الأزمة.. في خبر غير عاجل !
20/7/1427 هـ - 14/08/2006 م
كُنْتُ قد كتبتُ مقالاً قبل أكثر من عامين حول موقفنا في الأزمات
نشرته في (الإسلام اليوم)، ولما عدْتُ لقراءته وربطْتُه مع أزمتنا
الحالية في لبنان وفلسطين وجدت أننا لا نحسن فهم أزماتنا، ولا نعتبر
بتكرارها علينا، ولا نفقه سنن الله في أحوالها.. المواقف الجماهيرية
نفسها والتصريحات الخطابية تُعاد صياغتها، والإعلام العربي يسيّر
الناس وفق أهدافه وثاراته، ولا يأبه بتسفيه العقول وجرح القلوب
المكلومة من وقع الأحداث عليها.. كم من الأزمات التي مرت بنا، وانقضت
بأحمالها كأزمة الجهاد الأفغاني وأزمة الكويت وأحداث الحادي عشر من
سبتمبر وحرب العراق وغيرها؟ لماذا لا نقف معها، ونتدارس عبرها ونستلهم
فوائدها؟ لقد أخذَت منا تلك الأزمات السالفة جهداً ووقتاً وعناء، فهل
نبخل بوقت يسير لنقف مع دروسها وعبرها احتياطاً من الوقوع في الأخطاء
نفسها أو تكرارها في المستقبل ؟!..كلها -للأسف- تذهب وتلقي بها الريح
في مكان سحيق!!.. لذا أحببت في هذا المقال الإشارة لهذه الغاية وتفعيل
الاهتمام بها من قِبل النخب والمثقفين والمهتمين. ولعلي أفتتح الفكرة
ببعض السوانح والتأملات:
1- إن الحديث عن الأزمة بمعناها السياسي أو العسكري هو في العادة حديث
الإفاقة بعد صدمة الأزمة.. مع أن الغالب في الأزمات أنها لا تقع فجأة
أو تأتي بغتة، بل جرت أحوال العالم كله وسنن التغيير وأحوال الرخاء
والشدة والتقدم والتخلف والسلم والحرب أنها تتكون أو تزول من خلال
إرهاصات قد يمر بعضها ببطء يشاهده الإنسان ويلحظه.. وقد يأتي بعضها
فجأة -كما يُظن - لكنها نتيجة تراكمات من الأسباب الخفية والظاهرة..
فلا تأتي أزمة من هذا القبيل إلا وهناك ما يدل على قرب حدوثها من
مقدمات وعلامات، وعلى قدر قوة الاستشعار تأتي قوة الاستعداد.. والواقع
يشهد أن كثيراً من المسلمين لا يحُسون بالأزمة أو يتخيلون تداعياتها
حتى تصبح كابوساً يجثم على صدورهم، ولا ينفع حينها التفكير أو
التخطيط.. وهنا تبرز أهمية المراكز العلمية والبحثية التي تستشرف
المستقبل، وتنظر إلى الغد القادم عن طريق جمع المعلومات، وإعداد
البحوث والدراسات، فيُأخذ برؤيتها ويُنظر بمسبارها إلى واقعنا
المتوقع..
ونسأل أنفسنا بصراحة؛ إلى أين نسير؟ وأي طريق نختار؟ وأي عدّة نحمل؟
ومن يقودنا في المرحلة القادمة؟.. إلى غيرها من الأسئلة المحيرة..
والتي تحمل معها إجابات محرجة، لكنها تنقذنا من خيارين قد يكون
أحلاهما مرّ: فإما أن نُفجع بسبب الاستسلام للأزمة، وإما أن نفجع في
محاولات الخلاص منها.. ولو تأملنا في واقع الدول العربية بحكوماتها
ومؤسساتها ومدى اهتمامها بالمستقبل واستشرافه لوجدنا أن المراكز
العلمية التي تهتم بمثل هذه الدراسات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة،
بينما نجد هناك دولاً كأمريكا مثلاً فيها أكثر من ستمائة مركز لدراسة
واستشراف المستقبل، بل إن السويد منذ عام 1973م لديها وزارة للاهتمام
بشؤون المستقبل..!
2- عندما تحصل الأزمة تكون هناك ردود أفعال غير عادية بل عادة تكون
الرؤى والأقوال والأفعال التي تأتي مع الأزمات متوترة وغير متزنة،
لذلك يسعى الإنسان، ويتحفز لسماع أي شيء حول الأزمة، ويزداد نهم الناس
للبحث عن الأخبار والمعلومات من أجل صياغة رؤى أو حلول خلاصية.. فيكون
المناخ العام للأزمات قابلاً للنمو الفيروسي للإشاعات والأكاذيب أو
التوقعات المغرضة، كما يُلحظ اتجاه الناس بقوة نحو القنوات الإعلامية،
خصوصاً القنوات الفضائية لجمع الأخبار وروايتها على الأقل في المجالس
والمنتديات..
والناس ينساقون في فلك من يشدّهم من زعامات وقيادات كي تمضي بهم إلى
بر الأمان، وتكشف لهم ضبابية الموقف المناسب لظرفهم العصيب، وكل من
تصدّر في الأزمة -في العادة- يجد له شرائح واسعة من المؤيدين
والمستمعين. وهذا القبول -وإن كان مؤقتاً- إلاّ أن الطبيعة الإنسانية
تجعل الفرد يُقبل على من يناديه، و يهفو إلى صوته بغض النظر عن شخصه
وخطابه. وقد جاء في الأثر عن ابن مسعود قوله:"شر الناس في الفتنة كل
راكب موضع، وكل خطيب مصقع"!
3- يتجه الناس بسرعة نحو المخرج والفكاك من الأزمة، وأحياناً
تُوقِعُهم السرعة والعجلة في أزمة أخرى.. لهذا ينبغي أن تكون حلولهم
مدروسة، وأطروحاتها معتدلة مع وعي كبير بتداعياتها على المجتمع.. ومع
التأكيد على الأناة والتؤدة في التفكير والتخطيط للأزمة، يجب التأكيد
على السرعة والمبادرة في التنفيذ والعمل لتلك الحلول وهذه العلاجات..
وهذا هو دور أهل الحل والعقد من ولاة الأمر والعلماء الثقات في بيان
الحل والمخرج من تلك الأزمات، ولا آكد من أهمية إرشاد الناس بالواقع
الحقيقي للأزمة والموقف الصحيح منها، والمبادرات المطلوبة من الأفراد
والمؤسسات تجاهها؛ لأن تأخير البيان عن وقت حاجته مدعاة للفتنة
والبلبلة في الصفوف، كما أن البطالة والفراغ فيها قد تؤدي ببعض الناس
إلى أنواع من الجدال والمراء والنقاشات والاختلافات الحادّة، وربما
الاحتراب فيما بينهم أحياناً.. كما ينبغي التأكيد الدائم على وحدة
الصف وتماسك الجبهة الداخلية للمجتمع والاستعانة بأهل المشورة والرأي
في الأمة، وليس من الحكمة تهميش أهل التأثير والقوى الفاعلة في
المجتمع مهما بلغوا من الاختلاف والتضاد.. كما أن التشاغل أحياناً
بخطر الأزمة الخارجي يجب ألاّ يكون على حساب الوحدة الداخلية وضرورة
تماسكها..
ولعل من فقه الأولويات، وفهم طبيعة المرحلة ألاّ تنشغل النخب، وتكرس
دورها في بيان الأخطاء وتوجيه التهم لمن كان وراء هذه الأزمة، أو تلك
حتى ولو كانت من باب المناصحة؛ لأن النظر إلى مآلاتها السلبية قد
تفاقم الأزمة داخلياً، وتشتت الجهود المبذولة في دفع الخطر الخارجي أو
تقليله.
4- من المقرر شرعاً أنه ليس في الدنيا شر محض كما أنه ليس فيها خير
محض.. و{عسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله
فيه خيراً كثيراً}، وقد يكون في طرف الأزمات نوع من البشارات،
والإنسان عبر تاريخه الطويل - لمن تأمل - يجد أن تقدُّمه ورُقيَّه في
كثير من الأحيان كان نتيجة أزمة مرَّ بها في حياته، فتّقت ذهنه إلى
الكثير من المخترعات والمكتشفات النافعة لحياة الناس.. وبما أننا نعيش
في عالم متغير متقارب كثير الاضطراب أصبحت أزماته السياسية لو قدّر
حصولها في أقصى الغرب لتضوّر لها جوعاً من كان في أقصى الشرق، وربما
يؤدي انهيار شركة ما أو إفلاسها إلى بطالة أو غلاء أو فقر في قطر آخر
من العالم.. ولهذا فالأزمات تزداد كثرة وتعقيداً مهما حاولنا الانعزال
الصوري عنها..
فالتوعية الدائبة والتربية المستمرة على كيفية التعامل الإيجابي مع
الأزمات وخصوصاً في أوقات السلم والرخاء هو واجب المرحلة الراهنة
للمؤسسات الدينية والإعلامية والتعليمية.. ومتى قامت هذه المؤسسات
بدورها الوقائي فإننا سنخفف وبشكل كبير آثار الدعة والترف واللامبالاة
التي أُصيبت بها كثير من مجتمعاتنا المعاصرة.
أما نُخبنا المثقفة فأتمنى أن يكون جوابهم حول السؤال المكرور عن
الأزمات: ما هو المخرج من الأزمة؟ أن يتحوّل وينعكس إلى البحث عن
المدخل في الأزمة. بكل صور الاستفهام المنطقي وأدواته.. عندها سوف
نحدّد موقعنا ونعرف قوتنا ونأخذ عدتنا للمقاومة والتقدّم
والارتقاء.
- التصنيف:
mohammed hassan mahfouz
منذ