الوطنية دعوة للتأمل
في عام 1911م حاكمت مصر على الغاياتي على نشره ديوان (وطنيتي)، وحكمت عليه بالسجن هو ومن قدم لديوانه. قد كان التحدث في (الوطنية) تهمةً وقتها!!
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
في عام 1911م حاكمت مصر على الغاياتي على نشره ديوان (وطنيتي)، وحكمت عليه بالسجن هو ومن قدم لديوانه. قد كان التحدث في (الوطنية) تهمةً وقتها!!
فإلى هذا التاريخ القريب لم تكن (الوطنية) بالمعنى الجغرافي الموجود الآن قد تشكلت في حس أحد من أبناء الأمة الإسلامية، حتى النخبة التي تزعمت الدعوة (للوطنية)،
وهذا بَيِّن من تتبع رموز (الوطنية) كأحمد عرابي، ومصطفى كامل، وغيرهما.
فالوطنية بمعناها الجغرافي قضية طارئة، وليست من صلب ثقافة هذه الأمة، أو ليست من صلب ثقافة شعب مصر ولا غيره من شعوب المنطقة. وإن تتبعت القضية وحاولت البحث عن جذورها، وجدت أنها وافدة على الثقافة العربية والإسلامية، فكل الذين تحدثوا بالوطنية من النصارى أو غيرهم استوردوا الفكرة من الغرب.
وقد فُعِّلت فكرة الوطنية في إطار العداوة للدين، فقد كانت إحدى وسائل التعدي على الهوية الإسلامية كانت تطويرًا ومن ثم تحريفًا لمفهوم الولاء والبراء، ثم كانت إحدى الأدوات لتقسيم الأمة الإسلامية إلى أوطان، فلم تكن أبدًا عاملًا من عوامل تماسك المجتمع الإسلامي، بل كانت عاملًا من عوامل التفتيت والتناحر الداخلي.
ويلاحظ أنه بعد خروج الاحتلال نشبت الحروب بين الكيانات الصغيرة الأوطان التي رُسمت حدودها في ظل الاحتلال، على خلفية الوطنية، قسمهم الاحتلال، ثم اقتتلوا فيما بينهم، فاقتلتت الجزائر والمغرب، وهما شيء واحد، وانقسم اليمن وهو شيء واحد لشمالٍ وجنوب واقتتلوا، وحاولت العراق هضم الكويت مبكرًا ثم بلعته ودغدغته، ونشبت المشاكل بين مصر وليبيا، ومصر والسودان، ودقت طبول الحرب عدة مرات لولا أن الله سلّم.
وبقليل من التدبر نجد أن حب الوطن عند كل المحبين لأوطانهم تابع وليس متبوعًا، تابع للعقائد، فكل منا يريد وطنه على ذات الهوية التي تشكل شخصيته: المتدين يريد الوطن راكعًا ساجدًا مجاهدًا، والنصراني يود أن ينصب على كل شبر صليباً، وذو الخنا والفجور يريد الوطن مرتعًا للفساق، ومحبي المال يريدون الوطن مصدرًا للأموال، يستثمرون أو يسترزقون، أو ينهبون، ما يستطيعون لنيل المال. فمحبة الأوطان تابع وليست متبوعًا، وكلنا في الحقيقة يجاهد من أجل تقرير ما يعتقده، ودعوى أن نجتمع على حب الوطن هي في حقيقتها دعوة لأن نجتمع على ما يعتقده فريق منا. والقوى تنشئ الحق وتحميه!
والمتابع لأطروحات علماء الإقتصاد يجد في حديثهم عن أسباب تخلف الإقتصاد حديثًا عن الوطنية بحدودها الجغرافية الحالية، فهي المتهم الثالث (بعد فساد السياسة وفساد التعليم)، يتحدثون عن أهمية تفعيل التجارة البينية بين الدول العربية، ويتحدثون عن ضرورة الإفادة من تنوع الموارد بين الدول العربية، وضرورة الإفادة من توفر رأس المال عند بعض الأوطان واستثماره في أوطان أخرى، فمجمل حديثهم عن أن الوطنية الجغرافية، أو الأوطان بوضعها الحالي عائق من عوائق التقدم الإقتصادي.
وإنصافًا لهؤلاء، فقد حاولوا عدة مرات التغلب على تلك الحدود السياسية التي رسمها المحتل، أو رُسمت في وجود المحتل، ولم يستطيعوا شيئًا، فقد عقدت اتفاقية للتعاون الإقتصادي بجوار التعاون الأمني عام 1950م، وعقدت اتفاقية (تسهيل تجارة البينة وتجارة الترانزيت) عام 1953م، وعقدت اتفاقية الوحدة الإقتصادية عام 1957م، وعقدت اتفاقية (تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية) عام 1981م، وأُنشئت لجان تنفيذ ومتابعة، وجدّوا واشتدوا ولم يستطيعوا تحقيق الدرجة الأولى من الدرجات الخمس في التعاون الإقتصادي، وهي منطقة تجارة حرة بين الأوطان، كان السياسي يفسدها عليهم في كل مرة، وكانت الأوطان عقبة كؤود في وجه التقدم الإقتصادي.
وأهل السياسة وخاصة القوميين العرب مجمعون على أن أمن أي وطن لا يقف عند حدوده الجغرافية، بل إلى حيث تأتيه المخاطر، والأكاديميون من المختصين في الشأن العربي (كالدكتور أحمد يوسف أحمد عميد معهد البحوث والدرسات التابع لجامعة الدول العربية) يتحدثون ليلًا ونهارًا عن أن الوطن العربي كتلة واحدة لا تتجزأ، وبالتالي أمنه شيء واحد مرتبط ببعضه، والأستاذ محمد حسنين هيكل يدخل تركيا وإيران مع البلاد العربية، وأثيوبيا وبلاد الحوض.
وهذا بيِّن منذ الاعتراض على (حلف بغداد) عام 1955م، وحتى يومنا هذا نجد أن الأنظمة العربية تعي جيدًا أن ثمة ارتباط قوي بين الأوطان، وأن ما يصيب واحدة منها يصيب الأخرى، ويتضح ذلك في تعاون الأنظمة القائمة مع بعضها ضد الثورات العربية (الربيع العربي) فقد تعاون النظام السوري، وكذا نظام الجزائر، مع نظام القذافي، وتعاونت بعض أنظمة الخليج حين دعمت الفاسدين ممن ثارت عليهم شعوبهم، ولذا يتبع هؤلاء في تحليلاتهم السياسية ما يعرف بـ (تحليل النظم)، فهم يتعاملون مع الوطن العربي ككتلة واحدة، نظام واحد، والحدود السياسية عند هؤلاء أحد العوائق لا المفاخر. فهم بشكلٍ أو آخر لا يعترفون بـ(الوطن) ويأملون في وحدة عربية فيدرالية كما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي سابقًا.
والتاريخ لا يعترف بتلك الأوطان فالمسميات القائمة الآن لم تكن تعرف من قريب، فقد كان الشام (سوريا، ولبنان، وفلسطين، والأردن، وأجزاء من السعودية الآن)، وكان العراق (العراق الحالي، وأجزاء من إيران)، وكانت أفريقيا (أقصى غرب مصر، وليبيا، وتونس، ويطلق عليها المغرب الأدنى)، وكانت الجزائر المغرب الأوسط، ثم ما يعرف بالمغرب الآن ومعه موريتانيا، وأجزاء من السينغال يعرفون بالمغرب الأقصى، وفي جنوب مصر كانت الحبشة تبدأ من جنوب السودان وتضم ما تحته إلى أثيوبيا، ودارفور وما خلفها كانت تعرف بمنطقة الولايات، ولها ذكر في التاريخ الإسلامي، ولها حضور في كتابات المستشرقين (يسمونها السودان)، وفي واحدة من هذه البلدان (جمهورية مالي) توجد مدينة تومبتكو، وهي مدينة علم إسلامية حوت في يومٍ ما أكبر عدد من المخطوطات العربية، ولهذه الشعوب أيام في الدعوة إلى الله.
وفي الساحة حديث عن تفتيت الأوطان الحالية، إلى ما يشبه الكنتونات الصغيرة، فبعد أن كانت الأمة كلها دولة واحدة هي دولة الخلافة (والدول التي أنشئت في دولة الخلافة كانت أشبه ما تكون بمناطق نفوذ بدليل أنها لم تكن تمنع الناس من الحركة، ولا كانت تحكمهم بغير الشريعة) وقسمت إلى هذه البلدان، فإن الغرب الآن يتنادى لإعادة تقسيم هذه "الأوطان" لدويليات صغرى، وإن حدث التقسيم ستشب بين صغارها نار الوطنية ثانية، ويفاخرون بتلك الأوطان الجديدة، ولن ينتهي الأمر.
إن الوطنية بوضعها الحالي جزء من الغزو الفكري، وأداة من أدوات تفكيك هذه الأمة والقضاء على هويتها، وإننا في حقيقة الأمر نصارع على هويتنا لا على أوطاننا، وآن لنا أن نعيد التفكير في قضية الوطنية، ونقضي على هذا المفهوم الخاطئ الذي شتتوا به شملنا، ونعود ثانية أمة واحدة يخرج الرجل من المحيط إلى المحيط يقيم حيث شاء، آمنًا مطمئنًا، لا يحمل هوية غير الإسلام.
- التصنيف: