تونس: قانون الأوقاف؛ البشرى الناقصة
يتواصل الحديث والجدل في تونس؛ حول الأوقاف، ومشروعيتها، وأهميتها في الوقت الراهن، ودورها في المستقبل المنظور والبعيد، فقد أعادت الثورة لمثل هذه القضايا وهجها، وتم طرحها في الأوساط الشعبية، والإعلامية، والبرلمانية "المجلس الوطني التأسيسي" وإن كان بزخم ودفع أقل مما يجب.
يتواصل الحديث والجدل في تونس؛ حول الأوقاف، ومشروعيتها، وأهميتها في الوقت الراهن، ودورها في المستقبل المنظور والبعيد، فقد أعادت الثورة لمثل هذه القضايا وهجها، وتم طرحها في الأوساط الشعبية، والإعلامية، والبرلمانية "المجلس الوطني التأسيسي" وإن كان بزخم ودفع أقل مما يجب.
الأمر الذي شجع بعض المرتدين والجهلة بأهمية الأوقاف ودورها في المجتمع، مهما كانت الأحكام القانونية التي تعلوه، على التداعي لوقف مشروع الأوقاف المقدم للمجلس التأسيسي قبل تحويله إلى نصوص قانونية ملزمة، وتواصله بصفته ثقافة أصيلة في المجتمع.
الحرب على الأوقاف: من المؤكد أن الرئيس الحبيب بورقيبة (1903-2000)م كُلّف بمهام من قبل المحتل الفرنسي لتصفية الإسلام، فالحرب التي قادها بورقيبة منذ استلامه السلطة من الاحتلال الفرنسي، تثبت بأنه كان أسوأُ خلفٍ لأسوأُ سلف، بل فاق التلميذ أستاذه، فما أقدم عليه بورقيبة لم يجرأ عليه المحتل الفرنسي، مثل وقف التدريس بجامع الزيتونة، ووقف التأريخ بالهجري، والتضييق على الأنشطة داخل المساجد، ومصادرة الأوقاف وكأنه كان على عجلة من أمره، فلم يمض على ما يُسمَّى بالاستقلال شهران حتى صدر قانون مصادرة الأوقاف المؤرخ في 20 شوال 1375 هجرية الموافق لـ 31 مايو 1956م أي نفس السنة التي استلم فيها الحكم من فرنسا.
ويشير الفصل الرابع من أمر مؤرخ في 20 شوال 1375 هجرية، الموافق لـ 31 مايو 1956م "سنة الاستقلال الناقص والمغشوش"؛ والذي وقَّعه بورقيبة تحت اسم "الوزير الأكبر رئيس الحكومة، الحبيب بورقيبة".
وفيه "وضعت جمعية الأوقاف في حالة تصفية، ولهذا الغرض تؤلف لجنة بقرار من رئيس مجلس الوزراء يتضمن بيان تركيبتها وتعيين أعضائها بناءً على ما يعرضه الوزراء الذين يهمهم الأمر، ولهاته اللجنة مهمة تعيين أساليب تصفية الجمعية، ويجب عليها أن تنهي أعمالها قبل 30 سبتمبر 1956م، وفي هذا التاريخ المذكور تستمر عمليات التصرُّف جارية وفق سنن التشريع الجاري بها العمل".
وإن كان القرار شاملًا للأوقاف العامة، فإنه تم سن قانو ثان في سنة 1957م يُلغى بموجبه الأوقاف الخاصة والمشتركة.
لقد تم الاستيلاء على الأوقاف ومصادرة الأراضي والمباني بما فيها مساجد ومدارس قرآنية وتم تحويلها إلى مرافق عمومية أخرى، أو سلمت لأشخاص تملكوها وأصبحوا يتوارثونها حتى اليوم بغير وجه حق.
فهذه الممتلكات ملكية عامة كانت أوخاصة، مقدسة، وموجهة لخدمة المجتمع كتوفير وظائف، وحل مشاكل اجتماعية، والصرف على المعالِم الثقافية وغيرها، ولا يجوز التعدِّي عليها ومصادرتها من قبل الدولة، اللهم إذا كانت دولة غاشمة ظالمة.
وللأسف لا يوجد مثال واحد على ما فعله بورقيبة وتوابعه سوى في دول الستار الحديدي، روسيا، والجمهوريات التي دارت في فلكها ولا تزال حتى الآن، ودول أوروبا الشرقية، الشيوعية سابقًا.
ومن المفارقات أن يتم إعادة الأملاك المصادرة بعد سقوط الشيوعية في هذه الدول، ويستمر الجدل حول القضية في تونس بعد الثورة.
لقد تم تبرير مصادرة الأوقاف بحجج واهية وكاذبة، مثل السيطرة على المؤسسات القائمة، وتحرير الاقتصاد، وايجاد موارد جديدة للدولة.
وأحيانًا يتهم القائمون على الأوقاف بأنهم اعتدوا على الأموال وسرقوا ونهبوا، وكان بامكان السلطة آنذاك أن تغيرهم، أو تضع الأوقاف تحت إشراف وزارة الشؤون الدينية كما تُسمَّى في تونس، وتراقب، دون أن تصادر الأوقاف بالكلية.
لكن عملية المصادرة تمت بخلفية معادية للاسلام، وخارقة للمواثيق الدولية التي تمنع مصادرة الأملاك الخاصة بدون موجب شرعي، كسداد ديون على ذمة المعني، وهو ما لم يتوفر في قضية مصادرة الأوقاف.
قانون الأوقاف الجديد: رغم أن القانون الجديد، يؤسس للأوقاف، ولا يطالب باستعادة الأوقاف المصادرة، وهو موقف لا يمكن تبريره، والقبول به، فضلًا عن الدفاع عنه.
فإن الكثيرمن العلمانيين في تونس لم يعجبهم إصدار قانون في هذا الخصوص، وأعربوا عن خشيتهم من أسلمة المجتمع، كما لوكان المجتمع غير مسلم. وهم الذين اشتكوا كثيرًا وتباكوا مما يصفونه بالتكفير، فإذا بهم يُكفِّرون أنفسهم من خلال رفض الأسلمة وتعني تطبيق الإسلام.
حتى إنهم اعترضوا على تسمية وزير التربية في حكومة علي العريض، الدكتور سالم الأبيض لأنه يصلي، وشوهد وهو يخرج من أحد المساجد "يحدث هذا في تونس".
وفي الوقت الذي اختار البعض الأسلوب المباشر في رفض قانون الأوقاف "تطبيق الإسلام أو الأسلمة" فإن البعض الآخر اختار التواري خلف التسييس، وادَّعوا أن قانون الأوقاف "سيدعم بقوة التغلغل الاجتماعي لحركة النهضة ويمكنها من تقويض غالبية مكونات الفضاء الجمعياتي التي تقف بالمرصاد ضد كل ما يمس مكاسب تونس الحداثية في المجالات كافة"- فالحداثة تطرح كما هي حقيقة المعقدين بها آيديولوجيا مناقضة للإسلام، بل وبناء على أنقاضه كما يتخرصون، وهو كِبَرٌ ما هم ببالغيه.
فهناك نحو 25 في المائة من الشعب التونسي تحت خط الفقر، إلا أنهم يسحبون وضعهم المادي والبعض استثرى على حساب الشعب التونسي، على بقية التونسيين الذي يزعمون أنهم قطعوا مع نظام "الصدقة الجارية".
ومع ذلك؛ يمكن أن يكون نظام الوقف كما يزعمون رافِدًا لما يُسمُّونه "دولة داخل الدولة" و"مجتمع مدني إسلامي مقابل مجتمع مدني حداثي" في قفز على الواقع إلى اليوتوبيا الخيالية للحداثيين.
واعتبرت النائبة في المجلس التأسيسي نادية شعبان -علمانية- أن قانون الأوقاف "يُمثِّل تهديدًا مباشِرًا للدولة المعاصرة، فهو يبني دولة داخل الدولة ويفتح باب التمويلات لفائدة جمعيات وأحزاب دينية وذلك خارج سيطرة الدولة" وهو أمر مخالف لنظام الوقف وأوجه صرفه وآلياته، وتعبير عن جهل مطبق بمقاصد الوقف وأغراضه وطرق تسييره وتوجيهه، بل تضليل متعمد يغض الطرف عن القانون الجديد أيضًا.
الإسلاميون يؤكدون من جهتهم على أن نظام الوقف معمول به منذ بواكير الدعوة الإسلامية، وله نظائر في المذاهب والدول الأخرى بما في ذلك الدولة الحديثة في الغرب، "أي منذ عصر النهضة، ويا للمفارقة!".
ولا تناقض بين مدنية الدولة ونظام الأوقاف؛ إذ يمكن تنظيمه كما هو الحال في عدد من الدول الإسلامية تحت إشراف الدولة، بل إن دولًا غير إسلامية بها جاليات إسلامية تركت موضوع الوقف بعد استرجاعه للمشيخات الإسلامية فيها، كروسيا، ورومانيا، وبلغاريا، وصربيا، وكرواتيا، والبوسنة، والجبل الأسود، ومقدونيا، وسلوفينيا... وغيرها.
ويمكن للوقف كما يؤكد الدكتور حسن المناعي، أن يساهم في البحث العلمي، وبناء الطرقات، ومساعدة المرضى، ولاسيما المصابين بأمراض خطيرة، ويفعل دور المجتمع المدني في تلبية حاجيات المواطنين إلى جانب الدولة، لا سيما وأن امكانياتها محدودة والواقع أكبر شاهد على ذلك.
وقد عقدت لجنة التشريع العام جلسة مشتركة مع لجنة المالية والتنمية في شهر نوفمبر 2013م للنظر في مشروع القانون 55 لسنة 2013م المتعلق بالأوقاف وذلك بحضور الدكتور حسن المناعي أستاذ في جامعة الزيتونة والدكتور أحمد بن طالب أستاذ قانون خاص والمستشار علي الشيخاوي وحافظ الملكية العقارية أحمد الحافي.
حيث تحدَّثوا عن الأوقاف وأهميتها الاقتصادية والاجتماعية ودورها الفعال في دفع التنمية وتعزيز التكافل الاجتماعي، فهو وإن كان يعتمد على الصدقات الجارية إلا أنه نظام اقتصادي مساند لجهود الدولة ويمكن أن يكون تحت رقابتها.
وإذا كان الوقف الإسلامي قد مرَّ عليه حتى الآن 14 قرنًا؛ فإن الغرب لم يعرف نظام الأوقاف سوى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتصل قيمة الأموال التي ترصد لجامعة هارفارد الأمركية إلى 32 مليار دولار أمريكي.
ويوجد في الولايات المتحدة الأمريكية مليون وميئتي ألف جمعية وقفية، كما تبلغ نسبة نمو جمعيات الأوقاف في بريطانيا وفرنسا أكثر من 104 في المائة في ظرف 5 سنوات و"الأمثلة كثيرة".
وقد لعبت الأوقاف دورًا مهما في عهد الاحتلال الفرنسي الذي جوع التونسيين؛ فكانت مؤسسة الأوقاف تخفف من حدة الأزمة وتخرج أجيال من المتعلمين وحفظت لتونس هويتها من خلال المدارس القرآنية التي كانت منتشرة في تونس وتم تحويل بعضها إلى مدارس عمومية تابعة للدولة ومرافق أخرى بعد تولي خلفاء الاحتلال بزعامة بورقيبة مقاليد السلطة في البلاد.
ومن أوجه صرف الأوقاف في تونس؛ بناء القناطر والجسور، ومستشفيات كوقف السيدة عزيزة عثمانة أراضي وأموال لفائدة المستشفى الذي يحمل اسمها حتى اليوم، ووقف منازل لصالح النساء الغاضبات وكانت تُسمَّى بمنازل المرأة الغضبى، كان النساء يلجأن إليها عندما تتعرض لمشكلة مع زوجها، فيوفر لها كل ما تحتاجه إلى حين الصلح أو الفراق.
وقد سبق نظام الوقف بذلك ما يعرف في الغرب اليوم باسم "البيت الآمن" الذي يتم توفيره للنساء المتخاصمات مع أزواجهن وليس لهن مكان يأوين إليه، كبيت الأسرة وما شابه.
وهناك أوقاف خاصة بسكن الطلبة الفقراء؛ حيث يوجد آلاف انقطعوا عن الدراسة لغياب تكاليف المبيت وأحيانًا الدراسة ذاتها، فكان الوقف يقوم بمساعدتهم لغياب الدولة لأسباب كثيرة.
وأوقاف لمساعدة الأُسر الفقيرة محدودة الدخل أوالمعدومة بصفةٍ دائمة وأفضل مما تقوم المؤسسات الخيرية التي لا تعتمد نظام الوقف في تمويل مشاريعها حيث تبقى رهن امكانيات ومزاجية المتبرعين.
عودة الأوقاف ولكن: الأستاذة سناء مرسني عضو المجلس التأسيسي، والمقرِّرة المساعدة للجنة التشريع العام، زفَّت بشرى، وأحدثت صدمة، وقد تمثلت البشرى في تأكيدها على أن الوقف عمل مدني ويخضع للقانون المدني وهو جزء من المنظومة القانونية.
وبالتالي تضمن القانون الجديد 6 أبواب، ولا ينعقد الوقف إلا بملكية رسمية، وإحداث أمانة عامة للأوقاف، وهو ما يضمن إشراف الدولة على مؤسسة الوقف، وإحداث خطة ناظر للأوقاف، وإحداث مؤسسة قاضي الأوقاف.
لكن الفاجعة أو الصدمة هي عدم التأكيد على ضرورة تقصي الأوقاف التي تمت مصادرتها في سنة (1956 و1957)م وما بعدها، أو تعويضها من أملاك الدولة.
أي أن قانون الأوقاف الجديد موجه للمستقبل دون إعادة النظر في قوانين تصفية الأوقاف التي أحدثها بورقيبة ومساعدوه.
ويُبرِّر أنصار هذا الطرح هذه المظلمة التي طالت الأوقاف التي صادرها بورقيبة بـ"التأسيس على أسس واقعية وقانونية سليمة" لكن جهات داخل المجتمع المدني تنوي رفع قضية للمحاكم الدولية- لاسترجاع الوقف المصادر وتعويضه من أملاك الدولة إن لزم الأمر، وهي قضية تحتاج لحشد كل الجهود من أجل كسبها بعد أن مكنت الثورة أحرار تونس من حرية التعبير والتنظيم وحق المطالبة باسترجاع الحقوق وِفق الآليات المتاحة والممكنة بعيدًا عن العنف.
- التصنيف:
- المصدر: