جعلوني بلطجياً
العنوان قد يكون غريباً لأول وهلة؛ لكنه يُمثِّل واقعاً حقيقياً عند طائفة كبيرة من الشعب المصري حيث أن بعض الناس قد وصل به الحال من اليأس والقنوط إلى درجة جعلته لا يجد بُداً من أن يعمل بهذه الوظيفة (البلطجة).
العنوان قد يكون غريباً لأول وهلة؛ لكنه يُمثِّل واقعاً حقيقياً عند طائفة كبيرة من الشعب المصري حيث أن بعض الناس قد وصل به الحال من اليأس والقنوط إلى درجة جعلته لا يجد بُداً من أن يعمل بهذه الوظيفة (البلطجة).
والذي دفعني إلى كتابة هذا المقال هو ما حدث مع جاري البلطجي الذي وجدته في الآونة الأخيرة منذ أسبوعين أو أكثر يخرج إلى الشارع ويصرخ بأعلى صوته ويسب بأفظع الألفاظ وأبشعها وكأنه يكاد ينفجر من همٍ داخلي تكاد حين تسمع صوته ثائراً تظن أنه يوشك أن يَقتل كل من يُقابله أو يُفرِغ فيه سلاحه الذي لا يُفارِق جيبه.
ولكن قيَّض الله له ثلةٌ من أهل الخير فكلموه بهدوء، ونصحوه مخلصين؛ فكانت الاستجابة بفضل الله ومنذ ثلاثة أيام أراه في المسجد في الصلوات الخمس بعد أن كان لا يصلي الجمعة أصلاً، ومنذ هذه الأيام الثلاث لم أسمع له صوتاً بل وجدته قد صنع لنفسه فرشاً يبيع فيه الخضروات أمام منزله ليكسب من حلال. وسبحان الله الذي يهدي من يَشاء ويُضِل من يشاء وهو على كل شيء قدير.
ولأجل ذلك؛ لابد لنا أن نتوقف وننتبه إلى أمر مهم جداً وهو أننا حينما نتعامل مع ظاهرة البلطجة نتعامل معها على أنها جريمة يجب أن تُوأد وتستأصل من المجتمع لأنها تُشكِّل خطراً كبيراً على استقراره وسلامته ونهضته وأمنه وهذا صحيح بلا شك.
بَيْدَ أنه لابد وأن تتخذ السبل والوسائل الصحيحة لوأدِ واستئصال هذه الظاهرة من المجتمع، وهو ما يجعلنا نتوقف برهة عند أسباب البلطجة أو بمعنى أوضح أسباب امتهان البعض لمهنة البلطجة.
إن امتهان البلطجة لا يكون إلا بسبب اليأس والقنوط من الدنيا والآخرة؛ فإذا وصل الشخص إلى هذه القناعة فإنه لا يجد أمامه سبيلاً إلا امتهان مهنة البلطجة.
إذن؛ فما الذي يجعل الإنسان يصل إلى هذه القناعة وتلك المرحلة أعني مرحلة اليأس والقنوط؟
تحاورتُ أكثر من مرة مع أصحاب مهنة البلطجة (البلطجية) فوجدتُ أن حالهم لا تخلوا من أحد أمرين:
1- إما عاطلين لا يجدون عملاً في حين أنهم يحتاجون إلى المال.
2- وإما قد تورَّطوا في جريمة أو أكثر فتأكدوا أنهم قد سقطوا من عين القانون والمجتمع بل وسقطوا في نار الآخرة.
ولو تعلمون أن الظلم المجتمعي هو السبب المباشر للحالة الأولى؛ فإذا قصَّر المجتمع في حق هذه الطائفة، وظلمهم ولم يدع لهم فرصة للمشاركة بعملٍ نافعٍ يُدِرُّ عليها ربحاً فيَسُدَّ حاجتهم ويكفيهم مؤنتهم؛ فإنهم بلاشك سيلجأون إلى الطريقة البديلة للوصول إلى المال، فيحترفون مهنة البلطجة ومع ذلك يكونون في قرارة أنفسهم متضجرين مكتئبين حانقين على المجتمع، كارهين له يغمرهم الشعور بالظلم والاقصاء، فيتحوَّلون إلى مجرمين ويُشكِّلون خطراً جسيماً على المجتمع بأسره.
والحل في هذه الحالة أن نوفر لهم عملاً نافعاً وكافياً لمؤنتهم ولو كان ذلك على حساب بعض من تتسع أرزاقهم من أصحاب الشركات، والمصانع والحِرف والوِرَش والسيارات بتوفير أعمال يكونون هم الممولين لها ويستغلون هذه الفئة من الناس في تشغيلها.
أو يكون من الحكومة انتباه ووعي تجاه هذه الطائفة فيوفرون لهم وظائف حكومية كافيه لهم.
أما الحالة الثانية وهي حالة التورُّط في جريمة بجهلٍ أو بسبب غضب أعمى أو حتى عمداً فإن هذه الحالة تُشعِر الشخص أنه قد انتهى في نظر الناس وفي نظر القانون، بل وانتهت آخرته وأنه بلاشك سيُعاقَب بالنار ولن يرى الجنة وهذا جهل بالدين وبقضية التوبة يجب على العلماء والدعاة أن يُعالِجوه سريعاً وبرفقٍ ولين.
كما أنه ظلم من القانون إذا أشعر المجرم أنه قد انتهى فإنه بلا شك سيزداد ويستمر في الجريمة، بل إنه قد يُكرِّرها بصورة أغلظ ولذلك لابد وأن تكون العقوبات الجنائية مداواة وعلاجاً أكثر منها ردعاً وعِقاباً بحيث تتوفّر للسجين وسائل التوعية والترغيب والتهيئة في السجن أكثر مما كانت خارج السجن فيعود إلى رشده ويخرج طاهراً نقياً سوياً نافعاً لا يائساً قانِطاً كارِهاً ساخِطاً.
والأمر الأعجب الذي اكتشفته من خلال المحاورة مع البلطجية؛ أن كثيراً منهم يكون في الحالة الأولى وهي اليأس بسبب عدم وجود مصدر رزق، ولكن الفاسدين في جهاز الداخلية يَزيدون الأمر عليه تعقيداً فيجمعون له الحالة الثانية مع الحالة الأولى ليضمنوا ولاءه لهم وعمله لحسابهم، فإذا ما تعرَّفوا على أحد العاطلين يعطونه مالاً من أجل أن ينفذ جريمة وبجهلٍ منه ينظر إلى المال ولا ينظر إلى الجريمة وعواقبها فيقترِف الجريمة وبعدها يُدرِك مدى خطورة ما ارتكبه، فيُحاصِرونه بالجريمة ويُشعِرونه بفقد الأمل، ويزرعون فيه اليأس وأنه قد انتهى، وأنه أصبح في نظر المجتمع مطروداً لا يستحق الحياة وأنه سيُعاقََب على جريمته بالموت بلا شك.
فعندها؛ يشعر أنه محاصر ويلتمس أي سبيل للخروج، فيبدأون معه في المساومة لكي يُنفِّذ جريمةً أخرى لصالحهم مقابل التستُّر عليه، وعدم فضحه أو ملاحقته أو معاقبته في الأولى، فلا يجد سبيلاً سوى الانصياع والاستمرار وكل يوم تهديد جديد وجريمة جديدة، ولا يزداد الأمر أمامه إلا تعقيداً ولا يزداد على المجتمع إلا سُخطاً وكُرهاً وحُنقاً.
وأصل المشكلة هي: الحاجة، ثم الجهل، ثم فساد من يستعملونه، ويستغلونه لمصالحهم.
فأقولها لكم:
أيها المجتمع؛ اتقوا الله في البلطجية ووفِّروا لهم ما يكفيهم تُكفوَن خطرهم.
وأقولها لكم:
أيها الحُكَّام؛ اتقوا الله في البلطجية، وأعطوهم حقهم من العمل، حتى لا يتوصلون إلى حاجاتهم بغير الطريق الشرعي القانوني.
وأقولها لكم:
أيها الدعاة؛ اتقوا الله في البلطجية، فانصحوهم برفقٍ ولينٍ وحرص، وعلِّموهم حتى لا يَضيِعوا ويُضيِعوا المجتمع بجهلهم.
وأقولها لكم:
أيها الشرطة؛ اتقوا الله في البلطجية، فلا تستخدمونهم فيما يُغضِب الله جل وعلا، ويُفسِد الأمة والمجتمع، فإنكم إن تربحوا اليوم تخسرون غداً، وإن يستجيبوا لكم اليوم يُحارِبونكم غداً.
{وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف من الآية:18].
- التصنيف: