متى استعبدتم الناس
تلك مقولة الفاروق، ظلّت أنشودة الأمة بأسرها، وانطلقت لتصبح شعارا يتردّد على أفواه المقهورين، والمستعبدين في الأرض، وهي ترفض أن تكون رهينة العبودية، أسيرة المذلة والقيود والاستعباد.
عمر الفاروق في مجلسه بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقضي بين أبناء الملّة العادلة بحكم الله العادل، وعلى الباب شاب من عامة أهل مصر ينادي: يا أمير المؤمنين جئتك عائذا مستجيرا، فيجيبه عمر قائلا: لقد عذت بمجير فما شأنك؟ وينطلق لسان المظلوم بشكواه من ابن والي مصر عمرو بن العاص؛ الذي أنف أن يسبقه شاب من عامة الناس، فيجلده بالدرة ويحبسه، وينفلت السجين المظلوم إلى المدينة المنوّرة يلتمس العدل عند الفاروق، ووالله لقد عاذ حقا بمجير، ويرسل عمر في طلب واليه على مصر وولده، فيقدمان عليه، ويتيقن عمر أن ابن واليه قد استطال رعية ائتمن عليها أبيه، فيأمر المصري بضرب المعتدي كما فعل واعتدى، ويضرب المصري ابن عمرو حتى أخذ حقّه، ويلتفت عمر إلى المصري قائلا: ضعها على ضلع عمرو، وكأنما سرت روح العدل من الأمير إلى رعيته فيقول: يا أمير المؤمنين لقد ضربت الذي ضربني، ويلتفت عمر الفاروق إلى واليه لائما ويقول: "متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
تلك مقولة الفاروق، ظلّت أنشودة الأمة بأسرها، وانطلقت لتصبح شعارا يتردّد على أفواه المقهورين، والمستعبدين في الأرض، وهي ترفض أن تكون رهينة العبودية، أسيرة المذلة والقيود والاستعباد.
[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله] وتحضر هذه المقولة بكل صدقها وعنفوانها ورحابتها، وتتوارد على أذهاننا هذه الأيام، ونحن نرى الأمة تتلمس السبيل لاستعادة كرامتها المفقودة، ومكانتها المعهودة، وحريتها المنشودة، وقد تمادى الطغاة في إذلال أحرارها والصالحين من أبناءها، واستطال أشرارها على خيارها ساعين إلى محو مقومات وجودها لإضعافها وإفناءها، استجابة لأوامر ومغريات أعداء الأمة ممن ابتليت بهم على مر التاريخ، تلك الأمم التي آلت على نفسها ألا تدع للإسلام وجودا ولا حكما، ولا لأمته بقاء ولا شاهدا من حضارة أو تميز أو خيرية أو تشريع، ولكن هيهات لهم؛ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
وهكذا تحتدم الحرب، ويشتد أوارها يوما بعد يوم، بين شعوب عزلاء عيل صبرها وهي تنتظر ولادة عهد جديد تشرق فيه شمس الحرية، وتتألق فيه حصائد الوعود سنابل خيرات وأنهار عدل وسكائب عزة، وأنظمة مسيرة مستبدة. وتمضي السنون على الوعود المنهالة من أهل الحل والعقد المتمكنين من رقاب العباد ومقدرات البلاد، فإذا الوعود سراب زائف، وإذا العدل ظلم مجحف، وإذا أحلام الحرية العذاب في مصر نار وعذاب وغدر وانقلاب، لتقويض نهضة بلد اكتوى طوال قرن من الزمان بنار التسلط والإفقار والإذلال من حكام تتابعوا عليها وقد حوّلوها إلى مزرعة خاصّة يبيعون فيها ويشرون، ويحصدون جناها وكسبها ويكنزون.
وإذ الحرية حلم بعيد المنال، فلا يبقى لهم إلا الاحتجاج السلمي على ما يحدث في بلادهم من نهب وإجحاف، واستعمار واستبداد، ولأن الفرعنة لا تأخذ بالعدل نهجا ولا بالشرع حكما، فمن الطبيعي أن يكون الصدام حتما لازما، فالشعوب شبت عن الطوق، ولا بد لها من أن تقول كلمتها، ولأن كلمتها لا تعجب الطغاة، بل وتسلبهم ما أعطوه لأنفسهم من صلاحيات وتفرد في الرأي وتجاوز دون مساءلة، فإن الرفض العنيف هو الحل، والقتل هو الحل، والقمع هو الحل، وكل ما يسلب الشعوب حريتها وكرامتها هو الحل، وكل ما يخنق صوتها ويسكت زئيرها هو الحل، والرصاص الحي يوجه إلى الأمة العزلاء هو الحل، والسجون هي الحل، وإسكات الأصوات المنددة بالظلم هو الحل.
وفي سوريا نار فتنة وطائفية وتطهير مذهبي، وإذا جحافل الضعفاء تتناثر في المناطق الحدودية في رحلة لجوء جديدة، والعدو هذه المرة ليس غريبا، إنه ابن الأمة التي غذته ورعته صغيرا، وسودته كبيرا، وسلمت إليه أمرها، وائتمنته على مقدراتها وإرثها ومستقبلها وكيانها، وهكذا يطرد الرعاة رعيتهم ويقتل الحكام شعوبهم وينقلب الجندي الموكل بحماية المال والنفس والعرض والأرض والحريات إلى مستأسد يدوس أهله بالحذاء ويركل حريتهم بقدمه التي تخطو على أجسادهم المنهكة خطوات العبيد الأذلاء المأمورون بخلع رداء الكرامة الجهادية والشرف العسكري ليرتدي ثوب ذئب غادر، موجها سلاحه لصدور أبناء وطنه العارية دون تمييز بين مقاتل وشيخ وطفل وامرأة، منكرا عليهم أن يطالبوا بحقوقهم السليبة المشروعة التي كفلها لهم شرع ربهم ومواثيق الإنسانية وحتى قوانين بلادهم المعطلة.
ويشاهد العالم أجساد الأطفال المحروقة الممزقة المعذبة ووجوههم البريئة، ويندى جبين الإنسانية لما يحدث وتنكس الرؤوس العاجزة في خجل من أولئك الأبطال ألا تمتد أيدي الأمة إليهم بالنصرة، وتوجف القلوب المؤمنة خوفا من غضب الله أن يطال الأمة بعذاب وهي تستكين لما يجري في مشارق أرض الإسلام ومغاربها.
فيا أهل مصر صبرا فالنصر صبر ساعة، ويا أهل سوريا صبرا فالنّصر مع الصبر، ويا أهل ميانمار صبرا فإن موعدكم الجنة إن شاء الله، ويا أيتها الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، والتي انتظرت طويلا نور فجرها الوليد لا تجزعي (فشمسنا لم تغب بعد) وليلنا لن يطول، وقيدنا لن يعصى على مطرقة الطارقين لأبواب الحرية، ففي كل مطلع شمس لنا وليد، وفي كل انبثاقة فجر فينا شهيد، وعلى كل طود شامخ لنا بيرق، ترفعه طائفة ثابتة على الحق لا يضرها من عاداها إلى يوم القيامة.
وصبرا صبرا أيها القابضون على الجمر، ترتقبون نسائم الحرية القادمة، مع كل دفقة من دم شهيد، فللحرية ثمن، وللكرامة موقف، وللحق حرّاس، وإنه آن الأوان لكي ترفع الوصاية عن الشعوب من قبل تلك الأنظمة التي لا تحتكم إلى شرع إلهي، ولا قانون دوليّ، ولا إلى حكمة الحوار، أو دراسة المعطيات ولا احترام لمكونات الشعوب. إنّ البلطجة والقتل والتنكيل ما عادت تشكل عائقا أمام الشعوب الحرة الباحثة عن العزّة والكرامة، فلقد صار نشيد الأمة وشعارها (متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا). اللهم عجل نصرك وفرجك لهذه الأمة يا رب العالمين.
- التصنيف: