كرامات الأولياء بين أهل السنة ومخالفيهم (1/2)
نتكلم هنا عن مفهوم الولاية والأولياء بين أهل السنة والمتصوفة، ومفهوم الخوارق والكرامات وما تتميز به عن الأحوال الشيطانية، ثم الإلهام والفراسة والرؤى؛ ببعض الأدلة والأمثلة والضوابط والفوائد، وتبِع ذلك ذكر مواقف المخالفين من المنكرين للكرامات، أو المتوسعين فيها المتفلتين من الضوابط الشرعية.
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيه ومصطفاه، وآله وصحبه، وبعد:
فإنه لما صحت أفهام سلف الأمة من الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وأحسنوا العبادة وما أراد الله منهم، انصرفت عنايتهم لما كُلّفوا به، فحرصوا على ما ينفعهم غاية الحرص، ولم يأبهوا بما يشغلهم عن ذلك ويلفت قلوبهم إلى سواه، فقلّ كلامهم، وبلغوا من العمل منتهاه. ولما كثر الكلام، وقل العمل، وزاد الانحراف حدة، عظمت المخالفة في أمور؛ منها ما حصل في مفهوم الأولياء وكراماتهم، وشرّق الناس في أمر الكرامات وغربوا، حتى صارت تشكو من الأحوال الآتية:
1- استفحال أمر الصوفية في المبالغة في الكرامات، وما يسمونه بالكشف والإلهام، حتى أتوا فيها بما ينافي الشرع والعقل؛ ويظهر هذا جلياً لمن نظر في كتبهم مثل: (الطبقات الكبرى) للشعراني، و(جامع كرامات الأولياء) لابن الملقّن، و(كرامات الأولياء) للنبهاني ونحوها. والخطير في الأمر تصديق عامة الناس من السذج والبسطاء والمغفلين لمثل هذه الخرافات المنكرة، حتى صارت تصوغ عقول كثير من الناس، وأصبحت معياراً للاستدلال، وطريقاً للتعبد.
2- توسّع أهل الكلام (الأشاعرة والماتريدية) من وجه آخر، وتجويزهم أن تصل كرامات الأولياء إلى حدّ معجزات الأنبياء.
3- إنكار معتزلة الأمس، ومعتزلة اليوم (العقلانيين) للكرامات.
4- تلبيس أهل السحر والشعوذة بخوارقهم على العامة، وادعاؤهم أنها كرامة!
ويبقى أهل السنة بوسطيتهم يقفون في أمر الكرامات موقفاً وسطاً يتميزون به، سيراه القارئ الكريم مدعّماً بالأدلة، محلىً بالأمثلة والضوابط والفوائد.
ولا بد من الكلام أولاً عن مفهوم الأولياء. والله المعين.
معنى الولاية:
قال ابن فارس: "الواو واللام والياء أصل صحيح يدل على قرب. من ذلك الولْي: القرب. يقال: تباعد بعد ولْي، أي: بعد قرب. ومن الباب المولى: المعتِق والمعتَق والصاحب والحليف وابن العم والصاحب والجار، كل هؤلاء من الولْي وهو القرب، وكل من ولي أمر آخر فهو وليه" (معجم مقاييس اللغة).
والوَلاية: النصرة، والوِلاية: تولي الأمر. وقيل: الولاية والولاية نحو: الدّلالة والدّلالة، وحقيقته: تولي الأمر، والولي والمولى يستعملان في ذلك (مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني).
أما الولاية الشرعية فأمرها غاية في الوضوح، قال الله تبارك وتعالى: {أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس:62-64] فكل مؤمن تقي هو ولي لله تعالى بالمعنى الشرعي، ويدخل في ذلك الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم فهم سادة الأولياء. لكن الأولياء في الاصطلاح يراد بهم مَنْ سوى الأنبياء، فيمكن أن يقال إن الولي هو: كل مؤمن تقي ليس بنبي.
والإيمان عند أهل السنة قول وعمل، وهو قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح. وقول القلب هو الاعتقاد الجازم، وعمله قيامه بالعبادات القلبية كالإخلاص والمحبة والخوف والرجاء.
والتقوى: فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه، وإذا قرنت مع البر كانت التقوى اسماً لتوقي جميع المعاصي، والبر اسماً لفعل الخيرات (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن السعدي). قال ابن رجب: "فظهر بذلك أنه لا طريق توصل إلى التقرب إلى الله تعالى وولايته ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن ادعى ولايته والتقرب إليه ومحبته بغير هذه الطريق تبين أنه كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدون من دونه" (جامع العلوم والحكم). وقال ابن حجر: "المراد بولي الله المواظب على طاعته، المخلص في عبادته" (فتح الباري).
وأولياء الله على مرتبتين:
إحداهما: مرتبة من تقرب إلى الله بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين.
وثانيتهما: من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل، وهذه درجة السابقين المقربين، وقد ذكر الله تلكما الدرجتين ودليل الصنفين في سورة الواقعة والرحمن والإنسان والمطففين وفاطر(جامع العلوم والحكم)، فقال: {فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ} [الواقعة:8]. ثم قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10-11].
والحاصل أن الولاية مرتبة في الدين عظيمة لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهراً وباطناً بفعل المأمورات وترك المنهيات؛ فهي درجة عالية لا يُصعد إليها إلا بسلّم الشريعة؛ بل من اعتقد ولاية من يترك الواجبات ويفعل المحرمات فهو كافر مرتد؛ لتكذيبه الآية (أولياء الله عقلاء ليسوا مجانين - لابن تيمية).
والولاية لها جانبان: جانب يتعلق بالعبد: وهو القيام بالأوامر، واجتناب النواهي، ثم التدرج في مراقي العبودية بالنوافل، وجانب يتعلق بالرب تعالى: وهو محبة هذا العبد ونصرته وتثبيته على الاستقامة، أما الكرامات فهي أمر إضافي وليست شرطاً في الولاية (مقدمة تحقيق كرامات أولياء الله للالكائي - لأحمد سعد حمدان) كما سيأتي.
فضل الولاية والأولياء:
يكفي الأولياء ما جاء في الآية من تولي الله لهم، ونصرتهم وتأييدهم ومعونتهم وإصلاح أحوالهم، وأنه لا خوف عليهم مما أمامهم في الآخرة، ولا هم يحزنون على ما خلفهم من الدنيا، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. هنيئاً لهم، يوفقهم الله بهدايته وتسديده، ويحوطهم بحمايته ونصرته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري). وهذا أصح حديث يروى في الأولياء (الفرقان). وقد ذُكر فيه المقتصدون والسابقون، أما الظالم لنفسه بالإصرار على الذنوب فلا يكون ولياً حتى يتوب.
الولاية لا تستلزم العصمة:
الولي بَشَرٌ يجوز عليه ما يجوز على الناس من الغلط والسهو والظن الخاطئ ونحو ذلك، ولا يقدح ذلك في ولايته خلاف ما زعمت الصوفية من أن القلب إذا كان محفوظاً كانت خواطره معصومة من الخطأ! فإنه ليس في النصوص ما يدل أو يشير إلى ذلك، بل نصوص الشريعة وإجماع العلماء على خلاف ذلك، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ . لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ . لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأََ الَذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر:33-35]، فأثبت لهؤلاء المتقين المحسنين ذنوباً، وأنه يغفرها لهم، ولم تكن تقواهم مستلزمة لعصمتهم من الذنوب.
وأيضاً: فـ « » (الحديث رواه الترمذي) ، وهو من سادات الأولياء، ومع ذلك لم يكن يركن إلى ما يلقى في قلبه؛ بل يعرضه على الكتاب والسنة، ويدع ما خالفهما، وعلى هذا النهج مشى الركب. قال أبو سليمان الداراني: "إنه يقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة" (الفرقان).
وخطأ الولي في اجتهاده العلمي ليس نقصاً في ولايته إذا كان ممن استفرغ جهده في البحث والاستدلال، وخطؤه مغفور له، وهو مأجور غير مأزور. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (أخرجه البخاري).
الولاية عند الصوفية:
اختص الصوفية بمفهوم آخر للولاية؛ حيث زادوا على الحدّ الشرعي فقال أبو القاسم القشيري: "الولي له معنيان: أحدهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله سبحانه أمره. والثاني: فعيل، مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولى عبادة الله وطاعته، فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان، وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي ولياً" (الرسالة القشيرية). وقوله هذا تأسيس للقول بعصمة الولي. وعرفه الجرجاني بمثل تعريف القشيري، وقال الجرجاني أيضاً: "الولاية هي: قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه" (التعريفات). وهذا يشير إلى الفناء أو الحلول.
ويمكن تلخيص انحرافات الصوفية التي خالفوا بها الكتاب والسنة في مفهوم الولي في نقاط عدة (انظر تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي - محمد أحمد لوح):
1- زعمهم أن الولي يتطور ويتشكل ويتواجد في أماكن مختلفة في آن واحد. قال الشعراني في ترجمة الشيخ حسين أبي علي: "كان هذا الشيخ من كُمّل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرى، وكان كثير التطورات تدخل عليه الأوقات تجده جندياً، ثم تدخل عليه فتجده سبعاً، ثم تدخل فتجده فيلاً، ثم تدخل عليه فتجده صبياً، وهكذا" (الطبقات الكبرى).
2- أن ما يتخيله الولي ويتصوره في خياله فإنه يقع كما تخيّل. كما حكى الشعراني عما حصل للجوهري، حين غطس في البحر وتخيل أنه تزوج عراقية فأنجبت له أولاداً، فأتته بعد مدة بأولادها منه (الطبقات الكبرى).
3- دعواهم عصمة الولي وأنه لا يجوز الإنكار عليه ولو خالف الشريعة. فقد نقل الشعراني عن علي الخواص قوله: "إياك أن تصغي لقول منكر على أحد من طائفة العلماء أو الفقراء، فتسقط من عين رعاية الله عز وجل" ثم قال: "وإنما نهى القوم عن المنازعة؛ لأن علومهم مواجيد لا نقل فيها" ثم وصفها بكونها وراثة نبوية (الطبقات الكبرى).
4- أن الولاية تكون بأيدي الأولياء الكبار يهبونها لمن شاؤوا. يقول الدباغ: "يقدر الولي على أن يكلم أحداً في أذنه، ولا يقوم عنه حتى يكون هو والولي في المعارف على حد سواء" (لإبريز من كلام سيدي عبد العزيز-لأحمد بن المبارك). وهذا يبين وجهاً من مخالفتهم في كيفية اكتساب الولاية، كما قالوا باكتسابها بالتخلي والرياضة ونحو ذلك.
5- زعمهم أنهم يقابلون النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ويتلقون عنه التشريع، ويسألونه عن الحلال والحرام، وصحة الحديث وضعفه (الطبقات الكبرى في ترجمة أبو المواهب الشاذلي).
6- ادعاؤهم أن للولاية خاتماً كما للنبوة خاتم، وهي فكرة صوفية اخترعها الحكيم الترمذي، وطورها الصوفية بعده حتى جعلوا لكل زمان خاتماً، ومنهم من جعل لولاية الخصوص خاتماً، وخاتماً لولاية العموم، فلا ولي بعده! (تقديس الأشخاص).
7- نسبتهم إلى الأولياء صفات الربوبية من علم الغيب، والتصرف في الكون. وانظر مثلاً ما حكاه الشعراني عن إبراهيم الجعبري من اطلاعه على خفايا من أحوال الناس (تقديس الأشخاص). وقد حكى الشعراني عن الجعبري أنه كان يُضْحِك ويُبْكِي من حوله إذا شاء، وأنه حبس بول ناس ثم أطلقه! (تقديس الأشخاص). ونقل عن محمد الحضري أنه يقول: "الأرض بين يدي كالإناء الذي آكل منه، وأجساد الخلائق كالقوارير أرى ما في بواطنهم" (تقديس الأشخاص). ونقل عن الشربيني أنه كان يقول للعصا التي كانت معه: "كوني إنساناً فتكون إنساناً، ويرسلها تقضي الحوائج ثم تعود كما كانت" (تقديس الأشخاص).
كرامات الأولياء:
تعد الكرامة نوعاً من خوارق العادات. والعادة هي: الحالة المتكررة على نهج واحد، كعادة الحيض في المرأة (المعجم الوسيط). وخرق العادة إنما يكون بتمزيقها ووقوعها على خلاف الحال المعهودة المألوفة التي استقر وقوعها عليه (النبوات-لابن تيمية). وخوارق العادات قد تكون باستغناء الإنسان عن الحاجات البشرية كالطعام والشراب بأن تحصل له بسبب غير معتاد، أو تكون بأن يعلم شيئاً فيراه أو يسمعه، وليس في إمكان البشر سماعه أو رؤيته عادة، وهذا المسمى: الكشف أو المكاشفة، وقد تكون بحصول الأثر في الأشياء مما ليس في قدرة البشر فعله في العادة، كوجود ضوء من غير مصدره، ومن هذا إجابة الدعوة.
إن تمام الغنى والعلم والقدرة التي تكون الخوارق من جنسها إنما هو لله تعالى وهو الذي يخرق العادة لمن شاء، ولذا نفاها نوح عليه السلام عن نفسه، وأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينفيها عن نفسه، فقال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] (الصفدية وقاعدة في المعجزة من الكرامات-لابن تيمية). كما أن تلك الخوارق منها ما يكون محموداً إذا أعان صاحبه على البر والتقوى، كمعجزات الأنبياء وكرامات الصالحين لحجة في الدين أو حاجة بالمسلمين، ومنها ما يكون مذموماً حيث كان عوناً على الظلم والفجور، كخوارق السحرة والفجرة، وما لم يكن من هذا ولا ذاك كأن كان عوناً لصاحبه على قضاء حاجته فإنه المباح، ثم إن استُغل في خير أو شر صار محموداً أو مذموماً (النبوات وشرح الطحاوية).
تعريف الكرامة:
الكرامة لغة: مصدر كَرُم، أو اسم مصدر من كرّم أو أكرم. والكاف والراء والميم: أصل صحيح، له بابان؛ أحدهما: شرف الشيء في نفسه، أو شرف في خلق من الأخلاق (معجم مقاييس اللغة). ويظهر أن الكرامة من الباب الأول لشرفها في ذاتها، وصاحبها كريم من الباب الثاني لشرفه في خلُقه مع الخالق تعالى ومع الخلق أيضاً. والكرامة من الكرم، وهو: ضد اللؤم ونقيضه (القاموس المحيط)، والكرامة: اسم يوضع للإكرام، كما وضعت الطاعة في موضع الإطاع (لسان العرب).
أما اصطلاحاً: فلم ترد الكرامة بهذا اللفظ في الكتاب ولا السنة ولا كلام الصحابة، وقد سماها الله عز وجل آية، فقال بعد ذكر كرامة أهل الكهف في ازورار الشمس عن كهفهم المفتوح جهتها: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17] فهي آيات وبراهين على قدرة الله، ودالة على كرامة صاحبها وإنما سميت بهذا تمييزاً لها عن المعجزة، وهذا التفريق في اللفظ إنما قال به كثير من المتأخرين (النبوات، وقاعدة في المعجزات والكرامات)، ثم شاع، وصار هو المقول به في عامة أقوال العلماء.
وحيث وجد الخارق للعادة نظرنا فيمن وقع له؛ فإن كان مؤمناً تقياً، وكان هذا الفعل الخارق مما يصلح ظهوره على يد الولي: عددنا ذلك كرامة، وعلى ذلك فيمكن تعريفها بأن يقال: هي أمر خارق للعادة يجريه الله على يد ولي ليس بنبي علم الولي بذلك أم لا (تقديس الأشخاص).
ومنه يظهر أن شروط الكرامة هي:
1- وجود أمر خارق للعادة.
2- ظهورها على يد ولي، وإلا لم تكن كرامة، بل استدراجاً.
3- كون هذا الولي ليس نبياً.
4- كون هذا الخارق مما يصلح أن يكون كرامة لولي، فلا يشتمل على معصية، أو باطل (الموافقات للشاطبي). ولا يشترط عدم التحدي، ولا كونها لحجة أو حاجة (النبوات وشرح الواسطية)، ولا علم صاحبها بها.
الفرق بين الكرامة والمعجزة:
كرامات الأولياء من باب معجزات الأنبياء، والاختلاف بينهما في الدرجة، ويظهر الفرق بينهما في الأوجه الآتية:
الأول: الكرامة لا تصل إلى درجة معجزات الأنبياء، كما أن أصحابها الأولياء لا يصلون في الفضيلة والثواب درجات الأنبياء؛ فللأنبياء معجزاتهم الكبرى التي لا يظهر مثلها على يد أحد من الأولياء أو الشياطين، وهي من الأدلة على صدقهم، فلا يمكن أن تختلط بأحوال غيرهم، قال ابن تيمية رحمه الله: "فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين" (النبوات).
ولكن هناك خوارق أقل درجة تسمى صغرى، وهي من التوابع والنوافل، ولا يعتمد عليها استقلالاً في صدق الأنبياء، وهي التي يجوز أن يظهر مثلها على يد الأولياء كرامة لهم، ودلالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم الذي تبعوه؛ فهذه الدرجة من المعجزات التي يحصل مثلها للإنس أو الجن لا تكون وحدها آية للنبي؛ فإن الله أيد نبوتهم بتلك المعجزات الكبرى التي لا يقدر عليها إنس ولا جن (النبوات، والموافقات للشاطبي). وهذه بحمد الله قاعدة واضحة للتمييز بين المعجزة والكرامة، يشهد لها قول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري). والمعنى أن كل نبي أعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها (النبوات). وبهذا يتبين خطأ قول من قال بأن كل ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي (وهم عموم الأشاعرة).
الثاني: أن المعجزة تقع للنبي مقترنة بدعوى النبوة، وليست كذلك كرامة الولي.
الثالث: أن المعجزات من الدلائل على صدق النبي وتأييد الله له، وتأتي لحاجة الخلق وهدايتهم، وتحصل للأنبياء وهم عالمون بوقوعها، كما يجب عليهم إظهارها، خاصة إذا توقف إيمان الناس عليها، ولا يشترط كل ذلك في الكرامة.
الفرق بين الكرامات والأحوال الشيطانية:
وإذا اعتبرنا المعجزات والكرامات من باب واحد، وجعلنا النبوة أساساً للتفريق بين الكرامات والأحوال الشيطانية (موقف ابن تيمية من التصوف-د أحمد بناني) سهل الأمر جداً، وتبين الفرق بينهما في الأمور الآتية:
1- أن الكرامات سببها الولاية الحقة لله تعالى وهي الإيمان والتقوى (الموافقات، والنبوات)، فلا عبرة بالخوارق بدون ذلك، إنما هي من الشيطان. قال الشافعي رحمه الله: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة" (تفسير ابن كثير، قاعدة في المعجزات والكرامات). ومن النكت المليحة لأبي يزيد البسطامي قوله: "لله خلق كثيرون، يمشون على الماء، لا قيمة لهم عند الله، ولو نظرتم إلى من أعطي من الكرامات حتى يطير، فلا تغتروا به، حتى تروا كيف هو عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والشرع" (سير أعلام النبلاء، والحلية).
2- أن الكرامات قائمة على الصدق، بخلاف تلك المخاريق المبنية على الكذب: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221-222].
3- أن الخوارق الشيطانية في حقيقتها هي تصرفات من جنس تصرفات الجن والإنس، تفعلها الشياطين في غيبة عن أعين الإنس؛ من نقل شيء أو قتل أو أذى ونحوه، وليس فيها تحويل جنس إلى جنس، ولا ما يختص الرب بالقدرة عليه، ولا ما تختص به الملائكة فأين هذا من تكثير الماء القليل، بحيث يفيض حتى يصير بذاته كثيراً (النبوات).
4- أن الكرامات هبة من الله، أما الخوارق والأحوال الشيطانية فتحصل بالتعلم والرياضة ودعاء الجن والشياطين، والتقرب إليهم (تقديس الأشخاص).
5- أن أولياء الله يحاولون إخفاء الكرامة، ولا يلتفتون إليها، ويعلمون أنها نعمة يجب شكرها، ويخشون أن تكون ابتلاء لا يثبتون فيه، ومن كان هذا حاله فلا يتصور منه أن يجعل الكرامات ميدان منافسة، فيسعى إلى إبراز كراماته، وإبطال كرامات غيره، وأصحاب الأحوال الشيطانية على خلاف هذا تماماً، بل لا يظهرونها غالباً إلا في حضرة الناس، ويتحدى بعضهم بعضاً فيها، بغرض إبراز المهارات في الخديعة والمكر، فيقع بينها من التعارض الشيء الكثير (تقديس الأشخاص).
6- أن كرامات الأولياء أمر ثابت في النصوص الشرعية وواقع الصالحين، بخلاف تلك الأحوال الإبليسية التي يُبطل أثرها الذكر والقرآن. وشتان بين ما يخنس بتلاوة القرآن ويبطل أثره أو يضعف، وبين ما يقويه القرآن، ويزيده نوراً (تقديس الأشخاص).
الإلهام والفراسة من كرامات الأولياء:
أ - الإلهام لغة: يدل على ابتلاع شيء ومن هذا الباب : الإلهام، كأنه شيء ألقي في الروع فالتهمه، قال الله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] (معجم مقاييس اللغة-لابن فارس) والإلهام: إيقاع شيء في القلب، يطمئن له الصدر، يخص الله به بعض أصفيائه (المعجم الوسيط).
والملهم هو: المحدّث، المُفْهَم، الذي يصدق ظنه في الأشياء، تتكلم الملائكة على لسانه، فيجري عليه الصواب من غير قصد منه، ويطلق على ذلك المكاشفة.
والمكاشفة الصحيحة: علوم يحدثها الرب سبحانه وتعالى في قلب العبد، ويطلع بها على أمور تخفى على غيره، وقد يواليها، وقد يمسكها عنه بالغفلة عنها (مدارج السالكين).
دليل الإلهام: قول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري). ولا يعدو الإلهام أن يكون فتحاً من الله تعالى على عبد من عباده المؤمنين بما يوافق الحق الذي أنزله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، كالرؤيا الصالحة فيها كشف للنائم، وإطْلاع له على شيء مما لم يقع بعد. مصداقه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: « » قالوا: وما المبشرات؟ قال: « » (رواه البخاري).
والإلهام على منزلته لا يمكن أن يكون مكملاً لنقص في الدين، أو محدِثاً لحكم جديد فيه، كما هو الحال تماماً بالنسبة للرؤيا؛ فإن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأمره بأمر وجب عليه أن يعرضه على الشرع؛ لأن كل من كان من أهل الخطاب والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يجعل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً لما ورد عليه (ابن تيمية، في الفتاوى). ومن الإلهام: ما وقع للصديق رضي الله عنه في موقفه يوم قتال أهل الردة، حين خالفه كثير من الصحابة، فقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها" (أخرجه البخاري)، حتى شرح الله صدور أصحابه لما أراه من الحق، ومنها: تسيير جيش أسامة الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته.
وقال عمر رضي الله عنه: "وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، وقلت: يارسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلتُ عليهن، قلت: إن انتهيتن، أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه قالت: يا عمر! أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ} [التحريم من الآية:5]" (رواه البخاري). ومن إلهاماته: اختياره قتل أسارى بدر.
ب - الفراسة: يراد بالفراسة في اللغة معنى ذا جانبين؛ أحدهما أخص من الآخر، وهما:
1- المعرفة بالأمور، والخبرة بالأحوال، من خلال النظر المحكم فيها.
2- المهارة في تعرف بواطن الأمور من ظواهرها (المعجم الوسيط).
ويمكن تعريف الفراسة في الاصطلاح بأنها: نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن الملتزم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يكشف له بعض ما خفي على غيره، مستدلاً عليه بظاهر الأمر، فيسدد في رأيه، دون أن يستغني بذلك عن الشرع. والفراسة المقصودة هنا الفراسة الإيمانية، وهي غير فراسة الرياضة، والفراسة الخلقية، بل هي على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدّ فراسة (مدارج السالكين)، فمن غرس الإيمان في أرض قلبه الطيبة الزاكية، وسقى ذلك الغراس بماء الإخلاص والصدق والمتابعة، كان من بعض ثمره هذه الفراسة (مدارج السالكين). والسبب أن هذه الفراسة نشأت له من قربه من الله تعالى فإن القلب إذا قرب من الله انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه، وكان تلقيه من مشكاة قريبة من الله بحسب قربه منه، وأضاء له من النور بقدر قربه، فرأى في ذلك ما لم يره البعيد والمحجوب كما ثبت في حديث الأولياء، "وليس هذا من علم الغيب، بل علام الغيوب قذف الحق في قلب قريب منه" (الروح-لابن تيمية).
وللفراسة من الفوائد:
1- الانتفاع بالمواعظ، والاستفادة من الحوادث والعبر، قال تعالى بعد أن ذكر قصة إهلاك قوم لوط: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر من الآية:75] أي: الناظرين المتفرسين المتفكرين المعتبرين.
2- دقة الحكم بين الناس وخاصة من القضاة، وحفظ الحقوق، وتحقيق المصالح العامة، التي يهدف الشرع إلى تحقيقها (الطرق الحكمية).
3- تولية الأكفاء في رعاية مصالح الأمة.
4- توقع الأحداث قبل وقوعها، فتؤخذ لها العدة والحيطة، فتُتّقى الشرور وتدفع المفاسد.
ومن الفراسة: ما وقع لعمر حين دخل عليه نفر من مذحج، فيهم الأشتر النخعي، فصعّد فيه البصر وصوبه وقال :"أيهم هذا؟" قالوا: مالك بن الحارث، فقال: "ما له قاتله الله؟ إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً". وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل عليه رجل من الصحابة وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال له عثمان: "يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنى ظاهر على عينيه؟! فقلت: أوَحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة" (الروح-لابن تيمية).
عبداللطيف بن محمد الحسن
- التصنيف: