حفلةُ (المولد النبويّ) وثقافةُ التقليد

منذ 2014-01-13

من التعبيرات الشائعة قولهم: "أَكَلَ عَلَيْهِ الدَّهْرُ وَشَرِبَ". ينطبق هذا التعبير على بعض شعائر الإسلام الذي لم يعرفه السلف الصالح، ولكن الذي عبث به المغرضون والمندسُّون بين صفوف الأمّةِ، وتَابَعَتْهُمْ في ذلك حُثالةٌ كثيفةٌ من الناس في كلّ عصر، عن جهلٍ وتقليد أعمى، حتّى تحوّل مع الزّمان إلى شِبْهِ ديانةٍ مُحَرَّفَةٍ، وَجَدْنَاهُ اليومَ في أثوابٍ غريبةٍ ومَظَاهِرَ بعيدةٍ عن أصله الطّاهر النقيّ، ومنهلهِ المقدّس.

 


 

من التعبيرات الشائعة قولهم: "أَكَلَ عَلَيْهِ الدَّهْرُ وَشَرِبَ".

ينطبق هذا التعبير على بعض شعائر الإسلام الذي لم يعرفه السلف الصالح، ولكن الذي عبث به المغرضون والمندسُّون بين صفوف الأمّةِ، وتَابَعَتْهُمْ في ذلك حُثالةٌ كثيفةٌ من الناس في كلّ عصر، عن جهلٍ وتقليد أعمى، حتّى تحوّل مع الزّمان إلى شِبْهِ ديانةٍ مُحَرَّفَةٍ، وَجَدْنَاهُ اليومَ في أثوابٍ غريبةٍ ومَظَاهِرَ بعيدةٍ عن أصله الطّاهر النقيّ، ومنهلهِ المقدّس.


 

ولعلّ الرسولَ الكريمَ صلى الله عليه وسلم كان يتوقّع هذه العاقبةَ الوخيمةَ ويخاف منها على أمّته حين يقولُ: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (أخرجه الترمذي في سننه، باب العلم).


 

عبثَ بالإسلامِ مَنْ عَبَثَ -لأمرٍ مَّا- بعد القرن الهجري الثالث، ونال منه كَثِيرٌ مِمَّنْ غَرَّتْهُ نفْسُهُ، ليس بطريقة العدوّ الْمُجَاهِرِ، ولكن بأسلوب الصاحب الماكر والرفيق الخائن الغادر، كلّما نَاوَلَهُ بطعنةٍ مسمومةٍ مِنْ قِبَلِ ظهره؛ تحرّفَ بمناورة سريعة فواساه وواسى أَهْلَهُ مِنْ قِبَلِ وجهه.


 

لقد ظهرت عادة "المولد النّبويِّ" شكلاً من هذا العبث بالإسلام لأوّل مرّةٍ في مرحلةٍ من عصور الظلام وبالتحديد في عهد الدولة العبيدية أيَّامَ (الْمُعِزِّ لِدِينِ اللهِ الفاطمي)، كَمَا أُحْدِثَتْ في تلك المرحلة تغيّراتٌ مذهبيةٌ تمثّلُ سيادةَ الفاطميين الشيعةِ في مصرَ؛ فزادوا في الأذانِ عبارةَ: "حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَل"، والقنوتَ في الركعةِ الثانيةِ من صلاةِ الجمعةِ، وأن يُقالَ في خطبةِ الجمعةِ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى، وَفَاطِمَةَ الْبَتُولِ، وَعَلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ سِبْطَي الرَّسُولِ الَّذِينَ أَذْهَبْتَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرْتَهُمْ تَطْهِيراً».


 

ورغم إلغاء الدّولة الأيوبيّة هذه البدعَ، إلا أن المماليكَ اهتمُّوا خاصّةً بإقامة حفلاتٍ تحت شعار "المولد النبويّ" وعملوا على إشاعتها وترسيخها. ثُمَّ جَاءَ العثمانيون فنزعوا إلى هذه العادة واستحسنوها ربّما عن طريق العدوى بوصفها نتيجة للعلاقات الكثيفة بين الدّولة العثمانية والدّولةِ المملوكية.


 

غير أنّ حفلات "المولد النبويّ" لم تكن شيئاً مذكوراً في المجتمع العثمانيِّ طيلةَ ثلاثةِ قرونٍ من تاريخه مع وجود أسبابِها. ومن أقواها شيوع القصص من حياةِ الرسولِ، وآلامِ أهلِ البيتِ، يتناقلها القصَّاصون في المجالس والمحافل بطريق الحديث الشفهي. وقد دَوَّنَهَا عددٌ من أُدَبَاءِ الأتراكِ باللّغة التركيّة نثراً ونظماً.


 

وأمّا أشهرها: فهي الرسالة المسمَّاة بـ "وَسِيلَةِ النَّجَاةِ"، نظمها الشاعرُ سليمان شلبي في مدينة بُورْسَا عام 1409م، وهي قصيدة شعرية تركيّة باللّهجة العثمانية، تتألّف من 800 بيتٍ فيها ذكرُ معجزاتِ الرسول صلى الله عليه وسلم ومدائح. ولا يخلو بيتٌ من بيوتِ الأتراكِ السُّنِّيِّينَ اليومَ من نسخةٍ من هذه الرسالة، منها: ما هو مطبوع بالحروف اللاتينية، وأخرى بالحروف العربية، والأُولى أكثر شيوعاً، ويحفظُ مُعْظَمَهَا "قُرَّاءُ الْمَوْلِدِ" عن ظهرِ قلبٍ، خاصّةً أعضاءَ "جمعيّةِ المولدِ النبويِّ" المختصين بتلاوة قصيدة المولد في الحفلات، وهم فئة تستدعيهم عائلات من الطبقة الثريَّة لقراءة المولد في أيام هنائهم وعزائهم.


 

هذه القصيدة عند الأتراك السُّنِّيِّينَ هي بمثابة البردة للبوصيريّ عند صوفية العرب، وفيها من الغلوّ ما في البردة. ولكنّ الطَّامَّةَ الكبرى أنَّ قصيدة المولد تتبوّأُ في ضمير كثير من الأتراك منزلةً لا تقلّ عن منزلة القرآن الكريم! فهي مصدر البركة عندهم، ووسيلة الغفران لموتاهم، تبدو هذه الحقائق بكل وضوح في صيغ دعائهم حين يتضرعون بقولهم:


 

lâhi ya rabbi, okumu oldu umuz bu mevlid-i eriften has l olan sevab Sevgili peygamberimizin ve bütün geçmilerimizin ruhlar na hediye eyledik sen vas l eyle.


 

ومعنى هذا الدعاء: «اللهمَّ أَوْصِلِ الثَّوابَ الحْاصِلَ مِمَّا تَلَوْنَاهُ مِنْ هَذَا الْمَوْلِدِ الشَّرِيفِ إِلَى رُوحِ نَبِيِّنَا الْحَبِيبِ وَإِلَى أَرْوَاحِ أَمْوَاتِنَا جَمِيعاً»، وهذا ابتداعٌ ما أنزل الله به من سلطان.


 

طقوس المولد في تركيا:


 

تُقام حفلات "المولد النبويّ" فيِ المساجد، وقد يحضرها مفتي الديار التركية و(رجال الدين) والسياسيون ورجال العمل وجماهير من الناس، إلاَّ أنَّ هذه القصيدةَ التركيّةَ لم يُسمَعْ أن تَنَاوَلَهَا أحدٌ من علماءِ الأتراكِ بالنقد من مُنْطَلَقِ العقيدةِ الحنيفية بخلاف البردةِ،فإنّ كثيراً من العلماء في البلاد العربية قد درسوا البردةَ وبيَّنوا ما فيها من مواطنِ الغلوِّ وَما يخالف عقيدةَ التوحيدِ في الإسلام.


 

ولعلّ هذا يدل على سطحية معرفةِ (

رجال الدين) بأصول التوحيد في تركيا. وقد ترتبطُ المشكلةُ بضعف علمهم بالعربية.

ويغلب أنَّ العُجْمَةَ السّائدةَ في الدين واللُّغةِ لدى المجتمع التركيِّ هي العقبةُ العظمى التي حالتْ بينه وبين الإسلام الصحيح منذ اعتناقهم هذا الدين، على رغم انتمائهم الشديد إلى الدين الإسلاميِّ واعتزازهم به، ومحبتهم البالغة لكتاب الله ورسوله.


 

وهذه المشكلةُ العظيمةُ جديرةٌ بأن يَتَنَاوَلَهَا هيئاتٌ علميّةٌ بالبحوث العميقة والدراسات الموسَّعة في أبعادٍ متعددةِ الوجوهِ، للوصول إلى الأسباب التي أسفرت عنها مشكلات أخرى يعاني منها العالم الإسلاميُّ اليومَ.


 

أُقِيمَتْ حفلةُ "لمولدِ النبويِّ" لأوّل مرّةٍ في عهد السلطان مراد الثالثِ (1574-1595م)، وهو الثّانِي عشر من سلاطين بني عثمان، ومعروفٌ بسيرةٍ غيرِ محمودةٍ على لسان أهل الاختصاصِ والحِيَادِ من المؤرّخين.

ومن أهم وقائعه: إعدامُ إخوته الخمسة صباحَ جلوسه على العرش، وإِدْمَانُهُ الخمرَ، وانْهِمَاكُهُ في مضاجعةِ الجواري ومجالسةِ السفهاءِ، واستغلالُهُ الأثرياءَ، وتبذيرُهُ على حساب بيت مال المسلمين.


 

وَرَدَ بقلم المؤرخ رشاد أكرم كوجو في كتابه الموسومِ "سلاطين بني عثمان" أنه استمرّت حفلات السهرة التي أُقيمت بمناسبة تطهير -ختان- ولده البِكْرِ الأمير محمّد، ثلاثَةً وخمسين يوماً، وبلغ ما تمّ إنفاقه من المال في هذه المدّة إلى حدود ما تمّ صرفه في تنفيذ قناة السويس.


 

أقيمت حفلةُ "المولدِ النبويِّ" بفرمانٍ (أي: مرسوم سلطاني) أصدره السلطان مراد الثالث في أيام هذه السهرات عام 1582م، ويكفي هذا لكشف القناعِ عن أسرار ما يسمِّيه الناس بحفلةِ المولدِ النبويِّ!


 

إنّ قصائد المولدِ النبويِّ في تركيا تختلف من حيث اللّغة باختلاف الطوائف العرقيّة من أهل السنّة التقليديّة؛ فَلِكُلٍّ من العرب والأكراد والظَّاظَا والشراكسة قصائد المولد بلغاتهم، إلاَّ أَنَّ أشهرَهَا وأكثَرَهَا انتشاراً: هي القصيدة التركيّةُ للشاعر سليمان شلبي، ومطلعها:


 

الله آدِينْ ذِكْر ايدَلِمْ أَوّلا وَاجِبْ *** أُولْدُرْ جُمْلَهْ إِيشْدَهْ هَرْ قُولَه


 

ثمّ تأتي بعدها القصيدة الكُرْدِيَّةُ الّتي نظمها الشاعر الْكُرْدِيُّ (مَلاَ بَاتَهْ)، وقد عُرِفَ باسم: الملاَّ حسن الأرطوشي (أو الهرطوشيِّ).


 

ومطلع هذه القصيدة:

 


حَمْدِ بِي حَدْ بُو خُدَايِ عَالِمِين *** أَوْ خُدَايِ دَايَهْ مَهْ دِينِ مُبِينكا نت


 

هذه القصيدةُ الكُرْدِيَّةُ ممنوعةَ الطبعِ والنّشرِ إلى الماضي القريب، ثمّ سمحت بها السلطةُ ضمن جملة من مطالب الأكراد بعد ضغوط من الاتحاد الأوروبيّ الّتي استسلمت لها الحكومات التركيةُ أخيراً.


 

إنّ الصورة الّتي تتراءى من خلال هذه السطور الوجيزة دونما أي تعليق، تُعدُّ شاهدةً على الشتاتِ والتفكُّكِ والتفرقة الرهيبة الّتي لحقت بأمة الإسلام نتيجة تحويل الدين إلى سلسلة من العادات، وتفرض هذه الصورةُ نَفْسَهَا في كلّ بقعة من الوطن الإسلاميّ الكبير، وهو ما يدعو إلى تأمُّلٍ بالغٍ في شأن العادات الْمُخْتَلَقَةِ باسم الدين.


 

وتجدر الإشارة بهذه المناسبة إلى أن كلّ شريحة من نسيج هذه الأمّةِ قد اتّخذتْ موقفاً من الإسلامِ بحسب نزعاتها التقليدية وثقافتها الموروثة من العهد الجاهليّ، يختلف موقفها هذا عمّا حدّده الكتاب والسنّة (إلاّ مَنْ رحم ربّي).


 

ويتلخّص هذا الموقف في ثلاث فئاتٍ رئيسةٍ هي: الموقف الصوفيُّ، والمذهب المتعصب، والموقف الفلسفيُّ. وهذا موضوع دراسةٍ مستقلّةٍ في غير هذا المقام، علماً أنّ عادةَ "المولدِ النبويِّ" سِمَةٌ تمثّلُ الموقف الصوفيَّ والمذهب المتعصب (من الإسلام) في آنٍ واحد على الساحة التركية بالتحديد!


 

لذا، ليست حفلةُ "المولدِ النبويِّ" مجردَ عادةٍ تناقشها الأطراف المتنازعة من وجهة نظر الدين بوصفها بدعةً فحسب، وإن كان يبدو هذا المنطلق أقوى الذرائع، ولكنّها قضيّةٌ ذاتُ جذورٍ تاريخيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ تحتاج إلى أكثر من هذا تأمُّلاً وبحثاً.



فريد صلاح الهاشمي
 
المصدر: مجلة البيان ـ العدد [257] صــ 54
  • 0
  • 0
  • 3,356

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً