الطفلة وسن العراقية ... بأي ذنب قتلت ؟؟
مفكرة الإسلام: تمكن مراسل "مفكرة الإسلام" في مدينة هيت ـ الواقعة
على بعد 180 كيلو مترًا غرب العاصمة العراقية بغداد ـ من زيارة منزل
الشهيدة "وسن عبد العزيز" ذات الستة الأعوام، والتي قتلها قناصة
الاحتلال يوم الأربعاء الماضي لدى ذهابها إلى مدرسة "براعم الإيمان"
في هيت لغرض استلام كتبها الجديدة للصف الأول الابتدائي.
وفي منزلها الواقع في منطقة قلعة هيت الأثرية ـ التي بنيت في العصر
العباسي الأول ـ، كنا نبحث عن والدها عبد العزيز حتى يفتح باب الدار
لنا وإجراء حوار معه حول قصة استشهاد صغيرته، وكان أكثر شيء يقلقنا هو
كيفية فتح الحديث معه، في وقت يشعر كل إنسان بحزن وبكاء جارف على
صغيرته المفقودة.
والحقيقة أن الأفكار كانت كثيرة والأسئلة أكثر، اقتربنا من البيت
وتغير إحساسنا، لم يعد شعورنا كما هو قبل دقائق، منزل قديم يظهر عليه
أثر الأحزان والآلام هكذا تَبَدّى لنا، وكان السكون يخيم على البيت
فلا تسمع شيئًا يصدر منه، الباب قديم، طرقنا عليه بلطف فظهر صوت امرأة
من خلف الباب يعلوه حشرجة وحزن: من الطارق؟
فقلنا: نحن أخوة لكم، نعمل صحافيين في "مفكرة الإسلام" نريد أن نجري
حوارًا مع والد "وسن عبد العزيز" بخصوص استشهاد ابنته "وسن"، فأجابت:
ليس في البيت رجل؟
فقلنا: نأتي بعد العصر إذا قدم أبو وسن؟ فسكتت المسكينة دقيقة ثم
تكلمت بصوت باك أحسسنا من خلاله أن هناك مأساة كبيرة في هذا البيت
ولكن لم نفهم شيئًا.
جلسنا بضع دقائق عند الباب فإذا بصوت امرأة كبيرة.
وبعد أقل من دقيقة فتحت الباب ببطء امرأة كبيرة في السن، علمنا بعد
ذلك أنها الحاجة وفيقة جدة وسن، ونِعم الجدة كانت فقد رحبت بنا أشد
ترحيب حتى خجلنا منها، ووضح من حديثها بعد ذلك أن لديها شيئًا من
العلم والثقافة وكما نسميها ثقافة البسطاء، وجلسنا في حديقة المنزل
وهي كانت على بعد بضع أمتار منا.
قلنا لها: إننا لا نريد شغلها، فقد كان من الممكن أن نأتي في وقت آخر
لحين قدوم والد وسن، ويا ليتنا لم نقل هذا. فقد حركنا جرحًا لها لم
يندمل بعد، لقد كانت هذه العجوز هي أم عبد العزيز، طأطأت رأسها بالأرض
وكأنها تستعيد روحها التي فقدتها، ثم أخذت نفسًا عميقًا
وقالت: إن عبد العزيز غير موجود .
قلنا: نعلم، قالت: يا بني إن ابني عبد العزيز غير موجود على الدنيا
لقد فقدته قبل عام، ولكني فقدته غير نادمة على ذلك، لقد ذهبت روحه إلى
ربه وأسأل الله أن يكون عليها راضٍ غير غضبان، ابني بطل ليس كالرجال،
والد وسن استشهد قبل عام في معركة كبيرة يعرفها أهل هيت مع الأمريكان،
صحيح بكيت عليه لأني أم، لكنه إن شاء الله في الطريق الذي يحبه الله،
ثم لم أكد أن ترجع إلي روحي بعد حزن عميق عليه حتى استشهد أخوه عبد
الكريم بعد شهرين في معركة القائم، وهما والداي الوحيدان في هذه
الدنيا، مثلما لي عينان كنت أرى بهما ولم يبق لي في هذه الدنيا إلا
ثلاث زوجة عبد الكريم، وأم وسن و ... و ... ثم سكتت وأخذت في بكاء
عميق، فأصابنا ما أصابها من حزن، ثم أكملت وكانت "وسن" معنا، ولكن
يعلم الله أن "وسن" لم تكن مثل الناس فقد أزاحت عنا كثيرًا من الحزن
يا ولدي، مرة تقول: احملوني، ومرة تقول: أعطوني، كنا لها كل شيء وهي
كذلك مثلنا، وكانت "وسن" تملأ علينا الدار بمرحها وشقاوتها التي
تنسينا في بعض الأحيان مصيبتنا، لقد كانت نبيهة، فأبوها مات وعمرها
خمس سنوات إلا أنها كانت تبكي عليه بكاء شديدًا، وكانت تجلس على عتبة
الباب على عادتها في انتظاره. والحمد لله على كل حال.
منذ فترة يا ولدي وهي تحب المدرسة وتفرح إذا رأت البنات يمرون على
نافذة دارنا أثناء ذهابهن أو قدومهن من المدرسة، وتبدأ تناديهن وتصرخ
بهم حتى ينتبهن لها، وعند قرب بداية المدرسة في يوم الاثنين الماضي
خرجت معها إلى السوق، وهي من شدة فرحها تسير مرة من أمامي ومرة من
خلفي، وكنت أقبض على يدها بقوة حتى لا تفلت مني، واشتريت لها ملابس
المدرسة وحذاءً جميلاً وأشرطة بيضاء للشعر، واشتريت لها حقيبة للكتب
وكل تلك الأشياء التي اشتريتها لم أدفع ثمنها فأصحاب المحلات تلك هم
من أصدقاء الشهيدين عبد العزيز وعبد الكريم رحمهما الله، وكانوا يحبون
وسن كثيرًا، كابنة لهم وأكثر، ورفضوا أخذ أي مال مقابلها، وكانوا في
المحلة يطلقون عليها بنت الشهيد، والقليل من كان يسميها باسمها، أصرت
وسن على حمل أغراضها بيدها لشدة فرحها فقد رأيتها وهي تقبل حقيبتها
وثوبها من فرحها بهم ـ الحمد لله على كل حال ـ سارت بين يدي في أجمل
مشية وضحكة عرفتها في حياتي. يا ولدي لا تلمني في وصفي، لقد كانت كل
شيء بالنسبة إلي فهي رائحة الشهيد وقد انقطعت رائحته الآن بعد موتها ـ
تقولها وقد غص حلقها بالعبرات - .
هي وحيدتنا في البيت وزهرة حياتنا؛ فلهذا لا تستغرب إذا قلت لك إني
وأمها وزوجة ابني كدنا أن نختلف على من يجهز أغراضها المدرسية، ولكن
الحمد لله اشتركنا كلنا في تلك العملية.
ووالله كنا فرحين بها فرحًا عظيمًا، وكنا نفرح بشكلها إذا لبست اللباس
المدرسي، فنطلب منها أن تلبسه بعض الأحيان لأنه كان عليها
جميلاً.
في يوم الثلاثاء أخذتها إلى مدير المدرسة حيث كان منزله في نهاية
الحي، وأوصيته ببنت الشهيد خيرًا، فتعهد بحمايتها ورعايتها، خرجنا من
بيته ووسن تسأل أسئلة كثيرة عنه كعادة الأطفال، وصلنا للبيت وكانت
ليلة مشهودة لـ"وسن" حيث والله لم ننم أنا أو أمها في الليلة التي
سبقت استشهادها، حيث كنا فرحين ننتظر طلوع الصبح لنراها بملابس
المدرسة وهي تخرج، خاصة وأنها كانت تحلم بذلك وتحدثنا وكأنه تدرس من
سنوات من شدة تعلقها بالمدرسة، قد تستغرب إذا قلت لك إنها تلك الليلة
تبتسم وهي نائمة كل ساعة، وكأني بها ترى في المنام وهي مع الصغيرات
مثلها، تتابعت أنا وأمها على تقبيلها عدة مرات كلما تبسمت وكأنه تقبيل
المودع، ولم نكن نعلم أنها كذلك، ولكني أظن أنه إحساس الأم، والمثل
يقول: "إحساس الأم ما يخم" وتعني بذلك أنه لا يذهب سدى.
ثم تكمل الجدة حديثها لمراسل "مفكرة الإسلام" وفي يوم الأربعاء ـ وهو
يوم استشهادها ـ استيقظت ليست على عادتها فقد نهضت نشيطة من فراشها
وأيقظتنا نحن الثلاثة، وكانت المفاجأة السارة في تلك اللحظة، أنا
وجدناها قد جهزت نفسها ورتبت، كانت ـ الله يجعلها في الجنة ـ كالعروس
الصغيرة، وعندما خرجت من البيت لكي أوصلها للمدرسة رفضت، فهي بنت
الشهيد وليست مثل بقية البنات جبانة تخاف المدرسة، ثم قالت وهي
متضايقة ـ رحمة الله عليها ـ كلمات مازلت أحفظها: "يا جدتي كل البنات
يمشون وما في أحد معاهم خليني آني أروح صرت قريبة من المدرسة، وأنت يا
جدة تمشين على كيفك بطيئة"، وبالفعل بعد إلحاحها تركتها تذهب وحدها
وعدت أدراجي وأعلم أنها ستعود قريبًا حيث إن الدوام لم يبدأ بعد في
المدارس، ولكن المدير طلب أن يأتي الطلاب لكي يستلموا الكتب الجديدة،
والله يا ولدي جلسنا نحن الثلاث الأرامل نتحدث ونتضاحك وكلنا شوق عن
حال وسن في المدرسة وحدثتني نفسي أن أسبق أم وسن لاحتضان الصغيرة إذا
دخلت الباب من شدة حبي لها فهي بقية ولدي عبد العزيز، استمر حديثنا
ساعة وبعد هذه الساعة سمعت صوت المؤذن ـ الحاج صبري ـ يقول في سماعة
الجامع: على ذوي الطفلة وسن عبد العزيز "بنت الشهيد" الحضور إلى
الجامع فورًا، فزعنا نحن جميعًا، وكأن والله قلوبنا قد توقفت، فتحنا
الباب وكل واحدة منا تعدو إلى الجامع ووجدنا الناس متجمعين دائرة
كبيرة ويبكون ويحتسبون عند الله، عند ذلك صار عندنا يقين أن وسن لم
تعد بيننا، ولكنه والله يا ولدي كنا نمني أنفسنا أن وسن حية ولم يصبها
شيء، فتقدمنا وأقدامنا لا تحمل أجسامنا فوجدنا الحبيبة بنت الحبيب
"وسن" وسطهم ممددة ـ وهنا تبكي الحاجة وفيقة بكاء مرًا تطلب التوقف
مدة خمس دقائق تقريبًا حتى تواصل حديثها ـ.
وفي هذه الأثناء وسط صمت مطبق منا وبكاء حار منها، كنا نشاهد جدران
المنزل ولاحظنا كتابات ورسومًا للصغيرة الأميرة "وسن"، أجهشنا نحن
بالبكاء ونحن نرى بقايا أحلام الطفولة، فقد رسمت الأميرة الصغيرة صورة
دبابة أمريكية مدمرة، وطائرة تقصف منازل، كما رسمت صورة لأبيها عبد
العزيز وهو يحمل الرشاش، وكتبت حولها بكتابة ضعيفة وخط غير واضح ـ
نظرًا لعدم إلمامها الدقيق بالكتابة ـ "رب ارحم باب عزز" وتعني بها:
يا رب ارحم بابا عبد العزيز، حسبما فهمنا من جدتها، ثم تواصل بعد ذلك
الحاجة الصابرة بقوله: وجدنا الناس متجمعين فنسيت أني امرأة ولكني
تذكرت أني أم حيث دفعت بيدي جموع الواقفين، وإذا بوسن ممدة على الأرض
يملئ صدرها الدم، والتراب على وجهها المبارك، وقد تحولت أشرطة شعرها
البيضاء التي اشترتها قبل يومين إلى لون أحمر، يالله يالله كيف لم
أفقد عقلي تلك اللحظة، وقربت منها أكثر فشاهدت الدم قد يبس على رقبتها
ووجهها.
ماتت رحمها الله بعد إصابتها برصاصتين في صدرها، الأولى استقرت في
قلبها، والثانية في الرئة اليمنى بعد أن أطلق عليها قناص كافر نجس من
أولاد الحرام طلقتين في صدرها قبل أن تدخل إلى المدرسة على مسافة 50
مترًا تقريبًا، وبقيت ممدة على الأرض نصف ساعة وهي ميتة يداعب الهواء
شعرها الذي اختلط بتراب الشارع ودماء جسدها الطاهر، احتضنتها على صدري
وتمنيت أني مكانها، ولن أنسى تلك الضمة ما بقيت فيّ روح، أما أمها فقد
قتلوا الملاعين قلبها، ولو كانت ستتحمل الكلام لتحدثت، ولكني أخشى
عليها فمصيبتها كبيرة، حملنا نحن الثلاث ذلك الجسد الصغير، ولا تعتب
علي يا ولدي فقد حملنا كل شيء لنا في هذه الدنيا في ذلك الجسد، دفنت
"وسن" المعروفة باسم بنت الشهيد في مقبرة الشهداء بجوار الشهداء أبيها
وعمها، ذهبت إلى ربها تشكو ظلمًا مسّها وذنبًا لم تقترفه سوى أنها
كانت من أهل السنة المستباحة دماؤهم في العراق.
- التصنيف:
حروف الحزن
منذsabiha
منذSalih Albarmawi
منذرشيدة بنت علي
منذام عمر
منذرفل ثائر
منذابوالشهيد
منذمحمد عبد السلام
منذjasmine
منذسجين
منذ