نساؤنا والدراما والفراغُ العاطفيُّ

منذ 2014-01-21

وتلك الفتاةُ التي فارسَ أحلامٍ يُشبه أبطالَ المسلسلاتِ سوف تنتظر طويلاً جدًّا، فلو أنَّها غيَّرت إدراكَها المعرفيَّ لأدركت أنها ضيَّعت الكثيرَ من الفُرصِ في انتظار المثال ولأدركتْ أنه ما مِن أحدٍ إلَّا وفيه عيوبٌ ظاهرةٌ أو باطنةٌ وأننا معشرَ البشرِ علينا تقبُّلُ هذه العيوبِ والتَّعايش معها وتجاهلها في كثيرٍ من الأحيانِ.



 
مؤخَّرًا كنتُ في زيارةٍ لإِحدَى الجاراتِ التي وَضعتْ مولودَها قبلَها بيومين، كانتْ نائمةً في فِراشها وبجوارها طفلُها الصَّغير الجميل وبالقُرب منها جلستْ سيِّدتان شابَّتان ترتدي كلٌّ منهما حجابًا سابغًا، كانتِ الجلسةُ دافئةً والحديثُ وُدِّيٌّ، إحدَى السَّيدتين كانت حاملاً في شهورِها الأخيرةِ، تحسَّستْ بطنَها وقالتْ: أنتظر فتاةً، ثمَّ ابتسمت وهي ترنُو للبعيد وتقول: أتمنى أن أسمِّيَها هُيام -بضمِّ الهاء طبعًا-، ابتسم الجميعُ وقالوا لها: تُتابعين مسلسلَ حريم السلطان إذنْ! فردَّتْ: طبعًا، يا له من مسلسلٍ! إنَّني أُشاهد الجزءَ الثَّالثَ منه الآنَ.

 
فاجأتني الجارةُ النَّائمةُ في فراشِها عندما اعتدلتْ في جِلستها وسألتْ باهتمامٍ بالغٍ: هل تمَّ بثُّ الجزءِ الثالثِ، وفي أيِّ قناةٍ فضائيَّةٍ وكم عددُ الحلقاتِ التي فاتتْني؟ وأسئلةٌ كثيرةٌ دقيقةٌ تنمُّ عن اهتمامٍ حقيقيٍّ، أثارني الموضوعُ ودارتْ أسئلةٌ كثيرةٌ في عقلي قبل أن أسألَ السيدة الثالثة: وأنتِ، هل تتابعين المسلسلَ أيضًا؟ فتنهَّدت بعُمقٍ، ورُبَّما بألمٍ وابتسمتِ ابتسامةً صغيرةً ملوَّنةً بالإحباط، وقالتْ لي: يا ليتني أستطيعُ، أعباءُ البيتِ وتدريسُ الأولادِ تُنهكني للحدِّ الأقصَى.

 
وقبل أن أتفوَّهَ بكلمةٍ قاطعَتْها السَّيِّدةُ التي تتمنَّى إِطلاقَ اسمِ هُيام على مولودتِها، وقالت لها: افعلي مثلي أنا أقوم بحلِّ الواجبِ لابني حتى لا أصدِّعَ رأسي وأطعمُه وأنِيمُه، ثمَّ أتفرَّغ للتلفازِ والدِّراما وأعيش مع أحداثِ المسلسلاتِ، وأنسَى همومي وضغوطَ الحياة التي أُعانيها، لهذه الدَّرجةِ تنسى هذه السيدةُ واجباتِها والتزاماتِها وتتماهَى مع ذلك الخيالِ حتى تُعايشَه ويُعايشَها، فما الأسبابُ الحقيقيَّةُ لهذه الأزمةِ التي تعيشها الكثيرُ من النِّساء؟ وكيف يُمكن التَّخفيفُ من حِدَّتها أو علاجِها كُلِّيَّةً؟

 
أعتقد أنَّ الفراغَ العاطفيَّ هو السَّببُ الرَّئيسُ للأزمةِ التي تعيشها الكثيرُ من الفتياتِ والسَّيداتِ، فالمرأةُ بطبيعتِها الفطريَّةِ كائنٌ عاطفيٌّ شبَّهه النبي صلى الله عليه وسلَّم بالقواريرِ حيثُ الرِّقَّةُ والشَّفافيةُ وسهولةُ الكسر أيضًا.

 
الفتياتُ يُعانين من تأخُّر سنِّ الزَّواج ومِن ثَمَّ يقعنْ فريسةً للفراغِ العاطفيِّ، وكثيرٌ من السَّيدات اللاتي تزوَّجن لم يحصُلنَ على الإشباعِ العاطفيِّ، فهذه زوجُها مسافرٌ ولا تراه لفتراتٍ طويلةٍ، وهذه زوجُها إمَّا مع أصدقائِه أو عند أهلِه حتى أصبح البيتُ بالنِّسبةِ له أشبهَ بالفندقِ، وهذه تعيش في جوٍّ من النَّكد الأسريِّ، خلافاتٌ ومشاحناتٌ، مشكلاتٌ اقتصاديَّةٌ واجتماعيَّةٌ متراكمةٌ ونتيجةً لذلك يرغبْن بالانفصالِ عن هذا الواقعِ المُؤلمِ سواءً عن طريقِ أحلامِ اليقظةِ أو عن طريقِ التَّعايُشِ مع الدراما وتقمُّصِ دورِ البطلة وأحلامِها وبالتالي يحصُلنَ على نوعٍ من الإشباعِ العاطفيِّ المزيَّفِ والمُرِيحِ في آنٍ واحدٍ.

 
وفي هذا السِّياق تحظَى الدراما التُّركيَّةُ المُدَبْلجةُ بنصيبٍ وافرٍ من التَّفاعُلِ النِّسائيِّ؛ لأنها مشحونةٌ بالعاطفةِ بالدَّرجةِ الأُولَى ودبلجتُها بالعربيَّةِ جعلها قريبةً من النِّساءِ العربيَّاتِ، هذا بالإضافة للدِّيكوراتِ الأنيقةِ حتَّى في المنازلِ الفقيرةِ والمتواضعةِ، باختصارٍ يتمُّ الانتقالُ لعالمٍ آخَرَ تحتلُّ فيه المشكلاتُ العاطفيَّةُ المقامَ الأوَّلَ تتقلَّب فيه المرأةُ بين مشاعرَ شتَّى ولكنَّها تلتقي كلُّها وتصبُّ في نهرِ المشاعرِ والعواطفِ الجافِّ الذي تحمله في قلبِها فيرتوي ومن ثمَّ تُدمن هذا النَّوعَ من الدراما حتى تفضِّله عن تدريسِ ولدها أو القيام بشؤونِ بيتها.

 
إذا كان الأمرُ كذلك فما  خطواتُ العلاجِ والحلِّ؟

لاشكَّ أنه لن يكونَ هناك علاجٌ ما لم تشعُرِ المرأةُ نفسُها بحقيقةِ الكارثةِ التي تعيشها حيثُ انفصلتْ عن الواقعِ الحقيقيِّ وانغمست في عالمٍ افتراضيٍّ، ومن ثمَّ تزايدت مشكلاتُها على أرضِ الواقعِ، والأمر لا يخلو في كثيرٍ مِنَ الأحيان منْ مخالفاتٍ شرعيَّةٍ صريحةٍ كالنَّظرِ المحرَّمِ  وتأخيرِ الصَّلاة.

 
الخطوةُ الأولى بعد استشعارِ المرأة بعمقٍ المشكلةَ التي تعيشها أن تلجأَ لله تعالى تبثُّه همَّها وحزنَها وآلامَها والضُّغوطَ التي تُعانيها ومن ثمَّ تستشعر معيَّته والتَّوكُّلَ عليهِ: {‏‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏} ‏[‏الطلاق‏:‏ 2- 3‏]‏، نزلت الآيةُ في عوفِ بن مالكٍ الأشجعيِّ، وذلك أنَّ المشركين أسَروا ابناً له، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه الفاقةَ، وقال: إنَّ العدوَّ أسرَ ابني، وجزعتِ الأمُّ، فما تأمرُني؟ فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ اللهَ واصبرْ، وآمرُك وإيَّاها أن تَسْتكثِرَا من قولِ لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله». فعاد إلى بيتِه، وقال لامرأته: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإيَّاك أن نستكثرَ من قول: لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله. فقالتْ: نِعْمَ ما أمرنا به. فجعلا يقولان، فغفل العدوُّ عن ابنِه، فساق غنمهم، وجاء بها إلى أبيه، وهي أربعةُ آلافِ شاةٍ. فنزلت هذه الآية. (1)
 
المثالُ المذكورُ نموذجٌ للخروجِ من الأزمة وانقلابِ الحال من الفقر والغمَّة للثراء والسعادة، ولنتخيَّلْ أنَّ سيِّدةً تشاجرتْ مع زوجها لأيِّ سببٍ وكان ظالمًا لها فجلست تستغفرُ وتذكر الله فهدأتْ نفسًا وصفَا ذهنُها وجلست تتنتظرُ الفرج، وأخرى جعلت تنتفضُ من الغضب ولا تتوقَّفُ عن البكاء ومن ثم كي تخرُجَ ممَّا هي فيه فتحت التلفاز وجلست على الأريكةِ وتماهت مع أحد الأعمال الدراميَّة حتى أنساها همَّها ومن ثمَّ اعتادت على تناوُلِ الجرعة أعني مشاهدةَ الحلقة مهما كانتِ الظُّروفُ والمشاغلُ، فأيُّ السَّيدتين تحقِّق السَّعادةَ والنَّجاحَ في الدُّنيا قبل الآخرة.
 
 
الخطوة الثانية أن تسعَى لشَغلِ الفراغ العاطفيِّ بالممكن والمُتاح عن طريقِ إدراكِها المعرفيِّ وتعديلِها السُّلوكيِّ، فالإدراكُ المعرفيُّ يجعلها تميِّز بين الواقع والخيال وتدرك أن هذه الأعمالَ الدراميَّةَ المنغمسةَ فيها مصنوعةٌ خصِّيصًا كي تحقِّقَ هذا الغرضَ، فزوجُها قد لا يقول لها: أحبك، ولا يشتري لها ورودًا ولا يأبهُ كثيرًا بشموعِها الحمراءِ، ولكنَّه يحبُّها حقيقةً من قلبه، وتعبيرُه عن ذلك يكون بشكلٍ مختلفٍ، فمعظمُ الرِّجال يعدُّون العلاقةَ الزوجيَّةَ هي الأسلوبَ الأمثلَ للتعبيرِ عن الحبِّ، إنه يَعدُّ عملَه وكدَّه لتغطيةِ نفقاتِ البيت أكبرَ دليلٍ على الحبِّ والرَّغبةِ في استمرارِ هذه الحياة، المرأةُ بحاجةٍ لفهمِ عقليَّة الرَّجل، بحاجةٍ أن تنظرَ له بشكلٍ مختلفٍ ولا تُقارنُه بأبطالِ الأعمال الدرامية المصنوعين.

 
وتلك الفتاةُ التي فارسَ أحلامٍ يُشبه أبطالَ المسلسلاتِ سوف تنتظر طويلاً جدًّا، فلو أنَّها غيَّرت إدراكَها المعرفيَّ لأدركت أنها ضيَّعت الكثيرَ من الفُرصِ في انتظار المثال ولأدركتْ أنه ما مِن أحدٍ إلَّا وفيه عيوبٌ ظاهرةٌ أو باطنةٌ وأننا معشرَ البشرِ علينا تقبُّلُ هذه العيوبِ والتَّعايش معها وتجاهلها في كثيرٍ من الأحيانِ.

 
يتبع تغير الإدراك المعرفي التعديل السلوكي فعندما تتغيَّر أفكارُنا يتعدَّل سلوكُنا وعندما يتعدَّل سلوكُنا سنجبر الآخرَ ولو بعد حينٍ أن يغيِّر من سلوكه أيضًا وسأضرب مثالاً عايشته بنفسي، رجلٌ يعيش حياةً مملوءةً بالمشاحناتِ مع زوجتِه وهي تنظر إليه أنه أقلُّ من عائلتها وكثيرًا ما تُمضي الوقتَ مع عائلتها وتترك له البيتَ، ولا تستشعر أن زوجَها المتواضعَ فيه ما يجذب أيَّ امرأةٍ حتى عندما كان يمزح معها ويقول لها سوف أتزوَّجُ، كانت تضحك كثيرًا وتقول له: لن تجدَ من يقبل بك.

 
هذا الرجل خطب بالفعل فتاةً تأخَّرت في زواجها ووجدت فيه فرصةً مناسبةً، وبعد ما علمت الزَّوجةُ أدركت حجمَ المشكلة فلقد تغيَّر زوجُها كثيرًا، كان يعلمُها بقراره وإصراره عليه وأنها حرَّةٌ في القرار الذي تتَّخذه، هنا تغيَّر إدراكُها للموقف، ومن ثمَّ تغيَّر سلوكُها فلم تتشاجرْ معه وتظاهرت بالرِّضا بقراره وبدت منكسرةً على غيرِ عادتها معه، وعلى الرُّغمِ من ذلك أصرَّ على زواجِه الثاني وكأنَّه لا يصدِّق أسلوبَها الرَّقيقَ المختلفَ وأنه أصبح مُهِمًّا لهذه الدرجة عندها.

 
ولكنْ بالإصرار على السُّلوكِ المعدَّل استطاعت هذه الزوجةُ استعادةَ زوجِها، فعندما قارن بين زوجته التي يحبُّها ولكنه ناقمٌ عليها وبين الأخرى التي لم يخطبْها إلا لشعوره بافتقادِ الثقة في نفسه تلك الثقة التي عادت له بتغيُّر أسلوبِ زوجته معه، وجد أنه سيظلمُ الثانية وأنه لا يُريد غيرَ زوجتِه والمفارقةُ أن هذه الزوجة أشبعت عاطفتَها عندما انشغلت بزوجها الذي كانت تراه قبلاً رجلاً مخيِّبًا للآمالِ.


 
1- أسباب النزول - أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد ابن علي الواحديُّ.



فاطمة عبد الرؤوف
 

 

المصدر: رسالة الإسلام
  • 0
  • 0
  • 3,504

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً