ظاهرة تصنيف الآخرين بين الظن واليقين
من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت لتحقيق مصالح العباد والبلاد؛ المحافظة على الكليات والضروريات الخمس، من خلال تقرير أصول كلية وترسيخ قواعد مرعية، وتثبيت أسس قوية، منها الأصل الشرعي؛ تحريم النيل أو الانتقاص من عرض المسلم.
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت لتحقيق مصالح العباد والبلاد؛ المحافظة على الكليات والضروريات الخمس، من خلال تقرير أصول كلية وترسيخ قواعد مرعية، وتثبيت أسس قوية، منها الأصل الشرعي؛ تحريم النيل أو الانتقاص من عرض المسلم.
ونتيجة للابتعاد عن الفقه في الدين، وضعف التأصيل الشرعي في إصدار الأحكام على الآخرين، والعدول عن أدب وسمت السلف الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين؛ انتشرت ظاهرة، وتفشَّت نابتة - بعد أن كانت حالة - بين شريحة لا يستهان بها من الشباب، سيما الدعاة وطلاب العلم وغيرهم، ألا هي ظاهرة "الاستغراق والمبالغة والمغالاة والإسراف" في التصنيف والتجريح والتبديع والانتقاص من علماء أجلاء، ومشايخ فضلاء، على سبيل الشك والريبة والظنون بعيدا عن اليقين؛ حتى لا تذهب بنا الظنون بعيدا؛ لابد من التنويه أن أصل التقسيم موجود، فقد صنف الله -سبحانه- الناس إلى مسلم وكافر، والكفار أصناف كما أن المسلمين درجات، إما ظالم لنفسه أو مقتصد أو سابق بالخيرات، والنفاق أقسام، فإما يلحق بالكفار أو نفاقا عمليا يبقى ضمن إطار المسلمين، وهكذا باعتبار التمسك بالسنة ومدى قربهم منها أو ابتعادهم أقسام، فلننتبه لأصل القضية.
فالتصنيف موجود وله أصل، لكن لابد من ضبط في ميزان دقيق وثيق، حتى لا تنفلت الأمور، ومن هم المخوَّلين بالتصنيف وما هي أهليتهم لذلك والنظر العميق بحال المصنَّفين؟ فلا مانع من التصنيف المشروع، القائم على النصح والأمانة، والذي ينتظمه الكلام بعلم يقي من الجهل، وبعدل يقي من الظلم، فبهذا يتحقق الاتزان في المسألة.
أما ما نحن بصدد الحديث عنه والتطرق إليه، هو المبالغة وعدم الضبط لحقيقة التصنيف والتقسيم، حتى وصل الحال بالبعض هداهم الله أن جعلوا هذا أصلا من أصول الدين، لا يستقيم معتقد ومنهج الشخص إلا به أصل الخلل في هذه الظاهرة؛ ابتعاد الطلبة والدعاة بل عامة المسلمين المنشغلين بهذا الجانب، عن التأصيل الشرعي والتقعيد الكلي، وسبر النصوص واستقراء الأحوال قبل إصدار الأحكام، وقبل ذلك ضعف الوازع التربوي، وقلة الأدب الذي بانعدامه لا يبقى للعلم قيمة ولا لحامله مكانة، ورحم الله عبد الله بن المبارك القائل: أنتم إِلَى قليل من الأدب أحوج منكم إِلَى كثير من العلم (تاريخ دمشق)، فكيف لو رأى زماننا؟!
قال ابن القيم: وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول(الجواب الكافي).
ولأهمية الأدب في حياتنا - خصوصا في هذه الظاهرة وتقدُّمه رتبةً على العمل يقول الإمام القرافي: ولذلك هلك إبليس وضاع أكثر عمله بقلة أدبه.
وقال الرجل الصالح لابنه: يا بني اجعل عملك ملحا وأدبك دقيقا، أي ليكن استكثارك من الأدب أكثر من استكثارك من العمل لكثرة جدواه ونفاسة معناه (الفروق للقرافي).
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية أهمية إرجاع الجزئيات والفرعيات إلى كليات وأصول، إذ يقول: لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم (مجموع الفتاوى(19/203)).
إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالعدل والإنصاف، فقال سبحانه: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ} [الأنعام من الآية:152] في جميع الأحوال حتى مع الكفار إذ يقول عز وجل:{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائد من الآية :8]، حتى لا نقع بالحيف والإجحاف.
وتحقيق العدل يحتاج لعلم وفقه وشمولية واستقراء في القواعد الشرعية وأحوال المحكوم عليه، والإنصاف يحصل بتزكية النفوس من أمراض القلوب والتجرد والتربية الصحيحة وحسن السمت والأدب، وإخلاص النية في النصيحة والنقد، لا مجرد التشفي وإظهار النقائص وازدراء الآخرين وتتبع عوراتهم، وتحقيق مكاسب موهومة من خلال التعالي والترفع على الآخرين!.
قال السراج البلقيني: لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض (محاسن الاصطلاح).
لقد ضرب لنا سلفنا الصالح، أروع الأمثلة والمواقف في التعامل مع أخطاء الآخرين إن وجدت، وطُرُق النصيحة وتقديم إحسان الظن، متجردين عن أي خصومة أو اعتقاد مسبق أو تربص أو زلة، ويعظُمُ ذلك في أوقات الفتن واختلاط الأمور.
قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة (سير أعلام النبلاء).
وعن عبد العظيم العنبري قال: كنت عند أحمد بن حنبل، وجاءه علي بن المديني راكباً على دابة، قال: فتناظرا في الشهادة وارتفعت أصواتهما، حتى خفت أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة وعلي يأبى ويدفع، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر).
بخلاف ما عليه كثير من الشباب للأسف الشديد، بمجرد خلاف صغير على مسألة جزئية أو فرعية، قد تحصل القطيعة والتشهير واتهام النوايا، والطعن والشتائم، منتصرين بذلك للنفس، وكأن لسان حالهم: " لا معصوم عن الزلل والخطأ غيرنا" وما نعتقده هو الصواب بكل الأحوال دون أدنى نقاش أو حوار.
وقديماً قيل:
أرى كل إنسان يرى عيب غيره *** ويعمى عن العيب الذي هو فيه
وما خير من تخفى عليه عيوبه *** ويبدو له العيب الذي لأخيه
تتبع أخطاء الآخرين وتصيدها، وتضخيمها ونشرها بين العامة من صفات اللئام، فالكرام يسترون وينصحون سرا شفقة على من خالف وأخطأ، بعيدا عن التحامل والتجني ومجرد هتك الأستار والتشفي وإظهار النقائص.
وهذا والله من مكر الله عز وجل بهذا النصف من الناس، وقلة توفيق وسوء صنيعة، يقول بكر بن عبد الله المزني: "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ مُولَعًا بِعُيُوبِ النَّاسِ نَاسِيًا لِعَيْبِهِ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ مُكِرَ بِهِ" (الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا).
وروى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: كان بالمدينة أقوام لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فأسكت الله الناس عنهم عيوبهم، فماتوا ولا عيوب لهم، وكان بالمدينة أقوام لا عيوب لهم، فتكلموا في عيوب الناس، فأظهر الله عيوباَ لهم، فلم يزالوا يعرفون بها إلى أن ماتوا.
وروى الجرجاني في تاريخ جرجان عن أحمد بن الحسن بن هارون أنه قال: أدركت بهذه البلدة أقواما كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فنُسيَت عيوبهم.
وشاهد هذا حديث أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: « » (صحيح الجامع).
قال القرطبي في التفسير: قال بكر بن عبد الله المزني: إذا أردت أن تنظر العيوب جملة فتأمل عيّاباً، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب.
وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره.
المتسرِّعون في إصدار الأحكام على الآخرين؛ يُقدِّمون الظن على اليقين، والطارئ على الأصلي، والنادر على الغالب، وسوء الظن على حسن الظن، والتعمد على التأويل، والقصد على زلة اللسان، مع أن الأصل في المسلم - سيما من ظاهره السنة والخير والصلاح خلاف ذلك كله.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تعجبكم في الرجال طنطنته، ولكنه من أدى الأمانة، وكف عن أعراض الناس فهو الرجل"(التوبيخ والتنبيه لأبي الشيخ الأصبهاني).
فلا يشترط للعالم والداعية وطالب العلم، أو القيادي والرمز والموجه، أن يكون معصوم من الخطأ والزلل، حتى يكون على الجادة والطريق، فهذه صفة عزيزة نادرة.
يقول الإمام الذهبي: ليس من شرط الثقة أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ، فالكامل الذي ليس فيه شيء عزيز نادر الوجود(مقدمة ميزان الاعتدال).
ويقول ابن الأثير: إنَّما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل بها شيء (اللباب في تهذيب الأنساب).
وما نود التنبيه والتنويه له لأهميته في هذا المقام؛ أن من عُرفَ بصلاحه وحسن معتقده ومتابعته للسنة، وحرصه على نشر الخير والدعوة إلى الله على بصيرة، ثم ظهر منه ما يخالف ذلك فلا نسارع للتضليل والتبديع والتجريح، بل ننصحه بحكمة وموعظة حسنة، ولا نتابعه على ما وقع فيه.
يقول الإمام الذهبي في معرض ترجمته للتابعي قتادة بن دعامة السدوسي وكان يرى القدر: إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه وأتباعه، يغفر له زلَلُه، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك (سير أعلام النبلاء).
وقال السبكي: أن من ثبتت إمامته، وعدالته، وكثر مادحوه، ومزكوه، وندر جارحه، وكانت هناك قرينة دالة عَلَى سبب جرحه من تعصب مذهبي، أو غيره، فإنا لا نلتفت إِلَى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا فلو فتحنا هَذَا الباب، أو أخذنا تقديم الجرح عَلَى إطلاقه، لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون (طبقات الشافعية الكبرى).
ينبغي أن لا يفتح هذا الباب باب التشهير والتصيّد والتربص وإلا لم يسلم منه أحد أبدا، فلا يوجد صنف إلا وله نقائص وعيوب فمن ذا الذي يسلم من الآفات والزلل؟!
وأخيرا: نخلص برسائل سريعة، وتوجيهات نافعة، وقواعد مهمة، حتى لا نقع بشطط أو خلل، ولا نتلبس بهذه الظاهرة من غير أن نشعر، نقول وبالله التوفيق:
1- لا يشترط إذا اختلفنا أن نفترق؛ لأن الافتراق لا يكون إلا على أصول كبرى، ثبتت بنص أو إجماع، والاختلاف يكون فيما دون الأصول؛ وما يقبل وجهة النظر الأخرى وتعدد الرأي أو الاجتهاد.
2- في وقتنا الحاضر والفتن على أشدها، ينبغي أن نتجنب قدر الإمكان الفرقة والهجر، والمقاطعة والشحناء، ولتكن قاعدة" نتعاون فيما اتفقنا عليه وينصح بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه" حاضرة في أذهاننا دوماً، بخلاف ما هو منتشر عند البعض من قولهم" ونعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه" فهذا خطأ وبعيد عن أداء النصيحة واستمرارية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- من عُرِفَ بصلاحه واشتهر بعلمه وصدقه وتقواه، ثم أخطأ أو خالف بجزئية أو أمرٍ ما، أو صدرت منه زلة، فلا يجوز إظهار المثالب وإخفاء المناقب، من غير عصمة أو موالاة مطلقة ومحاباة، ولا جفاء أو تشهير وقطيعة وتنقص.
4- قبل الحكم على الشخص؛ لابد من التحري والدقة والتثبت، ثم معرفة مراد القائل وأحواله ومدلولات الألفاظ، وتصور ذلك؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وعدم الاستعجال وإطالة سلسلة الرجال، وضرورة التأني والتريث، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه من المكانة، يقول ابن حجر: إن الذي يتصدى لضبط الأفعال والأقوال والرجال يلزمه التحري في النقل فلا يجزم إلا بما يتحققه لا يكتفي بالقول الشائع.
5- على المسلم أن يحفظ لسانه ويصونه من انتقاص أعراض المسلمين، سيما العلماء والدعاة وطلاب العلم-، ويبتعد عن تصنيف الناس وتبديعهم وتجريحهم، وأن يقدم حسن الظن على سوء الظن، واليقين على التأويلات والأهواء والشكوك، فنحن دعاة ولسنا قضاة.
6- الناس يقيَّمون بعلمهم وأفعالهم وسمتهم، لا بمجرد أنسابهم وأسمائهم وهيئاتهم.
7- إياك والتعصب لشخص أو اسم أو فئة، أو تجمع أو حزب أو مؤسسة، وخذ الحق حيثما كان، واترك الباطل والمخالفة أيا كان صاحبها وقائلها، فهذا قمة الإنصاف والتجرد.
8- لا يعني التواصل مع بعض المؤسسات والشخصيات، والتعاون المشترك في بعض الأنشطة، الإقرار بما هم عليه من أخطاء ومخالفات، مع ضرورة النصح بالحكمة والموعظة الحسنة وعدم القطيعة.
9- اهتمام المسلم الآن بالأولويات مع تزاحم الفتن وتكاثر الشرور مهم جدا، واستحضار قاعدة "خير الخيرين وشر الشرين" باستمرار.
10- الانشغال بالعلم النافع والعمل الصالح، وتهذيب النفوس وتزكيتها، والدعوة إلى الله على بصيرة، والاهتمام بأحوال وجراحات المسلمين، والعمل الدؤوب لدفع كيد الكائدين؛ كل ذلك يقينا ويحجزنا عن الوقوع بآفة التسرع بإصدار الأحكام والمغالاة بالتجريح والمبالغة بالانتقاص من الآخرين، فنفسك إن تشغلها بطاعة شغلتك بمعصية.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، ويهدينا سواء السبيل.
أيمن الشعبان