أسرارالرضاع (البيولوجية والنفسية)
محمد سلامة الغنيمي
لقد حدد القرآن الكريم مدة الرضاعة التامة لكل مولود، ذكراً كان أم أُنثى، وهذا التحديد الدقيق لفترة الرضاعة المثلى، وتأكيد الآيات القرآنية عليه لم يتيسر تقريره كحقيقة علمية إلا من خلال الأبحاث الطبية الحديثة بعد ما ثبتت العلاقة بين تمام الرضاعة وكفاءة الجهاز المناعي...
- التصنيفات: الإعجاز العلمي -
لقد حدد القرآن الكريم مدة الرضاعة التامة لكل مولود، ذكراً كان أم أُنثى، في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} [1]، وهذا التحديد الدقيق لفترة الرضاعة المثلى، وتأكيد الآيات القرآنية عليه لم يتيسر تقريره كحقيقة علمية إلا من خلال الأبحاث الطبية الحديثة بعد ما ثبتت العلاقة بين تمام الرضاعة وكفاءة الجهاز المناعي والقدرة على مقاومة الأمراض، حيث أثبت الطب الحديث أن كفاءة الجهاز المناعي لا تصبح في أمثل صورة إلا عند عامين، أما قبل ذلك فيكون الرضيع في حاجة إلى مناعة مكتسبة في صورة أجسام مضادة تنتقل في لبن الأم إلى الطفل عبر الرضاعة [2].
ولعلنا ندرك من خلال الآيات السابقة مدى ما تحمله عملية الرضاعة الطبيعية من فوائد نفسية وبيولوجية يعود أثرها على الطفل، حيث تم تحديد هذه المدة بأسلوب بلغ الغاية في الدقة والإيضاح، فضلاً عن تأكيد هذه المدة بعدة مؤكدات -في قرآن يتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة تحدى الله به العالمين- مما يجعلنا نستشعر ما تحمله هذه الآيات في طياتها من معانٍ سامية ومن دلائل على إعجاز علمي وتربوي عجزت عقول البشر أن تتوصل إليه إلا بعد مرور مئات السنين... الأمر الذي يدفعنا إلى استعراض بعض ما توصل إليه العلم الحديث من فوائد هذه العملية البيولوجية النفسية حتى الآن.
- لبن الأم معقم جاهز؛ وتقل بذلك النزلات المعوية المتكررة والالتهابات التي تصيب الأطفال الذين يرضعون من القارورة.
- لبن الأم لا يماثل أي لبن آخر محضر من الجاموس أو الأبقار أو الأغنام؛ فهو قد صمم وركب ليفي بحاجات الطفل يوماً بيوم منذ ولادته، وحتى يكبر إلى سن العظام؛ فتركيب (اللبأ) وهو السائل الأصفر الذي يفرزه الثدي بعد الولادة مباشرةً ولمدة ثلاثة أو أربعة أيام يحتوي على كميات مركزة من البروتينات المهضومة والمواد المحتوية على المضادات للميكروبات والجراثيم، كما أنها تنقل جهاز المناعة ضد الأمراض من الأم إلى الطفل.
- يحتوي لبن الأم على كمية كافية من البروتين والسكر وبنسب تناسب الطفل تماماً، بينما المواد البروتينية الموجودة في لبن الأبقار والأغنام وغيرها من الحيوانات تناسب أطفال تلك الحيوانات أكثر من مناسبتها للطفل الإنساني، كما أن نوعية البروتينات والسكريات الموجوده في لبن الأم أسهل هضماً من تلك الموجودة في الألبان الأخرى.
- تكثر لدى الأطفال الذين يرضعون من القارورة الوفيات المفاجئة التي تدعى (موت المهاد)، وهذا النوع من الوفيات لا يعرف لدى الأطفال الذين يلتقمون أثداء أُمهاتهم.
- نمو الأطفال الذين يرضعون من أُمهاتهم أسرع وأكمل من أُولئك الذين يرضعون من القارورة.
- ينمو الطفل الذي يرضع من أمه نفسياً نمواً سليماً، بينما تكثر الأمراض والعلل النفسية لدى أولئك الذين يرضعون من القارورة.
- يتعرض الأطفال الذين يرضعون بالألبان المجففة بواسطة القارورة إلى أمراض الحساسية الجلدية بأنواعها، الربو وحساسية الجهاز الهضمي، بالإضافة إلى النزلات المعوية المتكررة، بينما الأطفال الذين يرضعون من الثدي لا يعانون من هذه الأمراض إلا نادراً [3].
- إن الرضاعة من الثدي مع قدر معقول من التنظيم واهتمام الأم وتعلقها بطفلها تؤثر بشكل إيجابي على نمو شخصيته في المراحل التالية من الطفولة، فيبدو الطفل متفائلاً متهللاً للحياة، يغلب عليه الإحساس بالأمن والثقة في الآخرين والتحرر السلبي من الكفوف الانفعالية الضارة، ذلك في مقابل الإحساس بالتشاؤم والنبذ وضعف الشعور بالأمن والثقة وفرضت عليه قيود صارمة أثناء الرضاعه مع غياب الاندماج والتفاعل الانفعالي مع الأم [4].
- ثبت علمياً أن نمو الدماغ لا يكون تاماً عند الولادة، بل يستمر طيلة عامين كاملين بحيث يكتمل النمو التشريحي والوظيفي، وكما علمنا ثبت أيضاً تفرد لبن الأم ببعض المركبات الكيميائيه التي لها تأثير كبير في نمو وتطور الدماغ في السنتين الأوليتين للحياة.
أما فيما يتعلق بالجانب النفسي فإن الطفل يجد فيها استمرار لبقائه البيولوجي والنفسي وتتدعم عنده هذه العادة بشدة يندر معها أن تلقى أي عادة أُخرى تعلمها في حياته مثل هذا التدعيم، ويستمد التدعيم أو التعزيز قوته ليس فقط من تكرار هذه العادة مرات عديدة في كل يوم، ولا من الإشباع الذي يتحصل عليه من كل رضعة، إنما من التأكيد المتتابع لشعوره بالأمن والتقبل والثقة في بيئته الخارجية والتحقق الدائم من صحة توقعاته واعتماده الكلي عليها، ويرى فيها عوضاً عن عالمه الجنيني السابق، فهو يلجأ إليها إذا انتابه شعور بالخوف أو تذكر الماضي أو عندما يضايقه شيء ما، فهو يبكي ويصرخ ويزداد قلقا إلى أن يصل إلى ثدي أمه حينئذ يزول قلقه ويهدأ تماما.
وما هذه الفوائد إلا بعضاً من فوائد الرضاع، ولا تزال المعامل تخرج علينا كل يوم بأسرار جديدة عن هذه العملية المباركة، وذلك لأننا ندرك جيداً أن الله تعالى لا تتولى ذاته المقدسة تفصيل أمر على هذا النحو إلا إذا كان ذو أهمية بالغة.
هذا وفي حالة تعاسر الأم وعدم تمكنها من إرضاع طفلها، سواء أبت هي عن القيام بالرضاعة أو منعها مانع من ضعف أو فساد لبنها أو ميله إلى الرقة، فالقرآن الكريم يوجهنا في هذه الحالة إلى أن حليب الرضاع هو الأفضل مطلقاً ولو اضطر أن يكون المصدر غير الأم، ففي هذه الحالة يتم البحث عن مرضعة مناسبة، يكون لبنها بديلاً عن لبن الأم. قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [5].
ولكن يلوح في الأفق عدة تساؤلات، من هى؟ وما صفتها؟ وما سيكون موقف الرضيع منها فيما بعد؟ ينبغي أن يتم اختيار المرضعة المناسبة من حيث السن والخَلق والخُلق أيضاً، يقول الغزالي: لا يستعمل في رضاعته وحضانته إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه. وتبدو العلة في ذلك أن هذه المرأة الأجنبية سوف تصير أُماً له بعد أن يتغذى على لبنها، ويرتوي بحنانها، ويلتمس الهدوء في حرارة جسدها، فهو يرى الكون كله من خلالها، فالارتباط بينهما وجداني وبيولوجي، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [6]، وعلى هذا فقد حرم الله سبحانه وتعالى عليه الأم من الرضاع كما حرم عليه الأم من النسب.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» [7]، والمحرمات من النسب في النكاح سبع مذكورات في الآية السابقة، وبناءً على ذلك يحرم مثلهن من الرضاع، لا يجوز الزواج بهن وهن: أمك من الرضاع، وابنتك من الرضاع وهي التي أرضعتها زوجتك، وأختك من الرضاع التي أرضعتك وإياها امراة واحدة، وعمتك من الرضاع وهى أخت زوج المرضعة لك، وخالتك من الرضاع وهي أخت المرأة التي أرضعتك، وبنت أخيك من الرضاع، وبنت أختك من الرضاع. وهذا التحريم خاص بالشريعة الإسلامية فقط، فلم تأتِ به شريعة من الشرائع، وذلك يعكس أهمية الرضاعة في حياة الطفل ومدى اهتمام الإسلام بالطفل.
ولا تتعارض عقيدة التسليم والإذعان لأوامر الله جل في علاه، مع البحث في علل الأحكام وغايات التشريع وأسرار النصوص، إذ في ذلك زيادة في الإيمان واطمئناناً في القلب وتأليفاً للعصاة، واستعراضا لعظمة الإسلام أمام أصحاب الديانات الأخرى، لذلك لا نرى غضاضة في استعراض حكمة المشرع في هذا الانفراد التشريعي، والذي نراه في عدة جوانب.
ففي الجانب الإنساني تبدو في تكريم هذه المرأة التي أرضعته وغذته بلبنها، وتكوّن جسمه من جسمها وتكونت مبادئ شخصيته الإنسانية الأولى من شخصيتها بعد ارتباطه عاطفيا بها، أي أنه جزء منها في الجانبين الجسدي والنفسي، كما أنه جزء من أُمه التي حملته. وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن لبن المرأة يحمل بعض الصفات الوراثية التي تنتقل من المرضعة إلى الرضيع، فهو بذلك يرث منها كما يرث من أبويه، فضلاً عن الارتباط الوجداني بين الرضيع وبين مرضعته التي يجد في صدرها الدفء والحنان.
ويوسع الله تعالى لنا بذلك التحريم دائرة القرابة، مما يوسع من العلاقات الاجتماعية والأسرية، وهذا شأن الإسلام في التكافل الاجتماعي والترابط الأسري. قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [8]، لعل النكتة في عدم إلزام الأم بإرضاع ولدها هي أن عملية الرضاع ليست مجرد تقديم غذاء (مادي) للطفل، بل إنه عملية تفاعل روحي بين الأم والطفل ولو كان الارضاع بالإكراه بغض النظر عن نفسية الأم، فإن الشحنة الروحية المعنوية وذلك التفاعل الخفي بين الأم وطفلها لا يمكن أن يحدث بالإكراه، إذ إن الإكراه لا يحدث شيئاً في بواطن القلوب وخلجات الصدور وخبايا النفوس، وعندما نكون أمام احتمال من اثنين، الأول هو أُم تدرك معنى الأُمومة وتدرك معنى الرضاعة فتقبل على ذلك بعاطفة وروحانية غريزية وهذه لا حاجة لإكراهها على الرضاع، والثاني هو أُم لا تريد أن ترضع ولدها لسبب يفوق -في ميزان أولوياتها- حاجة طفلها إليها وهذه لن ترضع طفلها حناناً ولا عاطفة ولا مشاعر إنما ترضعه حليباً فقط، مجرد حليب، وهذه لا حاجة لإكراهها لأن الإرضاع الحاصل منها ل ايزيد على الإرضاع الحاصل من غيرها بشيء [9].
[1] البقرة: 233.
[2] علم أطوار الانسان لرشاد علي موسى ص: 133.
[3] (تربية البنات في الإسلام) نقلاً من (عمل المرأه في الميزان) للدكتور مُحَمَّد علي البار.
[4] قراءات في علم نفس النمو، ص 107.
[5] الطلاق: 6.
[6] النساء: 23.
[7] متفق عليه.
[8] البقرة: 233.
[9] تربية الطفل للإسلام، د/ وسيم فتح الله، ص 53.