حقكم يُنسى
تُستوفى حقوق البشر، ويقضون المعروف، ويكافؤون على الجميل مثله أو أمثاله؛ غير أن هناك حقاً من الحقوق يظل دَيناً لا يُستطاع قضاؤه، وغُرماً لا يُنال وفاؤه، مهما حسنت الأقوال، وجمُلت الأفعال.
- التصنيفات: الأدب مع الوالدين -
تُستوفى حقوق البشر، ويقضون المعروف، ويكافؤون على الجميل مثله أو أمثاله؛ غير أن هناك حقاً من الحقوق يظل دَيناً لا يُستطاع قضاؤه، وغُرماً لا يُنال وفاؤه، مهما حسنت الأقوال، وجمُلت الأفعال.
فمن يقدر على حمل الوفاء الكامل، والمعروف التام لأمٍ نبضَ قلبها الحنان، ومهدَ صدرها الأمان، ومَسَّ كفها شفاء، وفجرَ ثغرها ضياء، ودرْك عمرها هناء.
في بطنها الضيق -لجنينها- فضاءٍ واسع، وحِرزٍ مكين، وفي حياتها للولد جوهر نفيس لا يُستعاض به غيره، وفي موتها يُتمٌ دائمٌ بلا بلوغ. حملت بين جنباتها كنز مستقبلها، وبِذرة أملها، تُحبه وتُضاحكه، وتُداعبه وتُلاعبه، وهو مازال في عالَم الغيب، تخشى عليه أدنى أذىً قد يؤلمه، وأهون همسةٍ قد تُفزِعه.
تنتظر من بين حناياها ذخرها وسعادتها، وأُنسها ومسلاتها عند اللأواء، ودرتها بين الأحياء، والثمرة اليانعة لحياتها، والأثر الصالح بعد مماتها.
إذا امتد بها الحمل امتد تعبها ومعاناتها، ونشأ قلقها واضطرابها، تمشي بترنحٍ وثقل، وتقعد ببطيء ووجل، وتسقط على فراشها منهكة، وتقوم عن مقعدها معتمدة، عافت مألوفاتها ومحبوباتها ومشتهياتها من مطعومٍ ومشروب، وملبوسٍ ومشموم، وحملها السبب.
تغيرت حياتها، وتباينت طباعها، فأصبحت تجوع ولا تقدر أن تأكل وعندها أشهى الأطعمة، وتظمأ وتعجز عن الشرب وأمام ناظريها الماء العذب والشراب اللذيذ، وحملها السبب.
تظل ليلها ساهرة، ونهارها فاترة، تمرُّ عليها الدقائق ساعات، والساعات أياماً، وحملها السبب.
فإذا ما اقترب الوعد الحق، وحانت ساعة تسليم الوديعة للدنيا ضاقت بها الأرض بما رحبت، فاشتعلت أحشاؤها، واضطربت أعضاؤها، وتصاعدت أنفاسها، وكثرت أناتها، وتفجرت محاجرها، وبح صوتها، واشتد خوفها، وعظم خطبها، وطال انتظارها.
ترى الموت يغازلها، والحياة تفاصلها، بينها وبين الممات شعرة متصلة إما أن تبقى، وإما أن تُقطَع.
حتى إذا أشرق ثغر الفرج، وقد آن أن تخرج المهج، تنفست الصعداء، وخف بعض عنائها ووجعها، وابتسمت ابتسامة المنتصر المثخن بالجراح.
ولم تنته معركة العناء هنا؛ وإنما دخلت جولة ثانية من الرعاية والحماية، والتربية والتغذية، فأضحت تَهِبَه خلاصةَ غذائها تُلقِمه ثديها الثر بكل معاني الجود، بعطفٍ ورأفةٍ حتى يروى. وتقوم بإزالة أذاه بكفها من غير ضجر، وتوليه الاهتمام بملبسه ومرقده وجميع شؤونه.
وتستمر منها الكفاية حتى يبدأ في الاعتماد على نفسه أكله وشربه، وهي مع ذلك بمثابة المراقب المُصلِح.
حتى إذا قوي عوده، واستقام عموده أسلمته للحياة، وغدت به تفخُر وتزهو، ولأجل سعادته تشقى وتتعب، تُأمِّل فيه وترجو، وترهب عليه ولا تأمن.
ويبلغ بها الحنو أن شفاءه إن كان في ألمها فهو دواء مبذول، وإن كان يريحه جهدها فهو عندها مطلب يعطى بلا بخل، وينجز بلا مطل.
تُراقب حياته فتفرح بمسراتها، وتحزن لمضراتها.
هو قلبها الخارجي الذي يسير وينطق، وحلمها الكبير الذي يكبر ويُشرِق، تعيش معه في أحلامه وتطلعاته، وتشاركه في آلامه وتوجعاته، بقلبٍ مُشفق، وحِسٍ مرهف، ودمعٍ سخي، فكيف لا تبحث عن أخباره وتعرِف جميع أحواله؟!
هي في هناءٍ مادام معها؛ فإذا ما سافر سافر معه هناؤها، وغدت جريحة كأنما نزع بعض أعضائها، فتصبح متعبة القلب، سائلة العين، شاردة الذهن، مجهدة الجوارح، تنتظر طلعته مع طرق كل طارق، وصوته مع دق كل مهاتِف.
لكن هل يبادلها ولدها هذا الشعور؟!
ولقد صدق من قال:
لو كان يدري الابن أية غصة *** يتجرع الأبوان عند فراقه
أم تهيج بوجدها حيرانة *** وأب يسح الدمع من آماقه
يتجرعان لبينه غصص الردى *** ويبوح ما كتماه من أشواقه
لرثى لأم سُلّ من أحشائها *** وبكى لشيخ هام في آفاقه
ولبدّلَ الخُلق الأبيّ بعطفه *** وجزاهما بالعذب من أخلاقه
غير أن فضل هذه الأم وإحسانها؛ قوبل من بعض الأولاد بالجحود والنكران، فقد مرق عُقق بعد أن كان في الخرق فبدا منه الاستئساد والنزق، وصار يعلو صوته على صوتها، ويُقدِّم قوله على قولها، وأما أفعالها لديه فتُواجه بالإنكار والتأفُّف، والجهل وقلة الخبرة، هذا إذا سَلِمَ جسمها من خشونة كفِّه وشدّة حيفه، وسمَّعها من رعود خطابه، وغارات سِبابه، فهي بذلك أسعد حظاً من فُرعان بن الأعرف مع ابنه منازل حتى طار ألمه فقال:
جَزَتْ رَحِمٌ بَيْنِي وبَينَ مُنَازِلٍ *** جَزَاءاً كَما يَسْتَنْزِلُ الدَّيْنَ طَالِبُهْ
لَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إذَا آضَ شَيْظَماً *** يَكادُ يُسَاوِي غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ
فلَمَّا رَآنِي أُبْصِرُ الشَّخْصَ أشخُصاً *** قَرِيباً وَذا الشَّخْصِ البَعِيدِ أُقارِبُهْ
تَغَمَّدَ حَقِّي ظَالِماً وَلَوَى يَدِي *** لوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غالِبُهْ
وَكانَ لهُ عِنْدِي إذا جَاعَ أوْ بَكَى *** مِنَ الزَّادِ أحْلى زَادِنَا وَأطَايِبُهْ
ورَبَّيْتُهُ حتَّى إذا ما تَرَكْتُهُ *** أخا الْقَوْمِ واسْتَغْنَى عَنِ المَسْحِ شارِبُهْ
وَجَمَّعْتُها دُهْماً جِلاَداً كأنَّهَا *** أشاءُ نَخِيلٍ لَمْ تُقَطَّعْ جَوَانِبُهْ
فأخْرَجَني مِنْها سَلِيباً كأنَّني *** حُسامُ يَمانٍ فارَقَتْهُ مَضارِبُهْ
أأنْ أُرْعِشَتْ كفَّا أبِيكَ وأصْبَحَتْ *** يَدَاكَ يَدَيْ لَيْثٍ فإنَّكَ ضَارِبُهْ
ومع هذه الإساءة التي تلقاها الأم فهي أحسن من الأب في عطفها فإنها قد لا تدعو عليه؛ وإن دعت نسخت دعوتها عليه بدعوتها له متقبِلاً صدرها الرحب ما يجيء منه، وتسعى في مراضيه، وتبحث له عن الأعذار.
وعندما تزوج غمرتها الفرحة وعمَّتها السعادة، وهي لا تدري ما تُخبئ لها الأيام المقبلة.
ها هو قد أضحى في حياته الجديدة عبداً لزوجته، وسيداً على أُمّه، وخادِماً في بيته، ومخدوماً في بيت أُمّه، يؤثر زوجته ويُقدِّمها، ويستأثر على أُمّه ويحرِمها، قول زوجته أصدق قيلا، وأقوم سبيلا، وقول أُمّه تسلُّطٍ وعدوان، وجفاءٍ وتعدٍّ.
ومع هذا الجزاء المقلوب؛ تكظم غيظها وتحبِس عبرات أساها، وتسكبها في صمتٍ بعيداً عن ناظر ولدها الحبيب! حتى لا تُكدِّر عيش فلذة كبدها، وتضيق عليه سكن المودة والرحمة!
وأحسن حالاً من هذه المسكينة؛ أُمٌ جوزيت على الإحسان بالنسيان فقط، فلا يساء إليها ولا يُحسِن، ورضيت من الحياة بالسلامة.
نعم؛ إن الأم أهدت ولدها العاق للحياة ولم يهدها من الحياة معروفه وواجبه، مع أنها شجرة ثمره، وسحابة مطره، ومنبع جدوله، ومهاد أمله.
فلّله أنتِ أيتها الأم، لله أنتِ أيتها الأرض الطيبة التي أحسنتِ الحفظ والرعاية، وتابعتِ البذل والكفاية، حتى نما الثمر وتدلّى. وما بخلتِ حتى غدا يكدح لنفسه.
لله أنتِ مهد تربية وتعليم، ومسنّ إصلاح وتقويم، ومنهل شفقة وحنان، وموئِل أمن واطمئنان، فمن تحت قدميكِ انطلقت الأجيال، وخرج الأبطال وسُقِيت الحياة بعظماء الرجال.
فهل نحن من أهل البِرّ؟
نسأل الله أن يوصلنا إلى ذلك، ولا يسعني في النهاية إلا أن أقول:
أسأنا ولم نُحسِن سوى بذلنا الأذى *** إليها فنالت منه أوفى نصيبها
ولاقت بحملٍ في الحشا حمل ضرنا *** ونحباً بإضرار جزاء نحيبها
ودمعَ عقوق من غلام مفرّط *** بدمع غزير عند ضُرِّ حبيبها
ينادي لها وفدَ المنية والردى *** وتدعو بإشراق الحياة وطيبها
ترى وجهه وجه الصباح ووجهها *** لديه كشمس فوق نعش غروبها
تشم أذاه دون أي تضجرٍ *** ويكره منها شم أعطر طيبها
يكافؤها بالبخل من أجل جودها *** وتغدو مساويه عهوداً يفي بها
فكم من جميل قد رآه وكم رأت *** أياديَ جُحدٍ طار حرُّ لهيبها
فاللهم غُفراً وتوفيقاً إلى إحسانٍ وبِرٍ*** وعفوكِ يا أُمَّاه من عقوق وتقصير
أوحى إليّ هذا المقال شهودي آلام ولادة زوجتي بأحد أولادي فتذكرتُ من ولدتني رعاها الله.
عبد الله بن عبد العواضي