم الشكاية من عدم تقدير الناس إياه، وأنه سوف يكون بالاختصار فردًا بعيدًا كل البعد عن الانسجام مع البيئة التي يعيش فيها خاليًا من التوافق مع غيره من الناس.


مسك الختام
مع الدكتور/ عمير الحارثي:

يحدثنا الدكتور عمير الحارثي استشاري طب النفس للأطفال فيقول:
'الغيرة شيء طبيعي موجود عند كل الأطفال وأحيانًا يظهر في صور مختلفة مثل التبول اللاإرادي أثناء النوم، إغماض العينين بطريقة عصبية، التأتأة، الرغبة في التبول في فترات قصيرة، سؤال والدته دائمًا لتحمله أو لتطعمه بيدها، الرغبة في تناول زجاجة الرضاعة ثانية، التكلم مثل الأطفال الصغار، السلبية، رفض الطعام، تحوله إلى طفل شرس أو مدمر ويجب على الأم أن تلاحظ كل هذه التصرفات، كذلك تصرفاته مع اللعب ومحاولة تكسيرها.

ويضيف د/ الحارثي: 'لكي نعرف كيفية علاج الغيرة يجب أن نعرف أولاً كيف تحدث ونحاول منعها، فعند اقتراب موعد ولادة الطفل الثاني يؤخر الأول بعيدًا عن والدته لفترة بقائها في المستشفى وعند عودتها من المستشفى تكون مجهدة وترغب أن تستريح، وهو يرغب في القرب منها نتيجة بعده عنها فترة، وبعد استراحتها تقوم بالعناية بالصغير، ويصبح أغلب الوقت مخصصا للضيف الجديد ثم تبدأ سلسلة من التعليمات، وباستمرار يكون الصغير في أحضان والدته ويذهب هو إلى فراشه حزينًا، وبعد أن يكبر قليلاً يلاحظ أنه يعاقب لأشياء يسمح لأخيه الصغير أن يفعلها ولا يعرف سببًا لذلك، أو أنه أصغر من أن يعرف السبب وتزداد الغيرة بالمقارنة والتفضيل.

أما الغيرة في الطفل الصغير فتأتي عندما يذهب الكبير إلى المدرسة ويسهم المنزل كله ببدء الدراسة ويأخذه أحد والديه إلى المدرسة في الصباح وهو في قمة السعادة.
والحل الأمثل في علاج الغيرة هو عدم حدوث أي تغيير في الجدول اليومي للعناية بالطفل الكبير بعد قدوم الثاني أو تحاشي أسباب الغيرة، لأن علاجها صعب.
ومن أساسيات العلاج التظاهر أمام الطفل بأن كل شيء يفعله طبيعي ومعاملته بالحب والاحترام.

والطفل الغيور عمومًا هو طفل غير سعيد، وعلى الأم أن تبذل كل المحاولات لجعله سعيدًا فيجب أن تتحاشى التأنيب أو التوبيخ حتى لو أصاب أخاه الصغير، فكل هدفنا أن نجعله يلعب معه ويساعد أمه في خدمته، ففي حالة ضربه أو إصابته تأخذه الأم بعيدًا وتجعله مشغولاً، ولا تؤنبه إطلاقًا بل تعطيه الحب والأمان، وإذا تكرر التبول اللاإرادي لا تنصحه الأم بأي شيء وإنما تشغله في لعب أو خلافه، وإذا دمر لعبته أو أفسدها فلا تفعل له شيئًا بل تشغله في شيء آخر فأي توبيخ أو عقاب سيزيد المشكلة تعقيدًا.

من مظاهر الغيرة أيضًا محاولة جذب الانتباه مثل مص الإصبع، التبول اللاإرادي، الرغبة في التدمير وعلاج ذلك يستلزم معرفة الأسباب التي تؤدي إلى عدم الإحساس بالأمان، وهي دائمًا في العقل الباطن فلا يكتفي بعلاج الظاهر ولكن المهم جدًا معرفة الأسباب الباطنة التي أدت لهذه الظواهر المرضية، وبذلك يعيش الكبير والصغير في سعادة وهناء وتقوى الارتباطات الأسرية بينهما من البداية'.

المراجع:
1- المصدر موقع الإسلام اليوم.
2- مشكلات الأطفال اليومية.
3- تربية الأولاد ج1.
4- صحة الطفل د/ خليل مصطفى.

المصدر: موقع مفكرة الإسلام
  • 1
  • 0
  • 11,570
  • أبو الحسن

      منذ
    [[أعجبني:]] أعجبني في المقال تذكيره بمبدأ تربوي هام، ألا وهو التسوية بين الأولاد تجنبا للغيرة التي قد تأتي بنتائج لا تحمد عقباها. [[لم يعجبني:]] ولم يعجبني، أو بالأحرى أثار لدي تساؤلاً، ماأراه من الاستشهاد بقصة أبناء يعقوب في هذا المقام، خاصة أن الفقرة التي تلتها مباشرة تقول لذلك أمر رسول الله بالعدل بين الأبناءٍٍ... وكأن سبب غيرة أبناء يعقوب من يوسف عليه السلام كان مردها إلى عدم تسويه يعقوب عليه السلام بين أبنائه، فهل من دليل على ذلك. وإن لم يكن ثمة دليل فمن الواجب تعديل السياق حتى لا يفهم ما لا ينبغي فهمه. وأخيراً، أدعو الله أن يجزي كاتب تلك المقالة خير الجزاء.

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً