الطريق المُبِين في دعوة غير المسلمين
لا يَخْفَى على مَنْ أُوتِيَ حَظّاً من النَّظَر فيما تَفَتَّقَتْ عنه أَذْهان رؤوس أعداء الله تعالى -فَتَقَ اللهُ قلوبَهم- على اختلاف مِلَلِهم من نَقْد للإسلام، وما جادَتْ به قَرائِحُ أَحْبارِهم ومُفَكِّرِيْهم -قَرَّحَ اللهُ أَكْبادَهم- من رُدود على عُلَمائه، أن أولئك المُبْطِلِيْن يَعْمَدُون دائماً إلى الحَيْدَة عن المُجادَلَة حول أكبر القَضايا التي نُخالِفُهم فيها...
- التصنيفات: دعوة غير المسلمين -
الحمد لله الذي أَنْزَل الفُرْقان بين الحَقِّ والباطِل، وأقام على تَوْحِيْده أَعْظَم الدَّلائل، والصلاة والسلام على نَبِيِّه محمد الذي أَرْسَله بالحُجَج البالِغَة، والبَراهِيْن الدَّامِغة، والآيات القاطِعة، وبعد؛
المُبْطِلون يَعْمَدُون إلى الحَيْدَة خَوْفاً من ضَعْف حُجَّتِهم:
لا يَخْفَى على مَنْ أُوتِيَ حَظّاً من النَّظَر فيما تَفَتَّقَتْ عنه أَذْهان رؤوس أعداء الله تعالى -فَتَقَ اللهُ قلوبَهم- على اختلاف مِلَلِهم من نَقْد للإسلام، وما جادَتْ به قَرائِحُ أَحْبارِهم ومُفَكِّرِيْهم -قَرَّحَ اللهُ أَكْبادَهم- من رُدود على عُلَمائه، أن أولئك المُبْطِلِيْن يَعْمَدُون دائماً إلى الحَيْدَة عن المُجادَلَة حول أكبر القَضايا التي نُخالِفُهم فيها، ويَتَحاشَوْن المُحاوَرَة في شَأْنها قَدْر اسْتَطاعَتِهم، ويَلْجَؤون إلى طَرْق موضوعات أخرى إنما يَتَفَرَّع الحديثُ عنها من القَضِيَّة الأُمِّ، ويُلِحُّون على إشْغال عُلماء المسلمين، وطَلَبَة العِلْم فيهم؛ بالرَّدِّ على ما يُثِيْرُونه من شُبهات حول تلك الموضوعات، وما يَطْرَحُونه من إشْكالاتٍ تَتَعَلَّق بها.
والعِلَّة من تلك الحَيْدة واضِحة؛ فهم يَعْجَزون عن مُقارَعة أهل الحَقِّ بالحُجَج، ويَفْتَقِرون إلى أَساليب مُلْتَوِيَة يُخْفُون بها ذلك العَجْز، ويَضْطَّرُّون إلى طَرائَق خَفِيَّة يُمَوِّهُون بها فِرارَهم من ظُهُوره على مَلَأٍ من الناس.
انْشِغال بعض العلماء وطَلَبَة العلم برَدِّ الشُّبُهات عن إبْراز مَحاسِن التَّوْحِيْد:
فكان من ثَمَرة جُهودهم الخَبِيْثة تلك: أن حَصَّلُوا بعضَ مُرادِهم، وأَنْجَحُوا بعضَ حَوائِجِهم، فانْشَغَلَتْ طَوائفُ من علماء الإسلام، وطَلَبَتِهم في دَحْضِ ما يُلْقِيْه المُبْطِلون من إفْك، وفَضْحِ ما يَنْسِجُوْنَه من افْتِراء؛ عن تَسْلِيْط الأَضْواء على أَحْسَن مَحاسِن الإسلام، وأَفْضَل فَضائِل شَرِيْعَته المُطَهَّرة؛ ألا وهو توحيد الله تعالى الذي فُطِرَت نُفُوس البَشَر عليه، في مُقابِل ما تَتَّصِفُ به الدِّيانات الأخرى من عِبادة لمِخْلوقات لا تِمْلِك لنَفْسِها -فَضْلاً عن غيرها- نَفْعاً ولا ضَرّاً، سواءً عَبَدوها مع الله عز وجل أو من دونه، اتَّخَذوا منها الكثير من المَعْبودات، أو القليل.
الطَّرِيْقَة المُثْلَى في دَعْوَة غير المسلمين:
إن الطريق الأَمْثَل في دَعْوة غير المسلمين إنما يَتَمَثَّل في إبْراز مَحاسِن التوحيد، ومُوافَقته للفِطْرة البَشَرَيَّة السَّلِيْمة، وكَشْف مَساوئ الشِّرْك، ومُصادَمَته لما جَبَلَ اللهُ تعالى عليه النُّفوس السَّوِيَّة، ثم في إظْهار ما أَيَّد اللهُ تعالى به نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم من المُعْجِزات الباهِرة، وما أَكْرَمَه به من الآيات القاطِعة على صِحَّة نُبُوَّتِه صلى الله عليه وسلم.
ويَدْخُل في الباب الأخير: بَيانُ ما اجْتَمَع له صلى الله عليه وسلم مما لم يَجْتَمِع لغيره من البَشَر من كريم الخِصال، وإيضاح ما اشْتَمَل عليه صلى الله عليه وسلم مما لم يَشْتَمِل نَبِيٌ سواه على نَظِيْره مَجْمُوعاً من حِسان الشَّمائِل.
الهُجوم خَيْرُ وَسِيْلَة للدِّفاع:
إن السَّبِيْل الأَقْوَم لمواجَهة هَجَمات المُغْرِضِيْن لا يكون بمُداوَمة الرَّدِّ على الشُّبُهات، ومُلازَمة الدَّحْض للمُفْتَرَيات؛ فالهجوم خَيْرُ وَسائل الدِّفاع وأَنْجَعُها، والتَّبْشِيْر بدَعْوَة الله تعالى الحَقَّة أقوى الطُّرُق لصَدِّ جَحافِل المُبَشِّرِيْن بالأَدْيان الباطِلة، والمِلَل المُفْتَراة.
إن حامِلَ الدَّعْوَة القَوِيْمَة لا يُسْلِمُ قِيادَ الحِوار لمُسْتَقْبِلِي الدَّعْوَة -لاسِيَّما إن كانوا من حَمَلَة الدَّعَوات الباطِلة أو المُنْساقِيْن وراءَهم من عَوامِّ مِلَّتِهم- يَجُرُّوْنَه إلى أَوْدِيَة، ويَسْحَبُوْنَه إلى شِعاب، ويأخذونه ذات اليمين، وذات الشمال، فلا يكاد يُفِيْق من رَدِّ شُبْهة حتى يُثِيْروا شُبُهات، وكلما أَطْفَأ ناراً أَوْقَدوها في مَوْضِع، أَلْفاهم قد أَشْعَلوا عَشَرات غيرها في مواضع أُخَر.
إنه يُمْسِك بزِمام المُبادَرَة، ويأخذ بناصِية الجِدال، ويَقُود وِجْهَة المُناظَرَة؛ ليُسْمِعَهم ما يَجِب عليهم أن يَسْمَعوه، ويُفْهِمَهم ما يَلْزَمُه إفْهامَهم إيَّاه، ولو تَرَك لهم الزِّمام، وأَلْقَى لهم الخِطام؛ لما أَفْسَحُوا له المَجال لإقامة الحُجَّة، ولا أَمْهَلُوه حتى يُوْقِفَهم على المَحَجَّة، وإن أَذِن لهم في التَّوْجِيْه، أو سَمَح لهم بالإدارة والقيادة؛ لما شَبِع نَهَمُهم في التَّشْغِيْب، ولا انْسَدَّت شَهِيَتُهم عن مُداوَمَة اخْتِلاق الإشْكالات.
عدم الالتفات إلى التَّشْغِيْب:
لقد أَعْرَض كَلِيْمُ الله تعالى موسى عليه السلام عن تَشْغِيْب فرعون الخارج عن موضوع الحوار، والْتَزَم الحديث عن الرسالة التي كَلَّفَه اللهُ تعالى بإبْلاغِها، ولم يَنْسَق إلى محاولة الطَّاغِية الحَيْدَة عن ذلك؛ لعَجْزه عن مُقارَعة البَراهِيْن الصَّادِقة، والأَدِلَّة الواضِحة، مما أَلْجَأه إلى السَّخْرِية من نَبِيِّ الله موسى عليه السلام، ورَمْيِه بالجُنون، عسى أن يَنْجَح في إشْغال موسى عليه السلام بدَفْع تُهْمَة الجُنُون عن المُضِيِّ في إقامة الحُجَج البالِغة على وجوب عبادة الله تعالى وحده، والدَّلائل القاطِعة على بُطْلان صَرْف شيء منها للمَخْلوقين المَرْبُوبِيْن؛ وما أَلْجَأه إلى ذلك إلا خَوْفُه من انْقِياد قلوب الأَتْباع لما يُلْقَى عليهم من الحَقِّ الصُّراح، وخَشْيَتُه من إذْعان عُقولهم لنِداءات الفِطْرة، ودَعَوات التَّحَرُّر من رِبْقَة العُبُودِيَّة للطَّواغِيْت.
قال الله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ . قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ . وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء:23-33].
إقامة بَراهِيْن الحَقِّ يُهَوِّن أَمْرَ الشُّبُهات:
إن انْشِراح النَّفْس البَشَرِيَّة لمَعْرِفة الحَقِّ، وما يَعْقُب ذلك من انْفِساحِها لقَبُوله[1]؛ كَفِيْلٌ بتَيْسِيْر دَحْضِها لما يَنْزِل بسَاحَتها من شُبُهات، وتَسْهِيْل رَدِّها لما يَعْرِض لخاطِرها من إشْكالات.
فمَنْ عَرَف صِحَّة دَعْوة الإسلام إلى توحيد الله تعالى بالحُجَج، والبَراهين، وثَبَتَتْ له نُبُوَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم بالدَّلائل، والآيات، وخَلا من مَوانِع اتِّباع الحَقِّ؛ أَذْعَن لقَبُول الإسلام، وأَيْقَن بصِدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجَزَم أن القرآن هو كلام الله تعالى، فلا يَعْسُر عليه قَبُول ما يُزِيْل الإشْكال الذي يَنْزِل به، ولا يَتَعَذَّر عليه الاسْتِرْواح إلى ما يَدْفَع الشَّبْهة التي تَعْرِض له، بخلاف غيره ممن لا زال يَقِف من الرُّدود على الشُّبُهات مَوْقِف المُرْتاب، وينظر إلى حَلِّ المُشْكِلات نَظْرَة الشَّاكّ؛ لافْتِقاره إلى ما امْتَنَّ اللهُ تعالى به على مُنْشَرِحِي الصَّدْر، ومُنْفَسِحِي القَلْب.
وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ *** يَجِدْ مُرّاً بِهِ الْمَاءَ الزُّلالا
أهمية رَدِّ الشُّبُهات كوَسِيْلة مُساعِدة:
وليس المُراد مما ذَكَرْنا تَهْوِيْن أَمْر الشُّبُهات، ولا التَّقْلِيْل من دَوْر المُتَصَدِّيْن لها، ولا تَنْفِيْر الناس عن الوقوف على هذا الثَّغْر العَظيم، بل تَوْجِيْه الأَنْظار إلى الانْشغال بالأَوْلَى -وقد بَيَّنَّاه- والحَذَر من عدم إحْكام القَبْضَة على وِجْهَة الحوار، وما يَنْتُج عن ذلك من تَشَعُّب الجُهُود في دَحْض ما يُثار من شُبُهات، وتَشَتُّت الأَفْكار في رَدِّ ما يُطْرَح من إشْكالات، والتَّوْكِيْد على حَمِيْد أَثَر الانْشِغال آنِف الذِّكْر في تَخْفِيْف وَطْأة ما يُثار، وتَهْوين حِدَّة ما يُطْرَح، بل تَقْلِيْص مَوْجات المُثار، وتَحْجِيْم هَجَمات المَطْرُوح.
ولا يُنْكَرُ حَتْمِيَّة مُجابَهَة سُيُول الشَّبُهات بحُشُود الرُّدُود، ولا يُجادَلُ في فَرْضِيَّة مُكافَحَة كَتائِب طارِحِي الإشْكالات بجُيوش المُتَصَدِّيْن لحَلِّها، لكن المَأْمُول أن يَتَفَرَّع هذا عن الأَصْل الذي دَنْدَنَّا حَوْلَه؛ فيَتْبَعُه، ولا يَتَقَدَّمُه، ويَعْضُدُه، ولا يَتَفَرَّد عنه، ويَدُور بفَلَكِه، ولا يَسْتَقِلُّ بمَدارٍ خاصٍّ به، وبالله التوفيق، وصَلَّى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.
_________
[1] (وذلك إن خلَت من موانع اتباع الحق بعد تبيُّن؛ كالإخلاد إلى الأرض، واستحباب الحياة الدنيا على الآخرة، والتمسُّك بما كان عليه الآباء والأجداد، وصيانة زعاماتهم المنبثقة من الوثنية، وغير ذلك من موانع اتِّباع الحق لمن عرفه، ثم أعرض عن العمل بمقتضى معرفته).
حسام الحفناوي