دوافع تقديس القبور والأضرحة (2/2)
عندما أطلق ماركس عبارته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" لاقت رواجاً بين كثير من الشعوب الأوروبية؛ حيث كانت تتلطخ في أوحال النصرانية المحرفة المشبعة بالوثنية الرومانية والفلسفة الإغريقية التي آلت إلى طغيان كنسي شامل سيطر على عقول الناس وأرواحهم وأموالهم ونظم حياتهم، صاحبه فساد خلقي واسع لرجال الكنيسة واستعباد لأتباعهم وصل إلى حد توزيع قسائم حجوزات في الجنة (صكوك غفران) مقابل أموال يدفعها الراغبون، مستغلين في ذلك شيوع الخرافة والدجل بين هذه الشعوب.
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -
عندما أطلق ماركس عبارته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" لاقت رواجاً بين كثير من الشعوب الأوروبية؛ حيث كانت تتلطخ في أوحال النصرانية المحرفة المشبعة بالوثنية الرومانية والفلسفة الإغريقية التي آلت إلى طغيان كنسي شامل سيطر على عقول الناس وأرواحهم وأموالهم ونظم حياتهم، صاحبه فساد خلقي واسع لرجال الكنيسة واستعباد لأتباعهم وصل إلى حد توزيع قسائم حجوزات في الجنة (صكوك غفران) مقابل أموال يدفعها الراغبون، مستغلين في ذلك شيوع الخرافة والدجل بين هذه الشعوب.
جدت مقولة ماركس رواجاً بين هذه الشعوب التي أرادت أن تنعتق من طاغوت الكنيسة، فكفرت بما ينبغي الكفر به، ولكنها -بدلاً من الإيمان الصحيح بالله- انتقلت إلى عبادة طاغوت جديد قديم شعاره: تقديس المادة والعقل.
وما كان للإسلام أن تطوله هذه الشطحات أو تلك الخزعبلات، فهو من جهة يعلي قيمة التفكر والتدبُّر ويراعي الحاجات الطبيعية التي غرزها الله في بني الإنسان والتي تُمثِّل عوامل الدفع للاستخلاف في الأرض وعمارتها، ومن جهة أخرى: فإن العروة الوثقى في دين الله تعني بكل وضوح: الإيمان بالله والدخول في عبوديته وحده لا شريك له، وذلك لا يتم إلا بالخروج من عبادة كل مخلوق أو الخضوع له، حياً كان أو ميتاً، تقياً كان أو فاجراً، عظيماً أو حقيراً، غنياً أو فقيراً: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]: "جئنا لنُخرِج من شاء الله من العباد من عبادة العباد -كل العباد- إلى عبادة ربِّ العباد".
وعلى الرغم من وضوح هذه القيم في النصوص الشرعية وممارسات الرعيل الأول وأتباعهم، إلا أنه في غفلة من أهـل الإسلام تسلل رويداً رويداً انحراف عقدي وشذوذ فكري أخذ ينخر في جسد الأمة، فعشش في عقول كثير من أبنائها وتربع على قلوبهم حتى أفرخ وثنية سافرة حيناً ومستترة أحياناً... أعني بذلك: داء تقديس القبور والأضرحة والمزارات! ذلك الداء الذي فعل في أمة الإسلام -أو كاد- ما فعلته خرافات الكنيسة وطغيانها بأمة النصارى، أفيون اجتماعي مدمِّرٌ للشعوب تماثل آثاره أفيون المخدرات المدمر للأفراد مع تغييبهم وتخديرهم -إن لم تزد عليها-.
فما هو حصاد السنين من نتائج وآثار تقديس القبور والأضرحة؟ أصل الانحرافات وأخطرها:
من الصعب على الباحث أن يحصر آثار تقديس القبور والأضرحة، ولكن هناك آثاراً يمكن إبرازها، لخطورتها، ولكونها تُعتبَر أمهات لانحرافات أخرى نتجت عن هذا الداء، ويقف على رأس هذه الآثار: أظلم الظلم: الشرك بالله تعالى، فالراصد لأحوال القبوريين يلحظ بوضوح انتشار الشرك بينهم بجميع أنواعه وصوره ودرجاته شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية، وشرك في الأسماء والصفات شرك أكبر، وشرك أصغر، وما أدراك ما يحدثه الشرك من آثار نفسية واجتماعية على الفرد والمجتمع!
فمن شرك الربوبية ظهر واضحاً اعتقاد القبوريين في الأضرحة وأصحابها: أنهم يسمعون ويبصرون ويجيبون من يتوجه إليهم، وأنهم يعلمون الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وأن لهم قدرة في التصرف والتأثير في الكون بما ليس في طاقة البشر: كالخلق والإفناء، والإحياء والإماتة، وشفاء الأمراض، والنفع والضر، والعطاء والمنع، والإغناء والإفقار، وتحويل الأشياء عن حقيقتها... كما زعم القبوريون أن في الأضرحة وأصحابها القدرة على الرفع والوضع في الدنيا والآخرة، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، ومحو الذنوب وغفرانها.
وبناءً على هذا التصور المنحرِف في الربوبية نشأ شرك الألوهية، حيث توجه القبوريون إلى الأضرحة وأصحابها بالعبادات والتقربات التي لا يصح صرفها إلا لله عز وجل، ففضلاً عن تبركهم بها على وجه غير مشروع وجعلهم إياها عيداً ومنسكاً حتى إنهم ليحجون إليها... فإنهم عظموها كما لو كانوا يعظمون الله سبحانه، فاقسموا بها، واستشفوا، واستنصروا، ولاذوا. وأيضاً: فإنهم دعوها، واستغاثوا بها، وذبحوا لها، ونذروا، وطافوا حولها، وسيّبوا لها السوائب، وساقوا إليها الهدي.
فإذا بدأنا بأقل الصور الشركية، وهو ما يحتمل أن يكون ذريعة إلى الشرك أو يكون شركاً أكبر نجد أن التبرك بالقبور والأضرحة من أبرز هذه الصور؛ فلقد اعتاد القبوريون على "أنهم بزيارتهم لهذه الأضرحة ستأتيهم البركة ويشفون من مرضهم أو يفكون عقم نسلهم... وكانوا يَمَسُّون عمامة صاحب الضريح -بعد الولائم- أملاً في شفاء أوجاع الرأس، ويَمَسّون قفطانه للعلاج من الحمى، ولحس الحجر لفك عسر اللسان، وتقديم العرائض طلباً لرفع الظلم، وتمسح النساء في الضريح أملاً في إنجاب الذكور..." (د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر، ص: [129]).
ولم يستحي القبوريون في طلبهم المنهوم للبركة المزعومة أن يستسيغوا المعاشرة الزوجية في هذه الأضرحة، فهذا الشعراني صاحب أكبر سجل لخرافات القبوريين يذكر من كرامات البدوي أنه دعاه إلى فض بكارة زوجته فوق قبة قبره "فكان الأمر!"[1]، وفي السودان: "وصل الأمر -في العصر الحاضر- عند بعض الرجال المخرفين إلى مجامعة زوجاتهم عند أضرحة الأولياء، بدعوى نيل البركة" (د. ناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع، التبرُّك - أنواعه وأحكامه، ص: [473-474]).
وبالطبع فإن هذا التبرُّك يفتح باب الرقى والتمائم الشركية على مصراعيه.
من الأصغر إلى الاكبر:
فإذا ما تركنا التبرُّك وقصدنا بيان الشرك الصريح في أقوال المعتقدين في الأضرحة وأفعالهم، فإننا نكاد ألا نستطيع الفصل بين أنواع الشرك في هذه الممارسات؛ فالشرك في الربوبية مصاحب للشرك في الأسماء والصفات، وينبني عليه باعتباره نتيجة حتمية: الشرك في الألوهية.
وإليك بعض نماذج لهذا الشرك أو ذاك:
من النماذج الصارخة التي تحوي أنواع الشرك كله (ربوبية، وألوهية، وأسماء وصفات) ما أورده أبو بكر العراقي عن أحد القبوريين "وهو إمام وخطيب في أحد مساجد ديالى المهمة، يقول: دعوت الله ست سنوات أن يرزقني الولد فلم أُرزَق، وذهبت إلى شيخي مصطفى النقشبندي في أربيل فما أن استغثت به وطلبت منه الولد حتى رُزِقت بطفلين توأمين!" (حوار مع الصوفية، ص: [56])؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فهذا (الإمام) أشرك في الربوبية لاعتقاده أن لشيخه النقشبندي القدرة على التصرُّف والتأثير في الكون بالنفع والعطاء من دون الله، ومن ثم فإنه: أشرك في أسماء الله الحسنى: النافع الضار، والوهاب، والرزاق. وأشرك في الألوهية لصرفه عبادة لغير الله؛ وذلك بدعائه لشيخه النقشبندي أن يرزقه الذرية.
فالانحراف في توحيد الربوبية عند القبوريين يتبعه دوماً انحراف في توحيد الألوهية، وإليك إيضاحاً آخر:
يقول عرفة عبده علي: "وقد احتشدت مؤلفات مناقب السيد البدوي بكرامات أسطورية غريبة لا تحصى، منها -على سبيل المثال-: إحياء الموتى، وانقاذ الأسرى في بلاد الفرنجة، وقوله للشيء كن فيكون بإذن الله!".
فماذا ترتَّب على هذا الاعتقاد في البدوي؟
يقول الكاتب نفسه: "وكثير من أتباعه يجعلونه في منزلة أسمى من مرتبة الأنبياء![2] فما هذه المنزلة؟ استمع إلى شهادة أحد العلماء: فقد رأى الشيخ رشيد رضا جماعة من هؤلاء القبوريين" تطوف حول قبر السيد البدوي، الذي تحول إلى كعبة ثانية، وكانت هذه الجماعة تطلب من السيد، لما شاع بينها من القصص والحكايات حول مقدرته العجيبة في قضاء الحوائج[3]، فإذا كان ذلك في أحد القبور، فهل يختلف الحال في الأضرحة الأخرى؟
تفشى الداء:
إذا شملنا واقع الأضرحة بنظرة عامة وجدنا أن الطقوس التي يمارسها المعتقدون في القبور تعدَّت إلى كثير من الصور التي تجسد أنواع الشرك بدرجاته المختلفة، وهذا هو واقع القبوريين:
* فبالأضرحة والقبور أقسموا: يقول الإمام الصنعاني: "...ويقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه" (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، ص: [26]).
"...ولن يُصدِّق أحد من الحالف إلا إذا حلف بواحد منهم، وهذا كان شيئاً طبيعياً كُنَّا نراه في القرى ونحن صغار، ولا زال يجري للآن" (د. عبد الكريم دهينة، الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص: [89]).
وهذا الانحراف العقدي أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله تعالى: العظيم*، والرقيب، والشهيد، والعليم.
* وبها لاذوا واحتموا: فكما جعل الله سبحانه البيت الحرام ملاذاً من دخله كان آمناً، جعل سدنة الأضرحة "تلك الأضرحة الوثنية حرماً آمناً يهرع إليها المجرمون والفارون، ويلجأ إليها الخائفون، ليأمنوا في رحابها، ويستريحوا في ظلالها،... وكثيراً ما عفي عن اللائذين بالأضرحة من المجرمين إكراماً للمدفونين أو خشية ورهبة من انتقامهم وبأسهم" (الانحرافات العقدية، ص: [339]).
وقد يدخل ذلك في الإلحاد في أسمائه تعالى: الكافي، والولي، والنصير، والعزيز.
* واليها توجهوا بالطلب والدعاء: وهذه بدأت بأن "بث بعض المتصوفة فكرة أن الدعاء عند قبور الأولياء والصالحين مستجاب"، وانتهت بأن "أخذ العوام يطوفون بقبور الصالحين، يستعينون بهم، ويخاطبونهم، ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ" (محمد أحمد درنيقة، السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعية والدينية، ص: [217]).
حتى أصبح الواقع "أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان، أغثني..." (روح المعاني، م3، ج6، ص: [128]).
ولا شك أن من الدعاء: الاستغاثة والاستعانة: ومن المفارقات أن تلك العبادة تتجلى واضحة عند القبوريين في المواطن التي كان المشركون يخلصون فيها الدعاء لله وحده؛ لأنهم يعلمون أن آلهتهم لا تجيبهم ولا تنفعهم في تلك المواطن، ويحكي محمد السنوسي أنه "حين كان راكباً في البحر، وهاجت الرياح، وتلاطمت الأمواج حتى كادت السفينة أن تغرق، أخذ يستجير -كما يقول- بكل ما يستحضره من الأولياء كي يكشفوا كربته!" (الانحرافات العقدية، ص: [321]).
وليس هذا حالة خاصة، بل إن "من المشاهد اليوم أن كثيراً من الناس يستغيثون بالمشائخ والأنبياء والأئمة والشهداء" (جهور علماء الحنفية، ص: [416]، نقلاً عن أبي الحسن الندوي في رسالته: تقوية الإيمان).
فأمثال تلك المشاهدات المستقاة من الواقع الشركي للقبوريين دعت كثيراً من العلماء إلى التصريح بأن شرك الأولين من عباد الأصنام أخف وطأة من شرك القبوريين، وذلك من عدة وجوه بينوها في كتبهم (انظر على سبيل المثال: رسالة: كشف الشبهات؛ للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورسالة: أربع قواعد له أيضاً، وصيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، لمحمد بشير السهسواني الحنفي، ص: [166]، وغاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الألوسي: [1/295]).
ومن الدعاء أيضاً: الاستشفاء، ولعلنا نوضح هذا الجانب لاحقاً عند الحديث عن الآثار الاجتماعية للاعتقاد في القبور والأضرحة.
ولا شك أن هذا الانحراف في الدعاء أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله تعالى الحسنى، ومنها:
السميع، المجيب، المعطي، الرزاق، القادر، النافع، الضار، النصير، العليم، الشافي.
* ولها ذبحوا ونذروا: وهذه أيضاً من الشعائر اللازمة للاعتقاد في القبور والأضرحة، "فالرعاة في شرقي الأردن يطوفون بالأغنام حول مقام النبي يوشع" في أزمان الأوبئة ويختارون خير النعاج، ويصعدونها إلى سطح المقام وينحرونها فيسيل دمها على عتبته (مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص: [903]).
فـ "غاية الزيارات لمقامات الأولياء هي تقديم الذبائح" (مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص: [914]).
وكثيراً ما يقترن الذبح بالنذر، ولا شك أن الذبح والنذر "سواءً أكان ذبحاً، أو إهداء زيت، أو إعطاء نقود..." من العبادات التي لا تجوز إلا لله تعالى، لذلك يقول الإمام الصنعاني رحمه الله: "والنذر بالمال على الميت ونحوه، والنحر على القبر، والتوسل به، وطلب الحاجات منه، هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية، وإنما كانوا يفعلونه لما يُسمُّونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يُسمُّونه ولياً وقبراً ومشهداً. والأسماء لا أثر لها ولا تُغيِّر المعاني، ضرورة لغوية وعقلية وشرعية، فإن من شرب الخمر وسمَّاها ماءً، ما شرب إلا خمراً..." (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، ص: [18-19])
ابحث عن الضريح!
وكل ذلك لا يخص ضريحاً دون آخر، بل هو عام في جميع الأضرحة المقصودة بالتوجه والاعتقادت فحيثما كان ضريح يعتقد فيه؛ كان الشرك بجميع صوره وأنواعه ودرجاته؛ فهذا قبر ابن عربي بدمشق، يحكي عبد الله بن محمد بن خميس مشاهداته عنده، فيقول: "لقد ذهبت إلى قبر ابن عربي في دمشق فوجدت فئاماً من الناس يغدون إليه ويروحون، وجدتهم يطوفون حوله، ويتوسلون به، ويُعلِنون دعاءهم له من دون الله. وجدت المرأة تضع خدها على شباك الضريح وتمرغه وتنادي: اغثني يا محيي الدين. وجدت الصبايا البريئات يجئن إليه، ويمددن أمامه الأكف، ويمسحن الوجوه، ويخشعن، ويتضرعن" (شهر في دمشق، ص: [64]).
باختصار: "عند قبر أبن عربي في دمشق يُمارَس القبوريون شتى ألوان الشرك الأكبر" (علي بن بخيت الزهراني، الانحرافات العقدية، ص: [327]).
وفي الهند: أصبح قبر الشيخ بهاء الدين زكريا الملتاني "مرجع الخلائق في العصر الأخير، ويطوفون حوله، ويعملون ويصنعون على قبره جميع الأعمال اللائقة بالمعبود، كالسجود، والنذور، وما أشبه ذلك، وضريح الشيخ علي الهجوري في لاهور في باكستان، وهو من القبور العظيمة، والناس يزورونه كل سنة، بل كل يوم، ويطوفون حوله، ويسجدون له، ويُقدِّمون النذور، ويستغيثون به، ويطلبون العون والمدد" (علي بن بخيت الزهراني، الانحرافات العقدية، ص: [327]).
و"عند القبر المنسوب إلى هود في حضرموت يحدث من الشرك الأكبر ما يعجز القلم عن وصفه، شأنه في ذلك شأن كل الأضرحة في البلاد الأخرى. وقد بولغ في تقديس هذا الضريح، فتراهم يشدون الرحال لزيارته وعندهم شيء من بقايا الشعور الوثني الذي كان يشعر به العرب للات والعزى، يستعينون به ويتوجهون إليه، ويولون وجوههم شطره لقضاء الحاجات، واستنزال البركات، ودفع الكربات" (علي بن بخيت الزهراني، الانحرافات العقدية، ص: [326]).
بل لقد اعترف أحد كبار منظِّري القبورية وهو الشيخ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري بوجود الشرك الأكبر والكفر الصراح في القبورية، فقال: "إن كثيراً من العوام بالمغرب ينطقون بما هو كفر في حق الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكذلك نرى بعضهم يفعل ذلك مع من يعتقده من الأحياء، فيسجد له، ويُقبِّل الأرض بين يديه في حال سجوده، ويطلب منه في تلك الحال الشفاء والغنى والذرية، ونحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله تعالى وإن عندنا بالمغرب من يقول في ابن مشيش: إنه الذي خلق الابن والدنيا، ومنهم من قال -والمطر نازل بشدة-: يا مولانا عبد السلام، الطف بعبادك! فهذا كفر" (عن: جهود علماء الحنفية، ص: [479-480]، نقلاً عن: إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد على القبور، للغماري).
بين الفرد والمجتمع:
كان هذا عرضاً لأهم صور الشرك، الذي هو أخطر مساوئ الاعتقاد في القبور والأضرحة على دين الإنسان ودنياه، فهو يناقض أساس الاسلام ويهدم الركن الأول منه، كما أنه يحمل في طياته مما يحمل: "التمزق النفسي والتفكير الخرافي، فإذا أمعنا النظر إلى أثر هذا الشرك في المجتمعات وجدنا آثاراً لا يستهان بسوئها، اقترنت بهذه المظاهر الشركية، ومنها:
شرك في التوحيد وشرك فى التشريع:
لا شك أن التشريع مرتبط بالتألُّه والتعبُّد، فهو أحد أقسام التوحيد، لذا: رأينا دائماً أن الانحراف في توحيد العبادة والنسك يصاحبه انحراف في توحيد التشريع والتحاكم، "فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف من الآية:26]، وقال في الإشراك به في عبادته: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فالأمران سواءً كما ترى إيضاحه" (الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، ج7، ص: [162]).
وعلى هذا يرتبط التحليل والتحريم التشريع بالمعبود ارتباطاً وثيقاً، حتى لقد توافقت وتزامنت دعوة العرب للشرك بالله في عبادته وتغيير دين إبراهيم عليه السلام، مع إدخال تشريعات لم يأذن بها الله، بل أمر بها الطواغيت، فعمرو بن لحي الذي كان أول من غير دين إبراهيم عليه السلام وأدخل عبادة الأصنام في العرب، كان هو نفسه أول من سيَّب السوائب وشرع لهم الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها (بتصرُّف عن: أضواء على ركن من التوحيد، لعبد العزيز بن حامد، ص: [16]، وحديث أن عمراً بن لحي: "أول من سيَّب السوائب" في البخاري، كتاب: التفسير، باب: [13]).
وفي هذا يقول الشيخ محمد رشيد رضا: "{وَأَكثَرُهُم لاَ يَعقِلُونَ} [المائدة من الآية:103]، أنهم يفترون على الله الكذب بتحريم ما حرَّموا على أنفسهم، وأن ذلك من أعمال الكفر به، بل يظنون أنهم يتقربون إليه ولو بالواسطة، لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب... ليست بزعمهم إلا وسائط بينهم وبين الله تعالى... وهكذا شأن كل مبتدع في الدين بتحريم طعام أو غيره، وتسييب عجل للسيد البدوي أو سواه" (تفسير المنار، ج7، ص: [204]).
وتعدَّى أمر التشريع عند القبوريين تسييب عجل للضريح، إلى التلاعب في بعض العبادات المفروضة، ويمثل الحج أبرز مثال لهذا التلاعب، الذي بدأ بسن آداب وطقوس معينة لزيارة تلك الأضرحة، "فالزيارة ليست مجرد مرور عابر، ويجب أن تؤخذ بمعناها الدقيق، فعملية الاستقبال داخل الضريح هي لقاء بين الولي -الداعي- والزائر -الضيف-" (موالد مصر المحروسة، ص: [83]).
"لذلك لم يقتصر القبوريون، على إقامة المباني والأضرحة عليها فحسب، بل صنعوا في آداب زيارتها وترتيبها المصنفات الطوال، منها: كتاب شمس الدين محمد بن الزيات المعروف الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة" (د. سعاد ماهر فهمي، مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج1، ص: [47]).
ومن (آداب للزيارة) إلى (مناسك للحج)، فقد "آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسمَّاه: مناسك حج المشاهد مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عُبَّاد الأصنام" (إغاثة اللهفان، لابن القيم، ج1، ص: [197]).
ولم يكتفوا بتصنيف الكتب في ذلك، بل أشاعوا ذلك التشريع في جمهورهم، فالدكتور عبد الكريم دهينة يذكر عن قريته التي بها أكثر من ثلاثين ضريحاً تقام لها موالد ونذور ونسك، أنه "قد أفتى بعضُ الفسقة بأن الحج ينفع إليهم" (الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص: [128]).
كما "أن شطراً من العامة في صعيد مصر يرى أن الطواف سبع مرات بقبر الشيخ القناوي بقنا، فيه غناء عن أداء الحج إلى بيت الله الحرام..." (حسين أحمد أمين، مقال: تأمُّلات في حقيقة أمر أولياء الله الصالحين، ص: [137]).
وعلى ذلك فليس بمستغرب أن يقول السخاوي: "جاء الحُجاج هذه السنة لسيدي أحمد البدوي من الشام وحلب ومكة، أكثر من حجاج الحرمين!" (نقلاً عن: بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، ص: [268]).
فهذا باب من التشريع، وهو أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله الحسنى: الحكيم، والحكم، والعليم، والعزيز، والملك، والعظيم.
وكل ذلك أدَّى إلى الاستهانة بأوامر الله عز وجل، واستبدالها بتعظيم شعائر الأضرحة وأوامر سدنتها، وبذا كانت القبورية أحد الأسباب التي هيأت شعوب العالم الإسلامي لقبول العلمانية الوافدة وتشريع ما لم يأذن به الله.
شرك في التوحيد، ونكوص عن مجاهدة الأعداء:
ولست هنا بصدد تقييم علاقة أهل التصوف بمقاومة الأعداء -سلباً وايجاباً-، ولكننا نريد بيان أثر الأضرحة في جهاد أعداء الأمة، ضمن تأثيرها على حياة الشعوب الإسلامية في شتى المناحي. والمتتبع لأثر الأضرحة في هذا المجال يجد أن الأضرحة والقبور هيمنت على هذا الجانب ضمن هيمنتها على الحياة كلها، فأصبحت الأضرحة والمزارات تُمثّل بحق (أفيون الشعوب الإسلامية)!
فقد اتخذتها الشعوب مثير قتال الأعداء ودافع مجاهدتهم، باعتبار أنها الرموز المقدسة التي لا ينبغي أن تمس، "ففي ريف المغرب الذي كان يحتله الإسبان قامت القبائل هناك بثورة عارمة ضدهم، حين بنى الإسبانيون مركزاً للحراسة بقرب ضريح تقدسه القبائل" (الانحرافات العقدية، ص: [305]).
وقد فطن الأعداء لهذا الأمر، فحرصوا على عدم المساس بهذه القبور والأضرحة لعدم إثارة الذين يقدسونها، بل ساهموا في الترويج لها ولطقوسها، بينما كانوا يبدلون منهج حياة المسلمين تبديلاً كاملاً، وينهبون ثروات البلاد نهباً منظماً، "ويرحل بنا المؤرخ العظيم عبدالرحمن الجبرتي إلى زمن الحملة الفرنسية، يوم تقلد الشيخ خليل البكري نقابة الأشراف... وفيه سأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟! فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقُّف الأحوال، فلم يقبل، وقال: لابد من ذلك، وأعطى له ثلاثمئة ريال فرنساوية معاونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع الفرنساوية يوم المولد، ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم..." (عرفة عبده علي، موالد مصر المحروسة، ص: [14]).
وكما مثَّلت القبور والأضرحة لدى المعتقدين فيها مثير قتال الأعداء ودافع مجاهدتهم، فإنها شكَّلت عندهم بديلاً لأي جيش يناهض هؤلاء الأعداء.
فهي عندهم (هيئة المستشارين) التي تُقرِّر قتال الأعداء أو لا تقرِّره، يقول الدكتور عمر فروخ: "لا ريب في أن الأوروبيين قد عرفوا ذلك واستغلوه في أعمالهم الاستعمارية".
ذكر مصطفى كامل بطل الوطنية المصرية في كتابه (المسألة الشرقية) قصة غريبة في أذن القارئ العادي، قال: ومن الأمور المشهورة عن احتلال فرنسا للقيروان في تونس: أن رجلاً فرنسياً دخل في الاسلام وسمَّى نفسه سيد أحمد الهادي، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعُيِّن إماماً لمسجد كبير في القيروان، فلما اقترب الجنود الفرنساويون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل (سيد أحمد) الضريح، ثم خرج مهولاً بما سينالهم من المصائب، وقال لهم: إن الشيخ ينصحكم بالتسليم؛ لأن وقوع البلاد صار محتماً، فاتبع القوم البسطاء قوله ولم يدافعوا عن مدينة القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنساويون آمنين في 26 أكتوبر سنة 1881م" (نقلاً عن: التصوف بين الحق والخلق، لمحمد فهر شقفة، ص: [211]، وانظر: هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، ص: [171]).
وهي عندهم (حرس الحدود) الذي يقوم على صد الأعداء، بل ومنع الفتن والأوبئة! فـ"كل مدينة كبيرة أو صغيرة محروسة بولي من الأولياء، فهو الذي يحميها من العين ومن الغارات ومن نكبات الطبيعة، ومن طمع الطامعين" (الانحرافات العقدية، ص: [324]).
وبناء على ذلك الاعتقاد يذكر الكوثري "أن أرض الشام يحرسها من الآفات والبلايا أربعة من الأولياء الذين يتصرَّفون في قبورهم!" (عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د. شمس الدين السلفي الأفغاني، ص: [461]).
وبخلاف الأضرحة الكبرى التي (تحرس) المدن المهمة والمراكز الحيوية، يشيع هذا الاعتقاد أيضاً عند القبوريين في القرى والنجوع، ففي "مركز مغاغة بالمنيا، وعلى وجه التحديد بقرية بني واللمس على البحر اليوسفي، يشتهر مقام سيدي حسن أبو رايتين، ويعتقدون أنه يحرس القرية ويحفظها من السرقة وعداوات الدم، ويلجؤون إليه لرفع المظالم..." (موالد مصر المحروسة، ص: [53-54]).
وهي عندهم وسائل دفاع جوي! فضريح علي الروبي بالفيوم بمصر "أنقذ المدينة من الدمار خلال الحرب العالمية الثانية، ببركته التي حولت مسار القنابل إلى بحر يوسف!" (موالد مصر المحروسة، ص: [53]).
وهي عندهم مُعين المدد والذخيرة، فأثناء الثورة العرابية روَّج القبوريون إشاعة قوية مفادها "أن كبار الأولياء الدسوقي -البدوي- عبد العال أهدوا أحمد عرابي ثلاثة مدافع ليستعين بها على منازلة الإنجليز" (الصوفية والسياسة، ص: [120]).
وعندما يستدعي الموقف الإمداد بـ (قوات خاصة) لمنازلة عدو شديد البأس يطلب القبوريون المدد من الأضرحة وأصحابها أيضاً، فعندما أغار التتار على بلاد الشام "كان القبوريون يخرجون يستغيثون بالموتى عند القبور، ولذا قال بعض شعراء القبورية":
ياخائفين من التتر *** لوذوا بقبر أبي عمر
(جهود علماء الحنفية، ص: [458]).
وحين أغار جنود الفرنسيين والإفرنج على مصر "صاح المحاربون في المسلمين وصرخوا مستغيثين بغير الله مع الله: يا ربّ يا لطيف، ويا رجال الله، ونحو ذلك" (جهود علماء الحنفية، ص: [460]).
وذكر الشيخ رشيد رضا "أنه عندما زحفت روسيا على مدينة بخارى فزع الناس إلى الاستغاثة بحامي بخاري! -كما يُسمِّيه أهلها- شاه نقشبند، فلم يغنِ عنهم شيئاً" (عن: الانحرافات العقدية، ص: [320]).
وذكر أيضاً أنه "انتشر بين أهل مراكش، عند حلول النوائب بهم، وتعدي الأجانب عليهم، الاجتماع حول قبر الشيخ إدريس في فاس، طالبين أن يكشف ما نزل بهم من الشدة، تاركين ما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم والإعداد العسكري للأعداء" (محمد أحمد درنيقة، مصدر سابق، ص: [218]).
- وهي عندهم (جيوش متكاملة)، فلماذا الإعداد، والقبور والأضرحة عند المعتقدين فيها بمثابة جيوش متكاملة تفعل ما لا يستطيعه المحاربون؟! فقد قال أحد كبار الصوفية في زمن احتلال الإنجليز لمصر، ما معناه: "لو أراد إبراهيم الدسوقي خروج الإنجليز من مصر ما بقي إنجليزي واحد، وقال بعضهم في نكسة سنة 1967م ما يدور حول هذه الفكرة" (د. عبد الكريم دهينة، الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص: [120]).
وذكر الدكتور سيد عويس في كتابه المهم (رسائل إلى الإمام الشافعي) أن إحدى الرسائل الموجهة إلى ضريح الإمام الشافعي، والمؤرخة في أكتوبر سنة 1955م، يطلب صاحبها فيها عقد جلسة شريفة يحضر فيها معه سيدنا الحسين وسيدنا الحسن، والست زينب أم هاشم، وجميع أهل بيت النبي! ويطلبون من الله مسح إسرائيل اليهود، وإزالتها من على وجه الأرض المقدسة في الأسبوع، ويكون -إن شاء الله- آخر ميعاد يوم الثلاثاء القادم! (نقلاً عن مقال: الأضرحة - مدخل تاريخي واجتماعي، للأستاذ. وليد فكري فارس، مجلة التوحيد المصرية، السنة: [24]، العدد: [4]، وانظر : الصوفية والسياسة، ص: [51]).
ولها تعقد احتفالات النصر، فمما يذكره الجبرتي أنه عند "مغادرة الفرنسيين للقاهرة سنة 1216هـ هرع قائد الجيش العثماني حسين باشا القبطان إلى زيارة المشهد الحسيني، وذبح فيه خمس جواميس وسبعة أكباش، واقتسمتها خدمة الضريح" (عن: بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، ص: [269]).
فهل أضر مؤثر بقوة الأمة أعظم من هذا التخدير الذي سرى في جسدها بفعل أفيون تقديس القبور والأضرحة؟
شرك في التوحيد وتخلُّف في المجتمع:
وترتفع الخرافة إلى ذروتها حينما يعمد القبوريون إلى إضافة التخصصات للأضرحة بعد تقسيم درجاتها إلى كبرى وصغرى، فمثلما كان للإغريق -ومن بعدهم للرومان واليونان- إله لكل شيء. إله للحرب، والهة للحب، وإلهة للخصب، إله للخمر... وجدنا عند القبوريين أضرحة ومزارات تشتهر بتخصصها في حاجات مختلفة، يخصونها بالتوجه إليها لطلب هذه الحاجة منها.
ولعل من هذا القبيل: الأضرحة والمزارات النسائية، كمقام "الشيخة مريم التي يحتفل بمولدها مرتين: مرة في شم النسيم**.
والأخرى في ذكرى مولد النبي، وقد اشتهرت ببركتها في الشفاء من العقم" (موالد مصر المحروسة، ص: [53]).
وكذلك يطلب القبوريون "من ضريح الشيخة صباح في طنطا إبراء النساء من العقم" (الانحرافات العقدية، ص: [336])، ومزار (بنات عين) في معان بالأردن: "انتشر ذكره بين العواقر، يفدن إليه بالقرابين والمصابيح لنيل البرء والشفاء، وهو مختص بالنساء فقط ويدعونه بالمستشفى النسائي!" (مجلة المشرق، 11/11/1920 م، مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص: [907]).
وإضافة إلى تلك الأضرحة والمزارات التي اشتهرت بتخصصها النسائي، هناك ضريح (النبي شعيب) في وادي السلط الجنوبي بالأردن "وهو ولي! مرهوب مختص بالأقسام الكبرى، إذا أشكلت الدعاوى واستعجمت مذاهبها، ويطلب القاضي البدوي القسم الرهيب في بركة شعيب..." (مجلة المشرق، 11/11/1920م، مقال : المزارات في شرقي الأردن، ص: [903]).
وفي حلب بسورية اعتاد بعض الناس هناك أن يسافروا إلى ضريح الشيخ ريح زاعمين أنهم يشفون من ريحهم... وللناس في قبر أبي العلاء المعري [بمعرَّة النعمان بسورية أيضاً] اعتقاد عظيم، يبيِّتون على قبره شربة ماء ويستعملونها للبرء من الحمى، وفي مدينة طنطا [بمصر] يطلب الناس هناك من ضريح عِزَّ الرجال -وهو أحد تلاميذ البدوي- شفاء الأطفال، ومن ضريح محمد الحدري المعروف بالعمري شفاء أمراض الروماتيزم!" (الانحرافات العقدية، ص: [336]).
فإذا كان هذا الاعتقاد الناشئ عن الانحرافات في اسم الله تعالى: الشافي، دعا المعتقدين في الأضرحة إلى التوجه إليها بالقربات والعبادات لنيل مرادهم، فإنه أثمر أيضاً تخلفاً اجتماعياً مريعاً؛ حيث استغنى الناس بالأضرحة عن الطب وعلومه، فما حاجتهم إلى طب (الكفار!) وعندهم أضرحة المسلمين التي تشفيهم -وبأيسر السبل- مما يعجز عنه الأطباء؟! وذلك صرف الناس عن تعلم الطب، فأثر ذلك بدوره في تدني مستوى الطب في المجتمع، مما كان يدفع الناس نحو الأضرحة مرة أخرى لطلب الشفاء منها.
وإضافة إلى إهمال تعلُّم الطب فقد أهملت العلوم الأخرى، بل أهملت الخدمات الاجتماعية للأحياء لانشغال الناس بإعمار مراقد الأموات!
"شرك فى التوحيد، وفساد في الأخلاق إضافة إلى المفاسد الأخلاقية التي تحدث حول الأضرحة" (انظر على سبيل المثال: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، للدكتور زكريا سليمان بيومي، ص: [133-137]).
هناك أشكال من هذه المفاسد ارتبطت بها أيضاً، وفي ذلك تضرب (الموالد) بنصيب وافر، حيث يشيع فيها الفساد الأخلاقي مقترناً بالشرك الأكبر والأصغر.
ويجدر بالذكر هنا الإشارة إلى الأثر النصراني واليهودي في هذه الموالد، حيث تكاد تتطابق أشكال طقوس احتفالات أعياد الميلاد والموالد للقديسين و(الأولياء) النصارى واليهود مع ما يحدث في موالد الأولياء المسلمين (انظر: موالد مصر المحروسة، ص: [17]).
حتى إن مولد (أبي حصيرة) اليهودي في قرية (ميتوه) بدمنهور في مصر -والذي كان يُحتفل به قبل التطبيع مع اليهود على أنه ولي مسلم، ويعقد مولده كل عام على هذا الأساس- يأتي إليه اليهود من أنحاء شتى ليُقيموا مولده، وفيه: "تقاد الشموع وتسكب زجاجات الخمر على القبر، ويرقص النساء والرجال عرايا أو شبه عرايا على أنغام شرائط الكاسيت، وفي نهاية الليل يتمددون وهم سكارى فرادى ومتزاوجين في ظل حراسة جنود الشرطة والأمن المركزي!" (جريدة الوفد القاهرية، 4/8/1416 هـ، ص: [6]).
هذه صورة من موالد (اليهود)، فماذا عن موالد (المسلمين)؟
في صدر مقالها عن موالد الأولياء في مصر، تعرف هيام فتحي دربك (المولد) بأنه: "الاحتفال بيوم ميلاد ولي من أولياء الله، والاحتفالات بالموالد تمارس في المنطقة التي فيها قبر الولي، وهي حفلات فولكلورية شعبية من غناء ورقص وتسلية، والاستماع إلى الموسيقى الصاخبة وألعاب الأطفال والمراجيح وحلقات الذكر الذي يتخذ مظهر الرقص أحياناً ومظهر الشعوذة أحياناً أخرى، ففيها يقوم الرجال بعمل حركات من قيام وقعود والى الشمال وإلى اليسار وهم يذكرون لفظ الجلالة... الله، الله، حي، حي... وقد يندمج بعضهم في حلقات الذكر فيشد شعره ويتمرغ على الأرض!" (هيام فتحي دربك، مصدر سابق، ص: [41]).
ولكن ماذا عن حالة المولد فيما مضى؟
يصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي أحد الموالد على عهده منذ حوالي مئتي عام، فيقول: "ينصبون خياماً كثيرة، وصواوين، ومطابخ، وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس، وخواصهم وعوامهم، وفلاحي الأرياف، وأرباب الملاهي والملاعب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة، فيملؤون الصحراء والبستان، فيطؤون القبور، ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً..." (نقلاً عن: هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، ص: [161]).
فالموالد ما هي إلا فرصة للتحلل من كل الضوابط والتفلت من كل القيود سواءً أكانت أخلاقية أو شرعية أو حتى تنظيمية، حتى أصبحت كلمة (مولد) تطلق على المواقف التي تشيع فيها الفوضى وعدم الانضباط.
فالمولد فرصة لأن "تُنتهك فيه حرمات النساء، وتُشرب الخمور"، حتى إنه "أصبح مجال حياة الناس في الترويح عن أنفسهم ومكاناً للهو والرقص والغناء الساقط" (د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص: [131]).
وفي أيام الربيع في الأردن يفد الزائرون إلى مزار (جعفر الطيار) "فترى الفتيات يرقصنَ حول المزار بأغاني مطربة ونغمات رقيقة..." (المزارات في شرقي الأردن، ص: [906]).
فليس هذا خاصاً ببلد دون آخر، بل هو موجود حيثما كانت قبورية وأينما كانت موالد أو (احتفالات) أو (أعراس) للأضرحة.
وبعد:
فقد كانت هذه صورة لبعض نتائج تفشي داء تقديس القبور والأضرحة في العالم الإسلامي، والملاحظ أن هذه الصورة ما كانت إلا تعبيراً عن الهيمنة السلبية على حياة الناس كلها، وليس هذا الحال خاصاً بمحلة دون أخرى، بل وصل الحال إلى أن أصبح "أكثر المسلمين في العالم قد عبدوا القبور بأنواع من العبادات، بل عبدوا الأشجار والغارات، وقد ارتكبوا أنواعاً من الشرك بالله تعالى!" (الشيخ مسعود الندوي، نقلاً عن: جهود علماء الحنفية، للدكتور شمس الدين السلفي، ص: [472]).
ولم يقتصر ذلك على الجهال والطغام، بل شمل جمهرة من المنتسبين إلى العلم الشرعي أو من يُسمَّون أنفسهم بالمثقفين والمتحضرين! لا ينجو من ذلك إلا المتحصِّن بعقيدته، المستحضر توحيد ربه، الذي امتلأ قلبه بمحبة الله عز وجل وخشيته ورجائه.
إن تقديس القبور والأضرحة داء يعمل في أعز مشخصات هذه الأمة وأبرز ما يميزها، وهو التوحيد، وإن من علامات صحة الجسد إحساسه بالألم؛ فالجسد الميت أو الواقع تحت تأثير مخدر لا يحس بالألم رغم وجود مقتضاه، وهذه الأمة لا تموت ولا تنتهي إلا عند الإيذان بانتهاء الحياة في هذه الدنيا، ولكنها قد تدخل في غيبوبة عن أمر دينها أو أمر دنياها، إما بسبب غفلة من أبنائها أو بسبب كيد من أعدائها، أو بكليهما، وعند ذاك فإن كل من يساهم في إزالة أثر المخدر عنها، وكل من يساعد في إيلامها أو إظهار ألمها، فإنه يضرب بسهم في معافاتها، لأنها عندما تحس بالألم تعرف أنه أصابها داء، وعندما تدرك أنها مريضة تبحث عن الداء الذي أصابها لتقضي عليه وتفيق من رقادها.
فهل يبذل الدعاة -بل كل مسلم موحِّد- جهودهم ويجردون سيوف دعوتهم لإنقاذ الغارقين في غيبوبة الخرافات والأوهام الشركية، الذين أوشكوا على الهلاك؟
هذا ما نرجوه ونأمَله، وندعو الله العلي القدير أن يوفقنا وإياهم لما يحب ويرضى.
ــــــــــــــــ
المراجع:
[1]- (عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د. شمس الدين السلفي الأفغاني، ص: [744]، نقلاً عن الطبقات الكبرى للشعراني).
[2]- (موالد مصر المحروسة، ص: [80]).
[3]- (محمد أحمد درنيقة، السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعية والدينية، ص: [207]).
*- (نلاحظ أن الإلحاد في اسمه تعالى: العظيم، يدخل فيه معظم الشركيات، لأنها ناتجة عن تعظيم القبوريين لهذه الأضرحة واصحابها).
**- (أصله عيد فرعوني، ويراد له الانتشار الآن مزاحمة لأعياد المسلمين).
خالد أبو الفتوح