ثقافة التلبيس - (6) مصطلح التسامح
كثر الحديث من بعض الإعلاميين بعد أحداث العنف التي مرت بها بلادنا عن (التسامح)، مطالبين بنشر ثقافته بين الناس بدلاً عما يسمونه (ثقافة العنف والكراهية)!
كثر الحديث من بعض الإعلاميين بعد أحداث العنف التي مرت بها بلادنا عن (التسامح)، مطالبين بنشر ثقافته بين الناس بدلاً عما يسمونه (ثقافة العنف والكراهية)!
والتسامح كلمة قريبة من نفوس المسلمين، محببة إليهم؛ لما تحمله من معانٍ سامية جاءت نصوص شرعية كثيرة بالثناء على أهلها ؛ كحديث: «
» (صحيح الجامع [3495]) وحديث: « » (الراوي: عبدالله بن عباس، المحدث: السيوطي - المصدر: الجامع الصغير [1037] خلاصة حكم المحدث: حسن) وحديث « » (مسند أحمد [11/160]) إلى غيرها من الأحاديث الصحيحة. (انظر: صحيح الترغيب والترهيب للألباني، 2/326 ومابعدها).ولكن: قد عودنا علماء الإسلام النابهين عند الحكم على مصطلح حمال أوجه ؛ كمصطلح (التسامح) أن نستفصل من مطلقه عما يريد به؟ فإن أراد حقًا أيدناه، وإن أراد باطلاً رددناه عليه وبينا مغالطته وتلاعبه بالألفاظ. لا سيما إذا كان مروج هذا المصطلح من غير المأمونين على دين المسلمين وأخلاقهم! ومن متابعي دعوات الغرب وأفكارهم.
ومصطلح (التسامح) هذا قد كان له وهج عند الغربيين في فترة من تاريخهم القريب الحافل بالصراعات الدينية بين طائفتي (الكاثوليك و البروتستانت) على وجه الخصوص.
ثم جاءت الدعوة إلى التسامح من بعض مفكريهم لإنقاذ المجتمع الغربي من هذا الصراع الذي راح ضحيته ألوف من الفريقين.
ويعنون بالتسامح الذي دعوا إليه: نشر العلمانية اللادينية، وتقبل ما يسمونه التعددية مهما كانت، وأن يُجعل الدين مجرد علاقة بين المرء وربه، لادخل لها بشئون الحياة.
وقد أجاد الدكتور عبدالرحمن بدوي في مقدمته الحافلة لرسالة (جون لوك) عن التسامح في تتبع نشأة هذه الفكرة بين المفكرين الغربيين، وأسبابها، وملخصها. (فليرجع إليها من يريد التوسع ص 7-61).
فإن كان للنصارى عذر في الدعوة إلى هذه الفكرة العلمانية التي تخلصهم من تسلط رجال الدين (المحرف) وطغيانهم، فما عذر بعض أبناء المسلمين من الكتاب والكاتبات عندما يتهافتون لترويج هذه الفكرة العَلمانية التي تعارض أحكام الإسلام خاتم الأديان الذي تكفل الله بحفظه، وجعله صالحًا مصلحًا لأتباعه إلى يوم الدين؟!
أقوال أهل الإسلام في مصطلح (التسامح):
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "التسامح موجود في الدين الإسلامي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة من الآية:178].
ليس التسامح خاصاً بما يُنشر عن دين المسيح عيسى ابن مريم، بل التسامح في الإسلام، لكن تسامح الإسلام تسامحٌ في حزم؛ أي أنه يُشرع التسامح في الموضع الذي يكون فيه التسامح خيراً.
أحياناً لا يكون التسامح خيراً، ولهذا قيد الله عز وجل العفو بالإصلاح فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ} [الشورى من الآية:40]؛ لأن العفو أحياناً لا يكون حميداً، أحياناً يكون العفو سبباً لتسلط الأشخاص واستمرارهم في شرورهم، وإذا أُخذوا بالحزم وعوقبوا بما تقتضيه جرائمهم من العقوبة، كان في هذا خير كثير وكف أذى، ولهذا يجب ألا نحكم العاطفة في العفو عن الجناة في كل حال، بل يجب أن يكون لدينا رأفة ورحمة، وأن يكون لدينا حزم وعزيمة وقوة.
ألم تسمعوا قول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّـهِ} [النور من الآية:2] فنهى الله تعالى عن الرأفة للزاني والزانية، مع أن الرأفة مطلوبة، ومن أسماء الله الرؤوف لكن الرأفة لها محل، والحزم والأخذ بالعقوبة له محل آخر". (اللقاء الشهري [11/7 ـ 8]).
وقال الشيـخ محـمد بن إسمـاعيل معلقاً على هذه الكلمة: "اعلم -أخي المسلم- أن بعض الناس يخلطون بين لفظة (التعصب) ولفظة (التسامح) خلطاً معيباً يؤدي إلى خلل في دينهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فإذا سمعك أحدهم مثلاً تقول: "لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني، لأنه لا يدخل الجنة"، اعتبر هذا تشدداً وتعصباً، وتشدق بأن رحمة الله واسعة، وَعدّ نفسه متمسكاً بسماحة الإسلام!!
ولكشف النقاب عن هذا الخلط نقول:
إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة، فالتعصب: أن تعامل الذميِّ اليهودي أو النصراني بحيف، وتبخسه حقه، والشرع يأبى ذلك ولا يرضاه، والتسامح: أن تعامله بالعدل والإنصاف، وتعاشره بالمجاملة والألطاف، وأن تحسن جيرته إن كان جاراً لك، وأن تصله إن كان من قرابتك، غير أنك لا تعطيه من زكاة مالك، ولا من زكاة فطرك، لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين، ولا بأس أيضاً بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه كقرض أو نحوه مما لا تعلق له بالدين، وشرط هذا كله أن لا يكون محارباً.
ومع هذا يجب عليك أن تعتقد اعتقاداً حازماً لا تردد فيه أنه على باطل، وأنه إن مات كافراً لا يجوز الترحم عليه ولا الدعاء له بالمغفرة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان من الآية:23] من الخير؛ كصدقة، وصلة رحم، وإغاثة ملهوف {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان من الآية:23]، لا ثواب له في الآخرة، وهذه الآية تفيد أنه لا يوجد منهم ولي أو قديس كما يقولون، لأن الولاية أو القداسة نتيجة العمل الصالح المقبول، وعملهم غير مقبول، لبطلان دينهم المخالف للإسلام {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. وقال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الإمام أحمد ومسلم)، فمن جوز وجود ولي منهم أو تبرك بأحد قديسيهم، فقد تخلى عن عقيدته ودينه، إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحاً كما ظن المخلطون الواهمون، لكنه تنازل عنها، يلزم منه الخروج من الدين، لأنه مبني على العقيدة، فإذا فُقِدت فُقِد، فينبغي عدم إقراره على كفره، وعدم الرضا به، وبغضه ببغض الله تعالى له، وعدم موالاته وموادته قال تعالى: {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران من الآية:28]، وعدم التشبه به، وعدم إنكاحه المؤمنة، وعدم بداءته بالسلام، وأن يضطره إلى أضيق الطريق فهذا كله من التمسك بالدين وليس من التعصب في شيء، والتفريط فيه ليس تسامحاً، ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى أعلم". (عودة الحجاب، [1/274]).
وقال الدكتور أحمد القاضي: "إن مفهوم التسامح الذي يتكئ عليه دعاة التقريب مفهوم فضفاض يتضمن حقاً وباطلاً، يحتم ضرورة الاستفصال عن المدلول المراد:
فإن أريد بالتسامح: العفو والصفح في المعاملة، بالتنازل عن بعض الحقوق الشخصية مالية أو معنوية، أو ما يحيله الشرع الإسلامي إلى اجتهاد ولاة أمور المسلمين في معاملة الحربيين من المنِّ أو الفداء، حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية، أو منح الذميين والمعاهدين والمستأمنين في المجتمع الإسلامي حقوقاً مدنية، وإذناً في البقاء على دينهم وعباداتهم، من غير إكراهٍ لهم على اعتناق الإسلام، فهو حقٌ جاء به الإسلام، وحفل به تاريخه، وفاق به جميع الأنظمة القديمة والحديثة، وقد شهد له بذلك الأعداء، فهو بهذا المدلول فضيلة خلقية، ومنهجٌ نبيل في العلاقات الدولية، والتنظيم الاجتماعي، لا يثلم عقيدة، ولا يهدر كرامة، ولا يضيع حقاً.
وإن كان التسامح يعني المداهنة، وإعطاء الدنية في الدين، وتسوية المسلمين بالمجرمين، وإدانة سبيل السابقين الأولين من المؤمنين، وإباحة جناب المجتمع المسلم لجحافل المنصرين والملحدين لإشاعة الفاحشة الفكرية والخلقية في الذين آمنوا، باسم (الحرية الدينية) و(التعددية الثقافية)، و(التنوع الحضاري)، وما شابهها في زخرف القول، بحجة تحسين صورة الإسلام والمسلمين في أذهان الغربيين، فما هذا بتسامح، بل خنوع واستخذاء، ونزع للباس التقوى.
يقول أحد دعاة التقريب: "إن التسامح يعد خطاً حضارياً يقضي بمنح الآخرين حرية التعبير عن الآراء والأفكار التي تغاير الآخرين، كما يسمح بالعيش وفقاً للمبادئ والمعتقدات التي لا ندين بها سوية، إن التسامح أصبح إذاً مسألة لا يمكن فصلها عن الحرية وحقوق الإنسان، إن التسامح يجب أن يشمل الجميع، وكل الأديان على وجه الأرض، إن العالم العربي مدعوٌ في المستقبل القريب إلى أن لا يواصل تجاهله لوجود عدة بلايين من البشر على وجه البسيطة، من الذين لا يدعون الانحدار من إبراهيم، ولا يعني ذلك أبداً أن حضاراتهم وأنماط تفكيرهم غير جديرة بالتقدير والاحترام، مثلما هو الشأن لحضارتنا ونمط تفكيرنا، بل يجب علينا إذاً نحن المسلمين أن نطبق على الآخرين ما نطالب به لأنفسنا".
هذا مؤدى مفهوم التسامح الذي ينادي به دعاة التقريب، يضفي عباءته الفضفاضة على كل مشركٍ وثني، فضلاً عن اليهودي والنصراني، ويمنحه التقدير والاحترام من جهة حضارته وعقيدته، ويتيح له أن يجهر بالسوء من القول!
إن الغرب الذي يخطب هؤلاء التقريبيون وده، لا يكف ليلَ نهار عن تشويه الإسلام في وسائل الإعلام والسخرية من أهله، ولا يعوزه للقيام بهذا الصد عن سبيل الله وجود تصرفات طائشة مرفوضة تتسم بالعنف والعدوان من بعض المنتسبين إلى الإسلام، كما لن يوقفه بالمقابل اطراح هؤلاء التقريبيين بين أيديهم في ضعة وانخذال، فتلك عقيدة راسخة، وطبيعة متأصلة في نفوسهم، منذ فجر الإسلام {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة من الآية:120]، {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة من الآية:145].
إن كل جريمة ترتكبها مجموعة دينية أو عرقية أو ثورية في أنحاء العالم، لا تنسب في لغة الإعلام الغربي إلى الدين الذي تنتمي إليه تلك المجموعة، أو حتى الفرد، إلا حين تصدر عن مسلمين، فيقال رأساً: (الإرهاب الإسلامي) و(الإرهابيون المسلمون)، ولا يقال لجرائم الصرب الفظيعة في البوسنة وكوسوفا (إرهاب أرثذوكسي)، ولا لعمليات الألوية الحمراء في إيطاليا (إرهاب كاثوليكي)، ولا لتفجيرات الجيش السري الإيرلندي (إرهاب بروتستانتي)، ولا لأعمال القمع التي يمارسها الجيش الإسرائيلي يومياً (إرهاب يهودي)، بل لا يقال لمجازر الهنود القوميين، وهدمهم لمساجد المسلمين (إرهاب هندوسي)، ولا لعمليات الجيش الأحمر الياباني (إرهاب بوذي). كما لا توصف حملات التشويه والتشهير الإعلامي ضد الإسلام في الغرب بالتطرف وعدم التسامح. ودعاة التقريب، بحكم ثقافاتهم الغربية غالباً، يدركون هذه الحقائق جيداً، فلا يزيدهم ذلك إلا تقرباً إلى الخصم الذي لا يمل من الابتزاز.
إن تحسين صورة الإسلام في أذهان الغربيين، والناس أجمعين، وإبراز محاسن الإسلام، لا يكون إلا بالتمسك به، والتأدب بآدابه، والدعوة إليه، ولا يكون أبداً بانتقاصه، واجتزائه، والتخلي عن شيء منه قرباناً إلى الكافرين، وموالاةً لهم من دون المؤمنين.
يقول الأستاذ سيد قطب: "إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الآيات، كما يخطئون فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي". (دعوة التقريب بين الأديان، [4/1525ـ1528]).
ويقول الدكتور محمد يحيى: "إن دعوى (التعددية) تخفي وراء مظهر التسامح والرحابة الفكرية البراق دعوةً عنصرية لفرض ثقافات وقيم وتوجهات الغرب على الثقافات الأخرى، وبالذات على الإسلام بوصفه ديناً وعقيدة وثقافة.
وبجانب ذلك: فإن دعوة (التعددية) تسوي بين جميع الأطراف الداخلة فيها، فلا يصبح هناك حق وباطل، أو جيد ورديء، أو أعلى و أدنى، بل الكل سواء طالما أنه دخل في سياق (التعددية)، فلا يوجد فرق بين بوذي، وهندوسي، وبهائي، وقادياني، ويهودي، ونصراني، وزرادشتي... ومسلم ؛ لأن الجميع أديان وعقائد داخلة في (التعددية)، فليس لأحد منها فضل على الآخر أو الحق في القول: بأنه دين الحق.
والمحصلة النهائية مرة أخرى هي علمنة الإسلام، أي: نزع القداسة والمنزلة الإلهية عنه، وتحويله إلى نِحلة بشرية الوضع تضاف إلى النّحَل البشرية الوضع أو (العلمانية)!".
ويقول أيضًا: "تفاخر العلمانية الأوروبية ويتباهى معها وكلاؤها المحليون في البلاد الإسلامية بأن أعظم إنجازاتها كانت في إحلال روح التسامح الديني محل التعصب الذي رمزوا له بمحاكم التفتيش المشهورة في التاريخ، التي لا يذكر أحد في العادة أن الكثير من ضحاياها كانوا من مسلمي الأندلس المقهورة قبل أن يكونوا من النصارى أنفسهم، وأياً كانت الحال فقد أقام العلمانيون وعلى مدى ما يقارب العقد من السنين في بلادنا المسلمة محاكم تفتيش خاصة بهم نصبوها على صفحات الجرائد، والمجلات وموجات الأثير ومنابر الثقافة التي سلمت لهم، بل وجُعلت حكراً خاصاً بهم".
ويقول أيضًا في مقال بعنوان (خطاب السماحة):
"أصبحت الساحة الفكرية الإسلامية في بعض البلاد العربية حكراً على أنواع محددة وضيقة النطاق من الخطاب ؛ تمليها اعتبارات السياسة، والتوجيه من أعلى ؛ خدمةً لمصالح وتوجهات لا علاقة لها بالإسلام بل على العكس: لها أوثق صلة بالتيارات العلمانية أو اللادينية. ومن أنواع الخطاب هذه ما يمكن أن نسميه بخطاب (السماحة) أو (التسامح)، الذي اكتسب مكانة احتكارية في لغة الحديث والفكر الرسمي لأرباب ما يسمى بالمؤسسات الدينية في بلد مركزي مثل مصر ؛ التي أقصر هذه الملاحظات عليها. ووفق هذا النوع من الخطاب نسمع دائماً مجموعة من العبارات والتوصيفات تتكرر من طراز: (الإسلام دين السماحة)، أو (سماحة الإسلام)، أو (الإسلام شريعة التسامح) وأشباهها. ويقترن بالإلحاح المتكرر (والممل) على أمثال هذه التوصيفات قصر الحديث في الموضوعات الإسلامية الفكرية أو الشرعية أو العقدية على المادة التي تفيد هذا التسامح أو توظف للدلالة عليها، كما تلوي أعناق الخطب والعظات والمناسبات الإسلامية بتعسف واضح لكي يقتصر مغزاها ومعناها ومداها على إثبات هذا التسامح وفق المفهوم الذي يراه دعاة هذا الخطاب.
ويثير خطاب السماحة بهذا المعنى مشكلة أولية عندما يصبح هو الخطاب الوحيد أو الرئيس الذي يشغل الساحة الإسلامية، ويُفرض على جمهور المسلمين. وهذه المشكلة هي ضياع سعة نطاق الفكر الإسلامي وثرائه وغناه، والشعور بالنفور وعدم التصديق الذي ينتاب السامع لهذا الخطاب ؛ عندما يجد أن الإسلام كله قد اختزل في مفهوم واحد، وأنه مفهوم قفز فجأة إلى السطح، وفُرض فرضاً بفعل الظرف السياسي المشغول هو الآخر بهمٍّ وحيد ألا وهو مكافحة ما يسمى تارة بالإرهاب وتارة بالتطرف.
والوضع الاحتكاري لخطاب السماحة هذا يؤدي في الواقع إلى إلغاءٍ للإسلام على مستويين: أولهما: هو مستوى الدعوة والفكر كما أسلفت، عندما لا يعود هناك ما يقال للجماهير المسلمة في المنابر ووسائل الإعلام سوى كلمة واحدة هي أن
الإسلام دين التسامح، وتختزل كل عقيدته وشريعته وتعاليمه في هذا الوصف المبهم الغامض. أما المستوى الآخر والأكثر خطورة فهو أن التسامح أو السماحة وفق المفهوم الذي يروّج له يعني في حقيقة الأمر إلغاء الدين الإسلامي نفسه ؛ من فرط
الحرص على ما يوصف بأنه حساسيات ومشاعر الآخرين (غير المسلمين)، ويقودنا هذا إلى البحث بشكل أكثر عمقاً في محتوى هذا المفهوم كما ينشره القائلون به ضمناً وصراحة.
إن الذين يروّجون لخطاب السماحة كما أسميه ويختزلون الإسلام على سعته ؛ لا يقصدون أبداً ما يترامى إلى الذهن المسلم في معان تقترن بهذا المفهوم كما تعلمها من تعاليم دينه ؛ فليس المقصود سلوكاً شخصياً من اللين والرقة والسهولة في
التعاملات، والبعد عن الخشونة والجلافة، وليس المقصود البعد عن اللدد في الخصومة والتشفي والملاهاة والجدل والرفث، وليس المقصود الحلم والأناة والصبر الجميل وحسن السياسة والكياسة في العلاقات، وليس المقصود سعة الصدر وسعة الرأي والجدل بالتي هي أحسن ورحابة الذهن في الفهم.
في الجملة: ليس المقصود سلوكاً وقيماً ومشاعر وتوجهات شخصية يتسم بها المسلمون في تعاملاتهم الاجتماعية على تنوعها من تجارية أو فكرية أو غير ذلك ؛ بل المقصود حسبما نقرأ ونستدل هو مسلك يراد له أن يسود على صعيد العقيدة
والشريعة وأحكامها، وعلى صعيد العلاقات بالذات مع غير المسلمين وليس في علاقات المسلمين بعضهم مع بعض. ومفهوم السماحة والتسامح كما يروّج له هذا الخطاب الاحتكاري المغرض يعني ببساطة: أن يتساهل المسلمون في الطرح العقدي والتشريعي ويخفّضون منه، أو حتى يخفونه في علاقاتهم مع العقائد والأديان الأخرى، والدول والهيئات والتيارات العالمية التي تمثلها ؛ وذلك بحجة مزعومة هي الحفاظ على السلام والوئام الدولي. فالتسامح والسماحة كما يرى أولئك هو ألا يجعل المسلم من عقيدته وشريعته بتعاليمها وأحكامها حاجزاً يعوقه عما يسمى بالتعاون الدولي، مع عقائد وأديان أخرى حتى وإن كان ممثلو هذه العقائد أفراداً وجماعات يمارسون الاحتلال والاستيطان والتبشير والتنصير والقتل والتنكيل بالمسلمين!
والسماحة لديهم هي ألا يطرح المسلمون عقيدتهم التوحيدية في وجه عقائد غيرهم الشركية أو المنحرفة ؛ حتى ولو كان هذا الطرح لا لشيء إلا ليحفظوا أبناءهم من زيغ تلك العقائد وهي تُروّج بينهم ليل نهار بكل أدوات الاتصال من التعامل الشخصي، إلى البث على الأقمار الصناعية والإنترنت. والتسامح في نظرهم هو أن ينحّي المسلمون عقيدتهم وشريعتهم جانباً، أو يبعدوهما تماماً في تعاملاتهم مع غير المسلمين من شتى الأطراف الدولية ؛ فهذا هو التحضر والمسلك التعاوني حتى ولو كان هؤلاء من غير المسلمين لا يتعاملون مع المسلمين إلا من منطلق عقيدتهم وتعاليمهم هم سواءً أكانت دينية أم دنيوية.
وغني عن البيان أن هذا المفهوم للسماحة أو التسامح الذي يُفرض فرضاً على الساحة الفكرية الإسلامية إلى حد احتكارها، لا ينطلق من حرص على دين أو عقيدة أو حتى تعاون مزعوم مع غير المسلمين ؛ بل هو نتاج وضع معروف من أوضاع التبعية للغرب تحرص فيه النخب العلمانية صاحبة السلطة والنفوذ على أن تُرضي الأسياد في الغرب من يهود ونصارى وملحدين ؛ بأن تضمن لهم أن الإسلام الذي يخافون منه سيظل أسيراً مقيداً لا يطاولهم في مجال العقيدة، ولا يصاولهم في مجال بناء الحضارة والوصول إلى القلوب والعقول. ومفهوم التسامح والسماحة بهذا المعنى الخاص الذي يُروّج به من خلال بعض الدوائر المشبوهة يصبح مفهوماً غير حضاري أو إنساني ؛ بل مجرد أداة لقمع الفكر والطرح الإسلامي وكبته وتكبيله عن أن ينطلق ويسري، بحجة غريبة هي أن طرح هذا الفكر والعقيدة والتمسك والاعتزاز بهما ينافي فكرة السلام العالمي والتعاون الدولي رغم أن غير المسلمين على اختلاف نحلهم لا ينطلقون في تعاملاتهم الدولية إلا من هذا السياق العقدي الخاص بهم.
وليس أدل على ما نقول به من انحراف هذا المفهوم وشذوذه من أن الذين يروّجون له يطبقونه على من يشاؤون ولا يطبقونه على المسلمين، وكأن سماحة الإسلام قصد بها أن تسري على الكفار ولا تسري على المؤمنين، وإذا قرأنا الصحف وتابعنا الإعلام فسنجد أن دعاة السماحة يستقبلون حاخامات إسرائيل وكنسيي الأمريكان ؛ لكنهم عندما يختلفون مع علماء يفترض أنهم زملاء بل وأساتذة لهم يركبهم اللدد في الخصومة ويشردون بهم بين قاعات المحاكم وعسف الأجهزة الإدارية والأمنية.
ويقف كبير دعاة التسامح ليدافع عن أستاذ جامعي أنكر وحي القرآن ليقول عنه إنه مجتهد قد يصيب وقد يخطئ ؛ لكنه في الوقت نفسه يستغل منصبه المسيطر على المساجد ليفصل ويُوقِف الأئمة الفضلاء، واصفاً إياهم بالإرهاب والتطرف، لا لشيء سوى أنهم راجعوه في بعض مواقفه التي فاحت منها رائحة التحلل من الدين مثل إغلاق المساجد، وتحويل الخطب والمواعظ بالأمر إلى ترويج أفكار العلمانيين.
ولو استعرضنا التعبير المشهور الذي راج في بعض الأوساط (الثورية) لقلنا: إن لسان حال خطاب التسامح يعلن أن (السماحة كل السماحة لأعداء الإسلام والغرب ولا سماحة للمسلمين)، والتسامح مع حاخامات الصهاينة وقساوسة الشرق والغرب بل حتى جزاري الصرب؛ أما شباب الإسلام ودعاته فليس لهم إلا السجن والقتل والمنع والحظر!
إن السماحة أو التسامح من القيم الإسلامية بل والإنسانية، وقبل كل شيء يجب ألاّ يتحول الإسلام أو يُختزل في كلمات مبهمة تُروّج ؛ لا من باب نشر الفكرة الإسلامية (على تهافت هذه الطريقة) ؛ وإنما لكي ترضى عن الإسلام جهات علمانية هي بطبعها لن ترضى عن المسلمين إلا إذا اتبعوا ملتها". (مجلة البيان، الأعداد بالترتيب: 100، 116، 134).
- التصنيف:
- المصدر: