حوار مع الشيخ عوض القرني
عوض بن محمد القرني
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فقد طلب موقع إيلاف من الدكتور عوض القرني إجراء حوار معه, ورحّب الدكتور عوض بدعوتهم وأرسلت الإجابات لهم يوم الثلاثاء الموافق 14/5/1426هـ ونشر ليلة السبت بضع ساعات ثم قام الموقع بحذفه برئاسة عبد الله بن بخيت, لذا أحببنا نشره لتعم الفائدة ولتعلم الحقيقة..
حاوره: يحيى العبدلي, سالمة الموشي..
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
نرحّب بفضيلة الشيخ الدكتور عوض القرني في موقع إيلاف ونسعد بإجراء هذا الحوار معه:
1- ما هي أبرز مفاهيم الصحوة الإسلامية اليوم ؟
الصحوة الإسلامية تعني تجديد الدين مع المحافظة على أصالته، أي أننا نعود إلى الدين في تناول القضايا المعاصرة والمستجدات والنوازل من قضايا المجتمعات وقضايا الحضارة وقضايا الإنسان، دون أن نَبقى أسرى لصور تقليدية اجتهادية غير معصومة تاريخية معينة؛ فنحن ننطلق من الدين والدين مرجعيتنا, ونستلهم الدين، لكننا نتعامل مع المستجدات بنظر جديد في إطار الدين, والصحوة الإسلامية هي التعبير العملي في صورة فكرية وصورة سلوكية وصيغ حضارية مختلفة في جميع جوانب الحياة المختلفة عن هذا المعنى التجديدي للدين, و الصحوة تعني أن الناس عادوا إلى أصالتهم وإلى دينهم وتناولوا قضايا الرقيِّ والتطور والتنمية والحضارة, وفق خصوصياتهم وعقائدهم وقيمهم وأخلاقهم ومصالحهم, والصحوة تعني أنها عادت بالأمة إلى جذورها بعد اغتراب أو جمود.. هذه هي الصحوة باختصار شديد .
2. كيف يرى الشيخ القرني ما يدور من جدل حول التيار الجهادي في العالم الإسلامي؟
التيار الجهادي هي محاولة من محاولات إحياء شعيرة من شعائر الإسلام الكبرى, وهذه المحاولة صاحبها كثير من الصواب في عديد من البلدان, وصاحبها كثير من الأخطاء - وأحياناً الفظيعة - في عديد من البلدان فمثلاً في البلدان الإسلامية التي ابتليت بالاحتلال الأجنبي مثل ما هو في فلسطين أو مثل ما هو في العراق أو مثل ما في أفغانستان أيام الاحتلال السابق واللاحق أو مثل ما هو في كشمير, الاحتلال الهندي الذي صادر حق الشعب الكشميري في تقرير مصيره كما أقرّته القرارات الدولية, أوفي جنوب الفلبين أو في كثير من القضايا فهي دفاع مشروع عن النفس وعن المجتمع وعن النساء والعجزة والمساجد ودور العبادة والمصالح, وبالتالي فهي حق مشروع كفلته جميع الأديان وجميع الشرائع, وأيضاً تحت هذه اللافتة كان هناك العديد من الممارسات الخاطئة في العديد من البلدان الإسلامية التي حملت السلاح لتصفية الحسابات في داخل المجتمع المسلم ذاته، وأدّت إلى إهدار الدماء، وأدّت إلى الغلوّ وإلى التكفير.. هذا جانب, الجانب الثاني بالنسبة لموضوع التيار الجهادي في العالم الإسلامي.. أقول إن الأخطاء والممارسات التي وقعت من بعض فصائل هذا التيار من أسبابها أولاً الظلم العالمي الذي يمارَس على العالم الإسلامي في جميع قضاياه والكيل بمكيالين, ومحاولة إنهاء وجود الأمة وفرض الهيمنة عليها واستلاب مصالحها ومصادرة حقها في أن تعيش حرة كريمة وفق ما تراه لنفسها, وكذلك من أسباب بروز هذا التيار القمع والاستبداد والظلم والتخلّف الذي تمارسه الأنظمة التسلّطية في كثير من بقاع العالم الإسلامي, وكذلك من أسباب بروز هذا التيّار: تقاعس الدعاة والعلماء عن القيام بدورهم أو الحيلولة دونهم ودون القيام بدورهم في تنوير الأمة بإسلامها الوسطي المعتدل الحقيقي، الذي هو رحمة للعالمين. ومن الأسباب الغلو في التديّن والتشدّد في الفهم. ومن الأسباب الغلوّ العلماني ضد الإسلام ودعاته.. وغير هذا كثير.
هذه بعض الرؤى حول قضية الجهاد وأمور الجهاد وما يدور حول الجهاد، ويجب أن نكون موضوعيين وأن نفرق بين الخطأ والصواب, وبين الحق والباطل وبين الهدى والضلال, وأيضاً أن نكون موضوعيين في معرفة الأسباب؛ وذكر الأسباب ليس لتبرير الأخطاء لكنه لمعرفة العوامل التي أدت إلى وجود هذه الأخطاء, ومن ثم البحث عن المعالجات الحقيقية لها.
3. عُرِفَ عنك رأيك الحاد ضد الحداثة والحداثيين، هل أنت ضد الجديد الحديث أم ضد الأشخاص المخالفين لك؟
لست ضد الجديد الحديث، ولست ضد الأشخاص المخالفين لي؛ أنا إنسان له مرجعية ارتضاها واختارها بقناعة، ومن هذه المرجعية ينطلق في التعامل مع كل فكر وكل فلسفة جديدة, مرجعيتي وإطاري الذي أتحرك من خلاله في تناول الأفكار والفلسفات والقضايا هو الإسلام، هو الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا مقتنع أن كل ما خالف الإسلام بمعنى أنه نقيض للإسلام فهو باطل، وبالتالي الحق في هذه القضايا لا يتعدد.
قضية الحداثة والحداثيين، أولاً يجب أن نفصل بين التحديث والحداثة؛ فالتحديث يعني التجديد في وسائل الحياة وطرائقها وأساليبها, يعني الأخذ بأساليب التقنية والرقيّ والصناعة, التحديث يعني أن ما هو مشترك بين الأمم والحضارات والمجتمعات نأخذ منه كل نافع مفيد ونرتقي به, أما الحداثة فهي مذهب فكري فلسفي يقوم على هدم كل قائم, سواء كان هذا القائم حق أم باطل، سواء كان دين وعقيدة, أم نظام أم وسيلة تعبير, ومن هنا فأنا ضد الحداثة والحداثيين بهذا الفهم حتى من الناحية الفنّية. أمر الحداثة لا يعنيني كثيراً؛ أنا أتحدث عن الحداثة كمذهب فكري فلسفي له إسقاطات سياسية واجتماعية وحياتية، يسعى ليكون بديلاً لكل شيء سائد سابق عليه, هذا هو موقفي من الحداثة.
4. تحدّثت في كتابك ( الحداثة في ميزان الاسلام ) عن الحداثة، وتحديداً من تبنَّوْها في الابداع والشعر. إلى أي حد تجد أن من الضروري أن ترفض الحداثة فكراً وشكلاً ؟
هذا السؤال ينبي عن أن السائل لم يقرأ كتاب الحداثة, فأنا ذكرت في مقدمة كتاب الحداثة أن الحداثة من الناحية الأدبية، من الناحية الشعرية، من الناحية الروائية، من الناحية الفنية، من حيث الشكل الأدبي لا تعنيني كثيراً, وبلا شك لي فيها خيارات.. لكن هذه الخيارات لا تعني بالنسبة لي أن أختلف مع غيري خلافات حادة, المهم هو المحتوى الذي حملته الأشكال الأدبية, المحتوى الذي جاء يروّج للإلحاد والفجور ونسبية الأديان ونسبية الأخلاق وأن كل شي قائم وسائد يجب أن يهدم وأن يدمّر وأن يستبدل, والحداثة التي تقول إن الدين إصر وأغلال وأن القرآن خرافات وأساطير، أوهام الحداثة هذه هي التي أرفضها, أرفضها سواء صرّح الحداثيون بهذه الأفكار أو روّجوا لمن يصرّح بهذه الأفكار ويتبنّاها بشكل واضح.
مع الأسف الشديد أن كثيراً من الحداثيين - إما مغالطة وإما جهلاً - بعد أن صدر الكتاب يزعمون أنني أرفض الحداثة في ثوبها الشكلي الأدبي, وأن هذا هو موضوع الكتاب وآخرين يقولون أنني أرفض الحداثة بمعنى التحديث والتجديد والتنمية في قضايا الصناعة والتقنية, وهي إما مغالطة وأما جهل بحقيقة الحداثة، وإما جهل بالكتاب وعدم قراءة له.. وأياً كانت هذه الأمور فهي لا تعبر إلا عن محاولة مصادرة الحقائق والتحدث باسمي بما لم أقله.
5. ما هو مفهوم التسامح الديني عند الشيخ القرني .
التسامح الديني هو أن تطبق أحكام الدين تطبيقاً حقيقياً, والدين هو أرقى صور التسامح على الإطلاق لأنه صدر من رب العالمين رحمة لجميع العالمين, ورحمة الله وسعت كل شي ولذلك الدين الإسلامي لم يمنع بأن يبقى اليهودي على يهوديته والنصراني على نصرانيته في ظل مجتمع مسلم لهم حقوق وعليهم واجبات ومنع ظلم غير المسلمين, حتى في ساحات القتال هناك أخلاق وأحكام يجب أن يلتزم بها المسلمون لم تصل إلى عشر معشارها القوانين والدساتير الدولية المعاصرة في قضايا الحروب وعالم الحروب، فأنا أفترض وأقول إن أرقى وأعلى صور التسامح الحقيقية هي أن يطبق الإسلام تطبيقاً صحيحاً كاملاً.. وحتى نعرف الإسلام الحقيقي يجب أن نعود في ذلك إلى الراسخين في العلم الشرعي إلى علماء الشريعة إلى المتخصصين في علم الشريعة، أما من يتوقع أن التسامح الديني هو أن نتخلى عن ديننا وأن ننسلخ عن التمسك بشريعتنا وعقيدتنا أو أن ننصب يهودياً أو نصرانياً أو ماسونياً أو شيوعياً أو علمانياً مفتياً في الشريعة، فأظن أن عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم يعلمون أن هذه مغالطة، وأنها محاولة للحرث في البحر واستنبات البذور في الهواء، ولن تجدي شيئاً ولن تصل إلى نتيجة.
6. ذكرت ذات مرة أنه إذا كان المشروع الإسلامي حقيقياً فإنه يستحيل أن يفشل. ما هي أبرز مقوّمات أن يكون المشروع الإسلامي حقيقياً.
أولاً هذه القضية - قضية أنه يستحيل أن يفشل - أنا لم أتحدث بها من عند نفسي، أنا نقلتها من القرآن الكريم المعصوم الذي جاء من الله تعالى، يقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ويقول الله سبحانه وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي} ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} ويقول سبحانه وتعالى:{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، إذاً هذه حقيقة شرعية قطعية مسلّمة لا يماري فيها مؤمن, أما متى يكون المشروع الإسلامي حقيقياً فهناك العديد من المقومات..
أوّل هذه المقومات: أن تكون مرجعيته هي الكتاب والسنة، وضرورات العقل، ومقتضيات الفطرة التي فطر الله عليها الناس والتي جاء الوحي مؤكداً لها أن تكون, هذه المرجعية.
الأمر الثاني: أن يعيش الإنسان عصره وفق سنن الله سبحانه وتعالى, بمعنى لا يحاول أن يصادم سنن الله سبحانه وتعالى.
إذاً الشرط الأول: أن يلتزم بالشرع .
الشرط الثاني: أن يلتزم بمقتضيات العقل.
الشرط الثالث: أن لا يصادم ضرورات الفطرة.
الشرط الرابع: أن يسير في الحياة على وفق سنن الله سبحانه وتعالى التي فطر عليها الكون والحياة والمجتمعات.
الشرط الخامس: أن يتحرك الإنسان على قدر استطاعته، يعني لا يحاول أن يستبق الزمن أو يحرق المراحل، وأن يأتي بأمر قبل أوانه.
والشرط الأخير: أن يضبط حركته في الحياة بفقه المصالح والمفاسد على وفق مقاصد الشريعة الإسلامية, إذا كان المشروع منضبطاً بهذه الضوابط فجمع بين الثبات والتطور, وبين الأصالة والمعاصرة, وبين الواقعية والمثالية, وبين التوازن والشمول, إذا جمع بين هذه المعاني المتعددة فهو مشروع إسلامي حقيقي.
7. ما هي مشكلة التيارات الإسلامية اليوم مع حكوماتهم؟
مشاكل التيارات الإسلامية متعددة، منها مشاكل ناشئة من داخل التيارات، إما بسبب أفكار خاطئة أو ضعف في حمل رسالة الإسلام أو اختلاف في ما لا يجوز الاختلاف فيه, أو منع للاختلاف في ما يسوغ الاختلاف فيه, هناك مشاكل عديدة داخل التيارات. وهناك مشاكل مفروضة على التيارات من خارجها، مثلاً الأنظمة التي تحكم مجتمعات مسلمة وتسمح فيها قانوناً بقيام أحزاب شيوعية وأحزاب علمانية وتمنع قيام أحزاب إسلامية, الأنظمة التي تمنع بناء المساجد والحجاب وترتيل القرآن في المساجد, وتأذن بدور الدعارة وبارات الخمور وما هو أسوأ من ذلك أحياناً, الأنظمة التي تستجيب لضغوطات الخارج وترفض الاستجابة لتوسلات شعوبها, الأنظمة التي ينخر الفساد فيها، فتبدد المليارات يمنة ويسرة، وتضن على شعوبها بالملايين القليلة التي تكفل بها ضروراتها, الأنظمة التي جيوشها محدودة وهزائمها أمام أعدائها متتالية, وأجهزتها الأمنية تضرب في عرض البلاد وطولها ولا تسمح لأحد أن ينبس ببنت شفة ولا أن يعبّر عن رأيه..
هذه مشكلات حقيقية لا يجوز لنا أن نتعامى عنها وأن نتجاهلها, وكذلك هناك مشكلات مفروضة على الحكومات وعلى الشعوب وعلى الحركات من خارج العالم الإسلامي، من قوى الهيمنة والاستكبار والسيطرة العالمية التي نراها وهي تصادر حقوق الشعوب وتقول كما قال فرعون {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}. وأيضاً هذه القوى مع الأسف لها وكلاء في بلاد المسلمين ينطقون باسمها وينفّذون مشاريعها ويبشّرون بعصرها ويجمّلون ويزيّنون قبحها، لكنني أعلم أن كل هذا صورة من صور الابتلاء وأن ذلك كله سينتهي لأنه زبد، والزبد يذهب جفاء.
8. قيّمتَ تجربة الأخوان في الأردن والجزائر بأنها من أنجح التجارب السياسية في العالم الإسلامي المعاصر، لكنك لم تذكر أنها - خاصة في الجزائر - كانت تجربة دموية قاسى منها الشعب الجزائري. السؤال.. هل ترى أن العنف يجب أن يكون هو المحرك الأساسي لنجاح هذه التجربة.
هذا السؤال ينبي بأن قائله غير متابع حتى متابعة جزئية لإنتاجي من الكتب والمحاضرات والمقالات، فأنا بشكل واضح وصريح ضد العنف في داخل العالم الإسلامي وضد العنف وحمل السلاح لحل المشكلات الداخلية داخل الشعوب المسلمة مهما كان الاختلاف, وأرى أن الوسيلة والسبيل إلى ذلك هو الصبر والمصابرة والدعوة بالحسنى والحوار بالتي هي أحسن, والجدال بالتي هي أحسن وبيان الحق وتحمل الآلام والتبعات في سبيل ذلك, هذه القضية لدي ليست محل تساؤل لا قديماً ولا حديثاً.
لكنني أقول عندما ورد في السؤال موضوع الجزائر: أنا عندما قلت تجربة الإخوان - وأنا حقيقة لا أعلم متى قلت هذا القول لكني احتمال أني قلته ولا ضير في ذلك - فمعلوم لكل المراقبين أن الذين يمثّلون منهج الإخوان لم يشتركوا في العنف على الإطلاق ويمثل منهج الإخوان في الجزائر حركة حمس وحركة النهضة والإصلاح, حركة مجتمع السلم التي أسسها النحناح وإلا الحركة الأخرى التي أسسها جاب الله, وهذه رغم ما تعرض له الإسلام في الجزائر لم تحمل السلاح على الإطلاق, لكن يجب للعدل والإنصاف أن نقول أن الذي ألجأ حملة السلاح - وأنا ضد أفكار كثير منهم - وبالذات الجماعة الإسلامية المسلحة والجماعة السلفية للدعوة والجهاد, ضد الأفكار التكفيرية وأرفضها جملة وتفصيلاً التي يحملونها وضد استباحة الدماء وضد القتل.
لكنني أقول إن المراقب المنصف وإن التحقيق والتدقيق العلمي في الأمر بل إن بعض المحاكم الجزائرية أثبتت أن الشريك الرئيسي في سفك الدماء واختطاف الناس وقتلهم هي أجهزة الأمن الجزائرية التي يسيطر عليها الضباط الاستأصاليون الذين يأتمِرون بأمر فرنسا أمُّ الديمقراطية وكعبة الحرية, والمشكلة الجزائرية بدأت عندما الحكومة قررت إجراء انتخابات وتعددية حزبية، وهي التي أجرت الانتخابات، وهي التي أشرفت عليها، وهي التي أعلنت النتائج، فلما فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ قام الضباط في الجيش بالانقلاب وأسقطوا الرئيس الشاذلي بن جديد وأدخلوا ممثلي الشعب الذين اختارهم في السجون والمعتقلات، وبدأت عملية التقتيل في الشوارع وتكميم الأفواه.. هذه هي الحقيقة وهذا سبب المشكلة, حمل بعض الغلاة من الإسلاميين للسلاح كان نتيجة ولم يكن سبباً, كان نتيجة لهذا السبب ولذلك يجب أن نضع الأمور في نصابها, وأن نصف الأمور بحقائقها، والشعب الجزائري يعلم الحقيقة..
نحن ضد حمل السلاح حتى مع ما حصل, وجمهور الإسلاميين في الجزائر رفضوا حمل السلاح, وصبروا وعانوا وما زالوا يصبرون ويعانون, بل إن حملة السلاح من الأجهزة الأمنية ومن الاستأصاليين الفرنك فوريين ومن الغلاة التكفيريين قتلوا الكثير من علماء الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية واختطفوا الكثير منهم من أئمة المساجد.
9. هناك تيار دعوي وتيار جهادي وأخر تكفيري وأخر وسطي.. وهكذا نجد أننا أمام أكثر من تيار. الشيخ القرني كيف يجد العلاقة بين هذه التيارات؟ وأين يجد نفسه من خلالها؟ وما هو خيار الأمة اليوم في ظل كل هذه المتغيرات.
أما التيار الدعوي فيجب أن يكون جميع المسلمين دعاة إلى الله سبحانه وتعالى لأن الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، فكل متبع لمحمد صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون داعياً إلى الله سبحانه وتعالى, ومن يرفض الدعوة فهو يرفض اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بنص القرآن، بل هذه رسالة الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: «بلِّغوا عني ولو آيةً»..
التيار الجهادي تحدثت عنه قبل قليل وبيّنت ما هو الصحيح وما هو الخطـأ من وجهة نظري, أما التيار التكفيري، فأيضاً هذه القضية فيها إلباسات وإشكالات؛ فإن كان المراد بالتيار التكفيري الذي يكفر المسلمين ومن يكفر أصحاب المعاصي والذنوب ومن يكفر من ليس بكافر بنص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا غلو مرفوض في الدين لا يجوز لنا أن نقبل به تحت أي ذريعة من الذرائع, وإن كان أن البعض يريد أن يقول كما يطرح بعض الحداثيين أنه ليس في الحياة كفر على الإطلاق, وأن الجميع سواسية, والمذهب الإنساني كما يسمونه, فهذا تكذيب للأنبياء ورد للرسالات وإلغاء للقرآن والسنة, نعم في الدنيا مؤمن وكافر, أما التيار الوسطي فالأمة المسلمة يجب أن تكون أمة وسطاً كما وصفها الله سبحانه وتعالى.
والتيار الوسطي له سمات في داخل الأمة، وللأمة أيضاً الوسط سمات بين الأمم يعرفها المتخصصون, وبالتالي فالأمة يجب أن يكون خيارها هو خيار الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بشروطها وضوابطها, وأن يكون الجهاد هو وسيلتها في ميادينه الحقيقية وبضوابطه وأحكامه الشرعية, وأن تكون الوسطية هي سمتها ومنهجها الذي ترفعه بين الأمم, وأن يكون التكفير حين تمارسه الأمة بدليله الشرعي وضوابطه الشرعية ومن العلماء الراسخين الثقات, حينئذ يكون هذا هو خيار الأمة في ضل المتغيرات التي تعيشها.
10. ( كيف لحي مثلي أن يقابل ميتا مثله ) هذا ما قاله الشاعر عبدالله الصيخان في أحد مقابلاته موجها هذه العبارة لك . فما كان تعليقك على هذا .
أنا أترك التعليق على هذه العبارة للتاريخ وللأجيال وللمثقفين ولشباب الأمة وشاباتها, ليحددوا هل الحي هو من يرجع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعيش قضايا الأمة وهمومها، وينصح لها في كل منبر.. أم الحي من مرجعيته عبد الوهاب البياتي ومحمود درويش وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور.. وأمثال هؤلاء، ومن يسعى قدر جهده لكي يغير وجهة الأمة ويسلخها من أصالتها ويعلن لها صباح مساء أنه جاءها بأمر جديد ينسف كل قديم, إن الميت هو الذي في بياته الشتوي عشرات السنين ثم يخرج لنا ببضع كلمات يطبعها في بضع مئات من النسخ، وتبقى على رفوف المكتبات وهو يسبُّ ويسخط أنه لا يجد لها رواجاً.
وليس الميت الذي إذا طبع كتاباً بحمد الله وزع منه مئات الآلاف وإذا ألقى ندوة أو محاضرة حضرها عشرات الآلاف, بينما الميت الحقيقي الذي إذا نظمت له أمسية في كل عقد من السنين مرة وحضرها أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة, إنني أقول للأستاذ عبد الله الصيخان إن من سمات الحياة أن يكون الإنسان عاملاً حياً ناصحاً متصلاً بربه سبحانه وتعالى, وليس من علامات الحياة أن يدور الإنسان في حلقات مفرغة بين جلسات لهو ولغو هو أعلم بها مني, ثم إذا أتيحت له الفرصة ليقول بضع كلمات زعم البطولات كما قال في نفس المقابلة عن نفسه ما معناه أنه أعظم شاعر عمودي بالإضافة إلى أنه إمام في شعر الحداثة.
11. ما هو مقترحك الأدبي والإبداعي وليس الديني إذا ما تخلى حداثيوا السعودية عن توجههم الحداثي في الإبداع والشعر؟
أنا أتمنى أن يتخلى حداثيو السعودية عن توجهم الحداثي في الإبداع والشعر, لكن لا أرى ذلك ملحّاً، لكني ألح ألحاحاً شديداً إلى أن يتخلوا عن توجههم الحداثي في الفكر والفلسفة والمعتقد والتوجه، ثم يكتبوا بعد ذلك ما شاءوا كيف شاءوا لينطلقوا من خصائص أمتهم وقيمها ومعتقدها وأصالتها حتى لو كتبوا قصيدة النثر وما سمي بالشعر الحر الأمر حينئذ يهون .
12. هناك تناقض ملفت فيما يخص المرأة في المنظومة الاسلامية ففي الوقت الذي يرفض صوتها باعتباره عورة كما في تمثلها في التسجيلات الصوتية الدعوية التي رفضت لاأها بصوت امرأة.. نجد أنها غير هذا في توجيهها إلى العمليات الاستشهادية فهي مرحب بها وكأنها ( كبش الفداء ) ما تعليقك على هذا .
أولاً لم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن صوت المرأة عورة, والأدب القرآني الذي ورد للمرأة أنها إذا غلب على ظنها أن المتحدث معها ممن في قلوبهم مرض في لحن القول أو نبرة الصوت أو الكلمات فحينئذ يجب أن تعرض عنه, أما الأصل فهو أن المرأة تتحدث بصوتها وأن تتعلم وتعلم وتتكلم, وكان أمهات المؤمنين يتحدثن مع الناس ويروين لهم, وكان في تاريخنا من العالمات من درس على أيديهن أئمة الإسلام كابن تيمية والذهبي وابن كثير وغيرهم كثير ولم يقل أحد من أهل العلم أن صوت المرأة عورة.. هذا الأمر الأول وبالتالي فطرح السؤال مغالطة, أما قضية أن المرأة توجه إلى العمليات الاستشهادية فأولاً هذه عمليات محدودة جداً, في ظروف خاصة في بعض البلدان الإسلامية, وفرضَتْها اضطهادات وابتلاءات تعرضت لها الشعوب المسلمة, فانبرت المرأة تقف مع أخيها في الدفاع عن دينها ومجتمعها وأمتها ومستقبل أجيال أمتها وهذا شرف للمرأة ولم يقل أحد من المسلمين أن المرأة لا تشارك وفق خصوصياتنا في الجهاد والنضال عن قضايا الأمة بل هذا شرف لها, ولماذا ينظر إلى هذا على أن المرأة كبش فداء مع أنها نسبة قليلة جداً بالنسبة إلى الرجال ولم يقل أن الرجال كانوا كبش فداء, بل نقول إن المرأة المسلمة وأن الرجل المسلم يدافعون عن حياض الأمة وعن قضاياها وعن ثغورها وهم مأجورون كل بحسبه وحسب استطاعته ومن موقعه الذي يحسنه,وفق المرجعية الإسلامية.
13. شهدت السعودية العامين الماضيين تراجعاً ملحوظاً في تشدد بعض الشيوخ في مسألة قيادة المرأة للسيارة. وسط كل هذ الشدّ مرة والتراخي مرة.. ألا تجد أن المرأة تعرّضت وتتعرض للظلم بتوظيف قضاياها ونمط حياتها وفق إيديولوجيا هؤلاء وهؤلاء..
إن الذي يظلم المرأة ويبتزّها ويجعلها سلعة يقامر بها في أسواق الأيدلوجيات هم الذين يريدون إخراجها من عفافها وصيانتها والمتاجرة بقضاياها, هم الراقصون على جراحنا، هم المتاجرون بقضايانا, إن الذين لا يتحدثون عن المظالم الحقيقية الواقعة على المرأة والذين لا يتحدثون عن الأزمات التي تعيشها المرأة والرجل في قضايا التعليم وفي قضايا العمل وفي قضايا التوظيف وفي قضايا الخدمات الصحية وينبرون وفق منظومات من المغالطات، يزعمون أن مشكلة المشاكل وقضية القضايا للمرأة هي قضية قيادة السيارة..
هم ينطلقون وفق أهواء خاصة بهم, أو وفق خرائط ذهنية تشرّبوها من مجتمعات تختلف عن مجتمعاتنا تماماً, ولا تتوافق مع مجتمعاتنا, إنني أؤمن بأن قضية المرأة هي جزء من قضية الإنسان وإن مشكلات المرأة هي جزء من مشكلات الإنسان، وأن العلاقة بين المرأة والرجل يجب أن تكون علاقة ود وإخاء وحب ورحمة وسكن وتآزر وتعاضد وتعاون، وليس علاقة صراع وابتزاز وحرب وظلم.. هذه مفاهيم مستوردة، مفاهيم لا تمتُّ إلى ديننا ولا إلى حياتنا بصلة لا من قريب ولا من بعيد..
ومن هنا فإنني مرة أخرى أقول: نعم، يجب أن نعالج جميع المشكلات وأن نعطي للمرأة حقوقها وأن نعطي للرجل حقوقه، وأن نرفع الظلم عن الإنسان أياً كان هذا الإنسان، أن نرفع الظلم حتى عن غير المسلم عندما يمارس عليه الظلم، عن الطفل، عن العامل، عن الفقير، عن المقيم، عن المواطن، عن الجميع لكن لا نتاجر بقضايا المرأة. جريدة الحياة قبل أيام ذكرت أن مركزاً بريطانياً في لندن أجرى استبيناً واستفتاء في السعودية في أكثر من عشر مدن سعودية مع أكثر من ألف امرأة عن قضية قيادة المرأة للسيارة: فأكثر من88% من النساء رفضوا قيادة المرأة للسيارة وأكثر من 3% لم يجيبوا وفقط قرابة 7% هم الذين قالوا بقيادة المرأة للسيارة..
إذاً هؤلاء الذين يتحدثون نيابة عن المرأة , المرأة ترفضهم وترفض من يزعم أنه يمثلها وترفض أيضاً من يزعم أنه يتحدث عن همومها وعن مشكلاتها وعن قضاياها، ولدينا مؤشرات تؤكد لنا أن المرأة السعودية تمثّل أصالة الإسلام، ولا أقول إن قضية قيادة المرأة للسيارة من قال بها هم ضد أصالة الإسلام، لكني أقول دعونا نتحدث عن مشاكلنا وفق احتياجاتنا الحقيقية ونحل هذه المشاكل وفق إمكاناتنا ومعطياتنا وقيمنا وأخلاقنا, هؤلاء الذين يزعمون أن قيادة المرأة للسيارة ستحل مشكلة السائق الأجنبي، هل فكروا في المشكلات التي ستنشأ عن ذلك أيضاً؟ هل فكروا في زيادة عدد المركبات، وزيادة الطرق وأعباءها، وزيادة المرور، وزيادة الحوادث، وزيادة المشاكل وإنشاء إدارات مرور نسائية وكذا وكذا..
ومع ذلك من المؤكد كما في البلدان الأخرى أنه سيبقى السائق الأجنبي مع ذلك. إذا كانت المرأة أبناؤها وزوجها وإخوانها وأبوها لم يغنوا عن السائق الأجنبي، فكيف نفترض إذا 7% من النساء هم الذين سيقودون السيارة و93% لن يقودوا السيارة، فهل حللنا مشكلة السائق الأجنبي؟ هذه نوع من المغالطات, ثم القضية سبق وأن صدر فيها فتاوى من هيئات علمية شرعية معتبرة مراعية ما يترتب على الأمر من المفاسد وما قد يتحقق فيه من مصالح وصدرت الفتوى بعد هذه الموازنة الشرعية .
14. حدث معك أيضاً موقف يتعلق بالشيعة في السعودية، إذ اذكرتَ ضرورة الحوار معهم . هل يعني هذا أن السنّة كانوا على قطيعة كاملة مع الشيعة، وأن هناك جديداً فرض أو حرّض على الحوار معهم؟ فما مبرر هذا من وجهة نظرك ؟
لا، لم يكن السنّة يوماً من الأيام على قطيعة مع الشيعة، لكن ربما أصبحت هناك ضرورات وطنية وضرورات اجتماعية وضرورات إقليمية وضرورات دولية تستدعي أن يكون الحوار أعمق وأوسع وأكثر صراحة لأن الجميع أصبحوا مستهدفين تماماً. ربما كانت الضرورات سابقاً فقط ضرورات محلية ومحدودة وكل يعيش في عالمه الخاص، ولكن الآن الجميع مستهدفون ولابد من أن نتحاور. وكذلك أيضاً وسائل الاتصال والإنترنت والفضائيات جعلت إمكانية التواصل ومعرفة الحقائق ومعالجة المشكلات أكثر مما كانت سابقاً، وبالتالي فأنا أقول إن الحوار مبدأ شرعي إذا قصّرنا فيه في فترة من الفترات فيجب أن نتلافى هذا التقصير، وليس فقط مع الشيعة في السعودية؛ بل وليس فقط مع الشيعة في العالم.. بل أقول مع جميع الناس يجب أن يكون الحوار قائماً لكن وفق منهجية شرعية محددة ووفق علم وبصيرة .
15. وصف ( السيد ولد أباه ) الشيخ القرني بأنه ذو فتاوى راديكالية تستسهل إخراج الناس من الملة ..ومثل لهذا بإصدارك ( الحداثة في ميزان الإسلام ) بماذا تعلق على هذا الرأي .
أنا أتساءل وفق أي مرجعية حكم السيد ولد أباه على الشيخ القرني, إن كان حكم على ذلك وفق مرجعية الكتاب والسنة وفق مرجعية الإسلام التي ينطلق منها القرني فظنّي أن ثقافة السيد ولد أباه وأن كتاباته التي تظهر لنا وأن تاريخه لا تؤهله إلى أن يكون مفتياً شرعياً, أما إذا انطلق من مرجعية أخرى غير مرجعية الكتاب والسنة فلا تعنيني هذه المرجعية، وهي خاصة بالسيد ولد أباه وأمثاله، ويشرفني أن تلك المرجعيات تصمني بما تصمني به، أنا أعتبر ذلك علامة صحة على مسيرتي لأن هذه المرجعيات لم تجني على أمتنا إلا الاستلاب والدمار والتبعية والضعف.
والسيد ولد أباه وأمثاله هم أنماط وأنساق ثقافية تمثل أنظمة سياسية نتائج هذه الأنماط الثقافية والأنظمة السياسية ما تعيشه أمتنا منذ تحررت من الحراب الغربية في ضل الاستعمار الأجنبي المكشوف، وكذلك ظني أن السيد ولد أباه - وسأناقش مقاله بإذن الله بشكل تفصيلي في المستقبل القريب - ظني أنه حجر ضمن منظومة من حملة منسقة للنيل مني ومن أمثالي، وكما قال بعض من يتفقون معه في موقع دار الندوة قبل أسابيع بعدما احتفت دار الندوة بهذا المقال الذي يبلغ نصف صفحة، وقالت إن هذا المقال الذي جالت به قريحته جاء إنقاذاً للحداثيين بعد أكثر من عشرين عاماً، فأنقذهم من هذا الكتاب الذي يرون أنه يشكل كابوساً لهم، فقال بعضهم في تلك الإحتفالية الإحتفائية في دار الندوة، قال في تحليله وهو التحليل الأعمق والأطول للمقال - وإن كان من نفس المجموعة - قال إن هناك أدلة وقرائن في المقال تدل على أنه مقال مدفوع الأجر، ويكفي هذا لنتعرف على شرف وخلق من ينازلوننا في ساحات الفكر والثقافة, والإدانة لم تأتي مني بل أتت من بعض مريديه وبعض المصفّقين له.
16. في كتاب ( الحداثة في ميزان الإسلام ) ألم تكن محاكمة عقائدية تجاهلت ان الإبداع رؤية وذوق جمالي لا ينبغي محاكمته عقائدياً كما عبّر السيد ولد أباه؟
أولاً، فالجمال والذوق والرؤية الإبداعية الفنية الأدبية لا يجوز أن تكون مبرراً لقبح المحتوى والتجديف والإلحاد والنيل من ثوابت الأمة ومقدساتها.. وثانياً، أنا لم أحاكم النصوص الأدبية على الإطلاق محاكمة أدبية فنية جمالية ذوقية، بل حاكمتها من حيث المحتوى والرسالة والمعنى والفكر والفلسفة، وأرجو من كثرة ما رددت هذا الكلام أن يستحي الحداثيون على أنفسهم فقد طال الحديث حول هذه القضية وأنا أشرت في الكتاب في المقدمة لذلك, وذلك قبل أن أعلم ما سيقولونه أشرت إلى هذه القضية بشكل واضح وصريح، ومع هذا ما زالوا يصرّون على ذلك..
أما زعم أن الأدب لا يجوز أن يحاكم عقائدياً، فهذا رد لقطعيات القرآن؛ الكريم والقرآن الكريم بيّن أن الشعراء في كل وادٍ يهيمون وأنهم يتبعهم الغاوون، إلا من آمن.. فبيّن أن من الشعراء منهم أصحاب هيام وأصحاب غواية وأنهم شياطين يتبعهم الضائعون الفاسدون، وبيّن أن هناك شعراء مؤمنون أخيار أبرار شعرهم عبادة لله سبحانه وتعالى, فأنا مرة أخرى أنطلق من مرجعية شرعية وهذه القضية عرضتها على هيئة شرعية علمية على الشيخ بن باز رحمه الله الذي بإجماع الأمة أنه في زمنه وربما إلى أزمنة متطاولة لم يكن في علماء الأمة من يساميه في سعة علمه ورسوخه واجتهاده, وقرأ الكتاب وقدمه وتحدث عنه وأجازه، وبالتالي فهي وإن كانت محاكمة عقائدية لكنها ملتزمة بأحكام الإسلام بإذن الله. لكن مرة أخرى أقول ما لهج به الحداثيون كثيراً من أنني كفّرت وكفّرت وكفّرت.
وآخرهم من طبّل لهم السيد ولد أباه وحاول بزعمهم إنقاذهم بهذا المقال في نصف صفحة أيضاً هو زعم هذا الزعم مثلهم، ومع هذا لم يوردوا نصاً محدداً واضحاً بأنني كفّرت إنساناً مسلماً بشكل واضح, مجرد دعاوى, فمثلاً عندما يقول السيد ولد أباه وغيره أنني اتهمت الناس بالشيوعية.. طيب البياتي هو يعلن عن نفسه أنه عضو في الحزب الشيوعي من سنين طويلة، محمود درويش يعلن أنه شيوعي.. مثلاً عندما يقول إنني اتهمت فلان بأنه علماني هو يعلن علمانيته فلان كذا هو يعلن كذا, وأنا لم أتحدث عن إبداع هؤلاء إنما تحدثت عن أفكارهم وفلسفاتهم، وأرجو من سيد ولد أباه أو غيره أن يثبت لي أن ما نسبته لأحد من هؤلاء من أنه ماركسي أو من أنه علماني أنه ليس صحيح.. يثبت هذا نعم، وما وراء ذلك يبقى مجرد كلام إنشائي لا ينطلي على من يحترمون عقولهم ويدركون الحقائق كما هي لا كما يتوهمها الواهمون.
17. لماذا ترفض التحولات الفكرية والانفتاح على الآخر من قبل بعض الإسلاميين بينما يقفون على خط اللاعودة تبعاً لصيرورة الزمن والتحولات التاريخية الكبرى التي نشهدها؟
التحوّلات الفكرية والانفتاح على الآخر يجب أن يكون له ضوابط ووفق هذه الضوابط لا يجد المسلم أي حرج فيها, إذا كانت التحولات الفكرية هي فيما يسوّغ فيها الاجتهاد أو وفق أدلة ومعطيات شرعية جديدة، فهذا لا ضير فيه, أما التحول لمجرد التحول أو الانتقال لمجرد الانتقال أو تحت ضغط الواقع, أو مسايرة للآخر، فالعاقل يرفض هذا ولا يقبل به سواء كان من المسلمين أو من غير المسلمين.. وأنا أتساءل أين هذه الأسئلة التي تصم المسلمين بالرجعية والجمود والتقليد عن العودة في أمريكا إلى الوراء وإلى الإنجيل وإلى الأيدلوجيات السياسية المنغلقة التي يتبنّاها المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية وأمثالها, وأين هؤلاء عن عودة الحتميات إلى نهاية التاريخ وصراع الحضارات التي يطرحها فوكوياما وهينغتون وأمثالهم؟؟
لم لا نراهم يتحدثون عن هؤلاء وعن جمودهم وعن تقليديتهم، وعن انغلاقهم وعن رفضهم الانفتاح على الآخر، أم أنهم يستسهلون النيل من الإسلام ودعاة الإسلام لأن الآخر يشجع ذلك ويسرّه ذلك، بينما غير المسلمين من الغربيين خطوط حمراء محميّة, فمحاولة مناقشتهم هي ارتداد عن الحضارة, أقول نحن في حاجة إلى التطور وإلى الاجتهاد وإلى التغيير المستمر الدائم لكن وفق ضوابط ثوابتنا وأصولنا وفي إطار مرجعيتنا التي ارتضيناها لأنفسنا وإنني أرجو من جميع إخواننا المثقفين أنهم في إطار هذه المرجعية ووفق هذه الأصول والثوابت والضوابط وبدافع البحث عن الحق والحرص على مصلحة الأمة والمجتمع ومستقبلها أن يتحاوروا وليس بعيداً عن ذلك.