كلمات في وداع الأديبة الوفية أمينة قطب
"هل ترانا نلتقي أم أنها كانت اللقيا على أرض السراب"؟!
بهذه الكلمات التي خضبتها الدموع ودَّعت زوجها وشريك حياتها تلك الدموع التي وصفتها بأنها:
"لم تكن قط دموع حسرة أو ندم، فحاشا لله أن تندم نفس مؤمنة على ما قدَّمت، أو على ما قدَّم الأحباب من عمل نال به صاحبه- بإذن الله- الكرامة بالشهادة في دين الله، ولكنه الفراق الطويل ومعاناة الخطو المفرد بقية الرحلة المكتوبة".
إنها امرأة مسلمة، وهي مع إسلامها لا تُخفي إنسانيتها بقوتها وضعفها، ولا تكتم مشاعرها وأحاسيسها، تستعلي على الواقع المؤلم حينًا، ويثقل كاهلها تحت الحمل المضني فتجأر بالشكوى، ولكنها لا تسقط أرضًا؛ إذ تأتيها رافعةُ الإيمان التي تنتشلها من كبوة اليأس، وتحصنها من عتمة القنوط.
وينبض قلبها بالإيمان رغم عناء المسير ووعورة الطريق، وتعطي العهد على الثبات على درب الحق الذي سار عليه أخوها الشهيد وشريك حياتها.
وتُناجي أخاها في ذكرى استشهاده فتقول:
فأهتف: يا ليتنا نلتقي كمــــا كان بالأمس قبل الأفــول
لأحكي إليك شجوني وهمي فكم من تباريح هم ثقيل!!
ولكنها أمنيات الحنين فمـــا عاد من عاد بعــد الرحيل
*******
ولكنني رغم هذي الهمــوم ورغم التأرجح وســـط العباب
ورغم الطغاة وما يمكرون وما عندهم من صنوف العذاب
فإن المعالم تبدي الطــريق وتكشف ما حوله مــــن ضباب
********
وألمح أضواء فجـــر جديد يزلزل أركان جمع الضلال
وتوقظ أضــــواؤه النائمين وتنقذ أرواحهم مـــــن كلال
وتورق أغصان نبت جديد يعم البطاح نـــــــديَّ الظلال
*********
فنَمْ هــانئًا يا شقيقي الحــبيب فلن يملك الظلم وقـف المسير
فرغم العناء سيمضي الجميع بدرب الكفاح الطويل العسير
فعزم الأُباة يزيح الطغـــــــاة بعون الإلـــــــه العلي القــدير
وأتخيلكِ الآن وقد التقيت زوجَكِ في الجنة وأنت تقرئين عليه هذه الرسائل التي كتبتيها له يومًا بعد استشهاده، فتقولين:
"هذه الرسائل كلها إليك..
كتبتها بعد تلك الليلة، بعد أن غادرت بيتنا ولم تعُد..
إنها أول رسائل لم تراها ولم تقرأها، ولم تبعث بعدها بردٍّ..
ولكن كتبتُها إليك رغم هذا اليقين، فما كنت أملك حبس دموعي، وأنت ترحل عني بلا عودة.
إنها إليك في الدار التي سعَيت من أجلها وأدركتها في نهاية المطاف.
إنها تهنئةٌ أبعث بها إليك، حتى ألقاك بعد المسير العاني، ووعورة الطريق.
إنها لمسة وفاء وعهد على السير مع القافلة، التي ما انقطع سيرُها على مرِّ الزمان إلى ذلك المرتقى البعيد.
إنها إليك وإلى السائرين على الدرب، رغم أشواك الطريق.
فإذا كانت الدموع تخضبها فمعذرةً، فقد تركتني وحدي أكمل بقية المسير.
إنها دموع الفراق، حتى ألقاك عند ذلك المرتقى بإذن الله.. مع قوافل الواصلين."
فهيا معًا نُلقي نظرةً على هذه الشخصية الوفية
وُلدت- رحمها الله- في قرية "موشا" بمحافظة أسيوط في مصر، ونشأت في أسرة كريمة متدينة ومثقفة، يظللها الأخ الأكبر "سيد" رحمه الله، ويرعاها الأخ الثاني محمد، وكلاهما شاعر، وتذكر بعض ما كان لها من تجارب شعرية في مطلع شبابها عرضتها على أخيها "محمد" فنصحها بمزيد من القراءة لعلَّها تصل إلى شيء من الشعر، ولكنها لم تصل إلى شيء من الشعر قبل محنتها التي فجَّرت شاعريتها، وكأنما اختبأ الشعرُ في أعماق نفسها حتى ارتبطت بزوجها كمال السنانيري- رحمه الله- رباطًا قلَّ أن يحدث مثلُه، فقد كانت طليقةً وهو وراء القضبان يدفع من عمره ضريبةَ ارتباطه بالدعوة إلى الله.
لقد أثْرَت تجربةُ الارتباط بداعيةٍ سجيٍن مشاعرَها، وأيقظت شاعريتَها، وكانت انطلاقةُ الشعر يوم واجهت موقفًا حرجًا حين خيَّرها شريكُها بين البقاء على الارتباط وبين الانفكاك منه؛ لأنه لا يدري متى سيخرج من السجن، فقد يمتدُّ حبسُه عشرين سنة!! كان هذا الموقف العصيب مفجِّرًا لمخزون الشعر لديها، وكان جوابُها إصرارًا على استمرار العلاقة مع الشريك الداعية السجين.
هكذا يحكي لنا د. مأمون فريز جرار بداياتها:
- اكتوت بالجمر الذي قبضت عليه، ودَمِيَت يداها بالشوك الذي وطأته قدماها!! وعاشت تجارب الجهاد والصبر والفقدان، وتجرَّعت الألم، وذاقت فجائع متتالية..
- اعتُقلت عندما اعتُقل جميع آل قطب، وصبرت على السجن والأذى..
الشهيد كمال السنانيري
أما قصة زواجها من الشهيد كمال السنانيري فيصف عز الدين فرحات أنها نموذجٌ لأروع قصص الوفاء الذي يُحتذَى به؛ فقد حُكِم عليه بالسجن لمدة خمس وعشرين سنة مع الأشغال الشاقة المؤبَّدة تخفيفًا بعد حكم سابق بالإعدام.
وبعد خمس سنوات نُقل إلى مستشفى السجن، والتقى فيها بالأستاذ "سيد قطب" الذي أرقده المرض وما ذاقه من مآسٍ داخل السجن، وتقدم يطلُب يد "أمينة" من شقيقها، وما لبث أن عرض الأمر عليها، وبعد الاستخارة وافقت رغم علْمِها أن الباقي له في السجن عشرون سنة، ثم زارته في السجن لتراه، ويتم العقد بعد ذلك، وقد بارك هذا الزواج إخوانه بالدعاء، وسخِر منه غير الإخوان، وقوِيَت رابطة المودة بينهما، رغم بقائه خلف الأسوار، وأخذت تراسله بقصائد شعرية في صورة رسائل تشدُّ من أزره وتقوِّي عزيمتَه.
وقد أعطت المثَلَ والقدوة في الصبر على البلاء والفراق والحرمان، ولو أنها طلبت الطلاق لكان من حقِّها شرعًا وقانونًا، ولكن أبَت نفسُها ذلك من فَرط ورقَّة مشاعرها، وخوفًا من أن تجمع عليه مصيبَتَين، وهي الشريكة والسند!!
وفي تلك الأثناء كان قد تمَّ الرباط بينها وبين زوجها كمال السنانيري وهو داخل السجن، وكانت التجربة عميقةً مثريةً للأحاسيس والخيال والمشاعر، ففي كل زيارة تقوم بها للسجين المجاهد الصلب تثري خيالها ومشاعرها بألوان الأحاسيس، فتضمنها قصة أو رسالة من رسائلها إليه، أو تضع الأقاصيص في مخابئها حتى يأذن الله بالخروج.
وذات يوم.. حَكَت "أمينة "لشقيقها "سيد" ما رأته وتكبَّدته من عناء السفر عند زيارة الزوج الحبيب والشقيق العزيز؛ حيث سافرت من القاهرة إلى جنوب مصر لتصل لسجن "قنا"، وشعر الأستاذ "كمال" بمدى الغبن الذي لحق بها، فقال لها:
"لقد طال الأمد، وأنا مشفِقٌ عليك من هذا العناء، وقد قلت لكِ في بدء ارتباطنا قد يُفرَج عني غدًا، وقد أمضي العشرين سنة الباقية أو ينقضي الأجل، ولا أرضَى أن أكون عقبةً في طريق سعادتك، ولكِ مطلَق الحرية في أن تتخذي ما ترينه صالحًا في أمرِ مستقبلك من الآن، واكتبي لي ما يستقرُّ رأيُك عليه، والله يوفقك لما فيه الخير".
وحال السجَّان بينهما دون أن يسمع منها ردًّا، ولكن ماذا ينتظر من عروس ذات مروءة وأخلاق عالية؟! ثم جاشت بنفسها الشاعرة الرقيقة معانٍ جمَّةٌ وصادقةٌ عبَّرت فيها قائلةً:
"لقد اخترت يا أملاً أرتقبه طريقَ الجهاد والجنة، والثبات والتضحية، والإصرار على ما تعاهدنا عليه بعقيدة راسخة ويقين دون تردد أو ندم".. فأي امتحان لصدق المودة والحب أكبر من هذا؟!
وبعد سبعة عشر عامًا من الخِطبة الميمونة يتم الزواج، ويسعد العروسان بأحلى أيام العمر، ولم يمهلهما الطغاة، بل فرَّقوا بين الأحبة في بداية عامهما السادس من الزواج، وقيَّدوا الحبيب بالسلاسل، وألقَوه في سجون الظلم والظلام بُهتانًا وزورًا، لاقى فيها ما لاقاه من التعذيب حتى صعَدت روحُه إلى بارئها تشكو إليه ظلم العباد.
وتتساءل بلوعة بعد فراقه:
هل تـــــــرانا نلتقـــــي أم أنهــــــــا كانت اللقيا على أرض السراب؟!
ثم ولَّت وتلاشــــــــــــى ظلُّهــــــــا واستحالت ذكــــــــــرياتٍ للعذاب
هكذا يســــــــــــــأل قلبي كلمـــــــا طالت الأيام من بعــــــــــد الغياب
فإذا طيفــــــك يرنــــــو باســـــــمًا وكأني في استماع للجـــــــــــواب
أولــــــم نمــــضِ على الدرب مـعًا كي يعــــود الخـير للأرض اليباب
فمضينا فـــــــــــي طريــــق شائك نتخلى فيـــــــــــه عن كل الرغاب
ودفنَّا الشــــــــــوق فـــــي أعماقنا ومضينا في رضــــــــاء واحتساب
قد تعاهـــــــــــدنا على الســير معًا ثم عاجلت مُجيبًا للذهــــــــــــــاب
حين نـــــــــــاداك ربٌّ منعـــــــــمٌ لحياة في جنـــــــــان ورحـــــــاب
ولقــــــــــــاء فـــي نعيــــم دائــــم بجنود الله مرحى بالصحــــــــــاب
قدَّموا الأرواح والعمـــــــر فـــــدا مستجيبين على غــير ارتيــــــــاب
فليعُد قلبك مـــــــن غفلاتـــــــــــه فلقاء الخلد في تلك الرحـــــــــــاب
أيها الراحل عذرًا في شكــــــــاتي فإلى طيفك أنَّات عتـــــــــــــــــاب
قد تركــــــت القلب يــــدمي مثقلاً تائهًا في الليل في عمق الضبــاب
وإذ أطـــــــــوي وحيدًا حائــــــرًا أقطع الدرب طويلاً في اكتئـــــاب
فإذ الليل خضـــــــــــمٌّ مـــــوحِشٌ تتلاقى فيه أمواج العـــــــــــــذاب
لم يعُــــــــد يبــق فـــــي ليلي سنًا قد توارت كـــــل أنــــوار الشهاب
غير أني سوف أمضي مثلمـــــــا كنت تلقـــاني في وجــــه الصعاب
سوف يمضي الرأس مرفوعًا فلا يرتضي ضعفًا بقـــول أو جــــواب
سوف تحذوني دماء عابقـــــــات قـــــــد أنارت كل فــــــجٍ للذهــــاب
إنه الاستعلاء بالإيمان الذي يُحيي الشعلة أن تنطفئ، ويُحيي القلب من ظلمات اليأس، ويُحيي الروح من أسر المادة، فتستشرف الآخرة التي هي دار القرار، ويمضي الإنسان على الدرب بخُطًى وئيدة حينًا، وواثقة حينًا آخر، ولكنه يمضي إلى لقاء الله ولقاء الأحبة الراحلين.
ثم تناجي زوجها وتطلب منه الدعاء:
هلاَّ دعـــــــــوتَ الله لي كي ألتقي بركابكم في جنَّة الرضوان
هلاَّ دعوتم في سماء خلودكم عند المليك القـــــادر الرحمــــن
أن يجعل الهمَّ الثقيل بـــراءةً لي في الحساب فقـد بقيت أعاني
ثم تسأل اللهَ تعالى الثباتَ والمغفرةَ، وأن لا يطولَ عيشُها في دنيا الفناء، فهناك نعيمُ الله أبقى، وهناك العيشُ السعيدُ مع الأتقياءِ والمجاهدين، فتقول:
فاغفر الأمنيـــات يا ربّ عفوًا وأعنِّي دومًا ببرد العــزاء
لا تَدعني للحـزن يطمس قلبي لا تَدعني أعيش دنيا الفناء
واجعل الحــبَّ للبقاء المرجَّى في نعيمٍ بعالمِ الأتقيـــــــاء
برضـــــــاءٍ أناله منك يا ربّ وأحيا في فيضه بالسمـــاء
وقد استجاب الله دعاءها، فرحلت عن عالمنا إلى جنات الخلد إن شاء الله؛ لتلتقي هناك بزوجها وأخيها الشهيد..
رحمها الله رحمةً واسعةً وأسكنها فسيح جناته.
بقلم: د. عمرو الشيخ*
* المدير التنفيذي لمؤسسة (نور) للتنمية البشرية.
- التصنيف:
موظي
منذمحمود فوزى
منذمحمد علي
منذمحمد علي
منذابو غالب
منذamir17111984
منذزائرة
منذالنور
منذأم عمار
منذاحمد
منذ