آلامُ لذيذة
الزَّمَان فتح لها أبوابَ الآلام والأحزان، وحمَّلَها حملاً لا يستطيع جبلٌ تحمله، الأيام استنزفت منها أنهارًا من الدموع، وأتعبت روحَها بلا رحمة أو شفقة، الأوجاعُ كسرت أجنحتَها، وأخذتها من بداياتِ الغسق إلى نهايات الشَّفق، القرية برجالِها ونسائها تخلَّت عنها، وحوَّلت حياتَها إلى قصصٍ وروايات تُتلى في الصباح والمساء، خلف الأبواب المغلقة، وفي الحقول والأزِقَّة.
الزَّمَان فتح لها أبوابَ الآلام والأحزان، وحمَّلَها حملاً لا يستطيع جبلٌ تحمله، الأيام استنزفت منها أنهارًا من الدموع، وأتعبت روحَها بلا رحمة أو شفقة، الأوجاعُ كسرت أجنحتَها، وأخذتها من بداياتِ الغسق إلى نهايات الشَّفق، القرية برجالِها ونسائها تخلَّت عنها، وحوَّلت حياتَها إلى قصصٍ وروايات تُتلى في الصباح والمساء، خلف الأبواب المغلقة، وفي الحقول والأزِقَّة.
امتدت أمامها صحاري اليأس، وسهولُ البؤس، ووديان الفَاقَة، فدخلت منتجعَ النَّفسِ المليئة بالتوهان، أكلها الخوفُ على أطفالِها الثلاثة ضلعًا بلا ضلع، فجمعت البقايا، جرجرتْ أطفالَها وراءها، ورحلت في صباحٍ كئيب عبر دروبٍ تمنّت أن تؤدي إلى شيءٍ من الراحةِ والفرح.
وصَلَتْ المدينةَ الكبيرة، بحثت عن مكانٍ يأويها، ويُعلن أنَّ الخلاصَ قادم، لكنَّ أملَها خاب، ووجدت المدينةَ تشبهها تمامًا، كئيبة ومسكونة بالوحوشِ الكثيرة.
في الشوارع والأزقة قرأت اليباس في أوردتها، حملت الوجع، والشوقَ لزوجِها الذي مات وتركها بلا أهل، وبلا ثمة فسحة للشَّمس، ثم بلسم للأوجاع، ثمة ضمادات للجروحاتِ التي تتناوش روحَها ليلَ نهار.
ويا له من نهار، ويا له من ليل، ويا له من عمر يتسرَّبُ مثل رمل ناعم بين الأصابع! بعد ثلاثة أيام، وهروب كثيرٍ من الوحوش البشرية، جاءها صوتُ صاحبةِ القصر قاسيًا:
- أنتِ يا قذرة، لماذا لم تنظفي غرفةَ النوم جيدًا؟
مسحتْ بقايا آثارِ الصابون عن يدِها ولم تُجب.
- أنتِ يا... ما بكِ واقفة وقوفَ الميت بين الأحياء؟ تحرَّكي ونظفي الغرفة جيدًا.
كان الألمُ يأكل خاصرتَها كوحشٍ كاسر هدَّه الجوع، ضغطت على خاصرتِها اليمنى بكلتا يديها، فندت عنها آهة من بينِ الضلوع، اغرورقت عيناها بدموعٍ كثيرة فمسحتها بطرفِ كمِّها المبلّل، وغابت عبر تداعياتٍ مؤلمة، تحاملت على نفسِها وتجاهلت الألم الذي تعسْكَرَ في بطنِها وخاصرتها، وراحت تنظف الغرفةَ من جديد، وكل همها أن تعودَ إلى أطفالِها الجياع، بعد أن تحمِلَ لهم بعضَ الفضلات من طعام السيد والسيدة حرمه.
أيامٌ تمرُّ من الأوجاعِ وصروف التهاوي، وهي تتلوى بين أحضانِ الألم والحرمان والتعب، وكل من حولها لا ينتبه أو يلتفت إليها، ولا يعرفُ ما هو الألم، ولا كيف تكون آلام الزائدةِ الدودية، في كلِّ مرة كانت تئنُّ كثيرًا وتجلس قليلاً، تعصر خاصرتَها بيدها، تسند رأسَها إلى الجدار فلا يذهبُ الألم، وكأنه صديقٌ حميم ولا يود مفارقتها، وحين لم تستطع تحملَ غلاظة آلامها، راحت تجرجرُ ساقيها الراجفتين في وَهَن، تهالكت فوقَ البلاطِ لتريحَ جسدها المكدود، ثم أطلقت العنان لعذاباتها، بينما السيدة تنظرُ إليها بحقدٍ، وتطلبُ منها بعصبية أن تنهضَ وتتابع عملها.
نهضت بصعوبة، وأمام زَعْقِ السيدة؛ اشتعل الغيظُ في صدرِها، وفجأة لاحت لها فكرة راقت لها؛ "لماذا لا آخذُ قسمًا من مصاغِها وأهرب؟ فأنا بحاجةٍ إلى عملية جراحية فورًا"، بسرعة أجالت بنظراتِها في أرجاء البيت وراحت تزمّ ما بين حاجبيها كأنَّها تعصرُ الألَمَ من أعصابها.
السيدة مشغولة مع ضيفتِها وتحدثها بخيلاء وتكبُّر عن رحلتِها الأخيرة إلى باريس، وغرفتها خالية وبابها مفتوح، وهذه فرصةٌ لا تُعوُض بالنسبة لها، انسلّت بهدوء إلى داخل الغرفة، اقتربت من الخزانة، فتحتها بأيدٍ مرتجفة، في تلك اللحظةِ اقتحمها سؤالٌ وحيد: "هل ستذهبين إلى الطبيبِ بمالٍ حرام يا حليمة؟"، اشتعل الغيظُ في صدرِها مرةً أخرى، وأخذت تتذكرُ معاملة السيدة القاسية لها؛ تلك المعاملة التي لا تليقُ بالبشر؛ "لا ليس عيبًا؛ لأنها لا تعطيني من نصف ما أتعب، ثم هي معها نقودٌ كثيرة، وأنا أتمزَّقُ من شدةِ الألم، ومن الممكن أن تنفجرَ الزائدة في بطني في أية لحظة، وعندها ستكون النهاية وخيمة".
تملكتها شجاعةٌ قوية وهي تفتح العلبةَ الحمراء التي تحوي الذَّهبَ والألماس، منذ شهور وهي خائفة؛ من الزمن، الجوع، البرد، المرض، من كلِّ شيء، والآن جاء الوقتُ لتتخلصَ من كلِّ هذا، التقطت قطعًا ذهبية متنوعة وغيبتها في صدرِها، ثم تسلّلت كالطيفِ وعادت لتتابع عملها، شعرت بارتجافِ أطرافها؛ "لماذا أرتجف؟ هل أدركني الخوف؟ يا إلهي، ماذا أفعل لو كشف أمري، حينئذٍ سيودعونني السجنَ لا محالة، ويتشرَّدُ أطفالي في الشوارع"، غرقت في بحيرةِ الحيرة، لكنها سرعان ما خرجت منها وهي أكثر إصرارًا: "لا، لا، لن يكشفَ الأمر قبل خروجي من هنا، وبعدها ليكن ما يكون، لو بحثوا عني في كلِّ مكان، فلن يجدوا لي أثرًا قبل إجراءِ العملية، وأنتهي من هذه الآلام".
- حليمة، جهزي طعامَ الغداء؛ فسيدكِ سيأتي بعد قليل.
صوت السيدة قطَّعَ أفكارَها المضطربة، ردّت بالإيجابِ ودخلت المطبخ، هيأت الطَّعام، سافرتْ بنظراتها نحو البعيد، فتفجَّرَ في نفسها إحساسٌ ما؛ "أستغفر اللهَ وأتوب إليه، لعنة الله على الشَّيطان، كيف فكّرتُ بهذا؟ صحيح أنني فقيرة ومريضة وبحاجةٍ إلى عملية، ولكن أبدًا لن أطعمَ أطفالي طعامًا مسروقًا، ولن أذهب للطبيبِ بمال مسروق مهما حصل".
غرقت في خضم عميق مشوب بالنَّدم، رفعت يديها إلى السَّماءِ وراحت تطلبُ المغفرة بقلبٍ كسير، ثم سارت بهدوء باتجاه الغرفة، وبعد لحظاتٍ خرجت مرفوعة الرأس وهي تهتفُ بلا صوت: "لا يهم أن أخسرَ حياتي، المهم أن أبقى محتفظة بكرامتي، أَمَّا أطفالي؛ فلهم إلهٌ يتكلون عليه".
بعدها بلحظات، بدت وكأنها تعيشُ أجمل أيامِها، وأخذت تُكمِل مراسمَ عملها باندفاعٍ وحيوية، ولم تبالِ بآلامها وكأنها آلام لذيذة.
بسام الطعان
- التصنيف:
- المصدر: