القدس والأقصى في تراث أبي العباس

منذ 2014-01-31

دلّت الدلائل على أن ملك النبوة بالشام، والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس، فأول الأمة خير من آخرها، وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام، كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

 

"والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمتُ فيهم ناصبياً، ولو تنقّص أحدٌ عليّاً رضي الله عنه لقام المسلمون عليه".

هكذا رفع أبو العباس ابن تيمية صوته بهذه الكلمات أمام الوزير المغولي بولاي، لما اتهم أهل دمشق بأنهم نواصب يبغضون علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ولا غرابة أن يحبّ ابن تيمية دمشق، فقد نشأ وقضى معظم عمره في أرجائها، وتتلمذ على مشايخها، ودرّس وناظر وأفتى في مدارسها ومساجدها، ثم إن دمشق وسائر الشام هي الأرض المباركة ديناً ودنيا، وفيها الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، ومنافقوها لا يغلبون مؤمنيها.. كما بسطه ابن تيمية في غير موضع.

وإن عالماً يوصف بكأن العلوم بين عينيه، لا عجب أن يحتفي بالقدس والأقصى، فأبو العباس دخل مدينة غزة، وعمل في جامعها مجلساً عظيماً في التعليم والإفتاء، وذلك سنة 705 هـ.

لقد تحدث ابن تيمية عن منزلة بيت المقدس وفضائل المسجد الأقصى في مواطن متعددة، ومن ذلك قوله: "دلّت الدلائل على أن ملك النبوة بالشام، والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس، فأول الأمة خير من آخرها، وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام، كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى".

وقرر مشروعية شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى، وفضّل الصلاة فيه، فقال: "ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا.

واتفق علماء المسلمين على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه، كالصلاة، والدعاء، والذكر، وقراءة القرآن، والاعتكاف، وقد روي من حديث أخرجه الحاكم في صحيحه، أن سليمان عليه السلام سأل ربّه ثلاثاً: ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وسأله حكماً يوافق حكمه، وسأله أن لا يؤم أحد هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غفر له. ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي إليه، فيصلي فيه، ولا يشرب فيه ماء؛ لتصيبه دعوة سليمان".

- وبيّن رحمه الله حدّ المسجد الأقصى والمراد به، فقال: "المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام، وقد صار بعض الناس يسمّي الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدمه..».

والحاصل أن المسجد الأقصى اسم للمسجد كله، ولا يقتصر على المصلى الذي بناه الفاروق رضي الله عنه.

- ومن المنهجية المعتادة لأبي العباس أنه إذا قرر المشروع المسنون؛ حذّر من المبتدع الممنوع، فقد تنوّعت تحذيرات أبي العباس بشأن البدع الواقعة في المسجد الأقصى وما حوله.

فقرر أنه ليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، كما أن ليس ببيت المقدس مكان يسمى (حرماً)، فلا يقال عن الأقصى إنه حرم، فضلاً عن المسجد الإبراهيمي أو الخليل، فالحرم لا يطلق إلا على حرم مكة اتفاقاً، وحرم المدينة النبوية عند الجمهور.

وحذّر من البدع التي تقارف هناك، فقال: "والمسجد الأقصى فليس فيه ما يُطاف به، ولا يتمسح به.. فلا يجوز لأحد أن يطوف بصخرة بيت المقدس.. ومن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يُصلى إليها فهو كافر مرتد".

كما نهى أبو العباس عن شدّ الرحال إلى زيارة قبر الخليل - إن صح وجوده -، فقال: "وأما السفر إلى مجرد زيارة قبر الخليل أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين".

وجزم بأنه لم يكن أحد من الصحابة يقصد زيارة قبر الخليل، وحكى اتفاق الأئمة على أن العبد لو نذر السفر إلى زيارة قبر الخليل لم يجب عليه الوفاء بنذره.

- عُني أبو العباس بقاعدة سدّ الذرائع - كما جاءت هذه القاعدة مقررةً بعشرات الأدلة - ومن ذلك: ما بيّنه وحرره من أن قبر الخليل إبراهيم عليه السلام كان عليه السور السليماني الذي بناه سليمان عليه السلام، فلا يصل أحد إليه، وإنما نقب البناء بعد زمان طويل، وبعد انقراض القرون الثلاثة، وأن الذي نقبه النصارى.

فسليمان عليه السلام حقق من قبل قاعدة سدّ الذرائع، فلم يكن قبر الخليل ظاهراً، لأن سليمان عليه السلام بنى عليه حجرة فكان مسدوداً، وليس عليه علامة يعرف بها، ثم إن النصارى الضالين سعوا لفتح ذرائع الشرك، فنقبوا هذا السور، وصدق الله تعالى القائل: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء}، ثم إنهم يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم.

- كشف أبو العباس عن ملابسات تعظيم الصخرة، وبيّن حكم الله فيها، وأن الصخرة لا مزية لها، فلم يصلِّ عندها عمر رضي الله عنه، ولا الصحابة، ولا كان عليها قبة في عهد الخلفاء الراشدين، بل كانت مكشوفة.. ولما تولى عبد الملك بن مروان الشام، ووقع بينه وبين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما الفتنة، وكان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير؛ عظّم عبد الملك شأن الصخرة، بما بناه عليها من القبة، وجعل عليها من الكسوة، ليكثر قصد الناس لبيت المقدس، حتى قال ابن كثير: "بحيث إن الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس، وافتتن الناس بذلك افتناناً عظيماً".

قال أبو العباس - عن صنيع عبد الملك في تفخيم أمر الصخرة -: "والناس على دين الملك، وظهر في ذلك الوقت تعظيم الصخرة ما لم يكن المسلمون يعرفونه.. وجاء بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها".

ولما قال عبد الملك بن مروان عن صخرة بيت المقدس: هذه صخرة الرحمن التي وضع عليها رجله، قال عروة بن الزبير: سبحان الله! يقول الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}، إنما هذا جبل قد أخبرنا الله أنه ينسف نسفاً، وهكذا ألاعيب السياسة وشهوات الرياسة جلبت ما لم يشرّعه الله تعالى من مسائل فاسدة ودلائل مكذوبة.

- وأشنع مما سبق ذكره: أن تجعل مزارات الكفار قربة وطاعة، فهذا ردّة وخروج عن الملة.

قال أبو العباس: "من زار مكاناً من هذه الأمكنة (يعني: القُمامة أو بيت لحم، أو كنائس النصارى)، معتقداً أن زيارته مستحبة، والعبادة فيه أفضل من العبادة في بيته؛ فهو ضال خارج عن شريعة الإسلام".

وقال في موطن آخر: "إذا زار أهل الذمة كنيسة بيت المقدس، فهل يقال لهم يا حاج مثلاً؟ لا ينبغي أن يقال ذلك تشبهاً بحاج البيت الحرام، ومن اعتقد أن زيارتها قربة فقد كفر".

فهذه المزارات الوثنية حقها الإهانة.. كما قعّده أبو العباس بقوله: "كل ما عُظِّم بالباطل من مكان، أو زمان، أو شجر، أو بِنية؛ يجب قصد إهانته، كما تهان الأوثان المعبودة".

- بقيت في هذه المقالة مسألتان:

أولاهما:

 

ألمح أبو العباس إلى أن بظهور قبر الخليل - وكان من قبل مسدوداً بالسور السليماني - استطال الكفار والمنافقون.

وهذا ملحظ عميق، وفهم دقيق للنصوص الشرعية والوقائع التاريخية، فأبو العباس يشير إلى أن ثمة تلازماً بين ظهور البدع وظهور الكفر والنفاق، فإذا ظهرت البدع ظهر الكفار والنفاق، وكذا العكس.

ومن ذلك أنه لما ظهرت المشاهد والبناء على القبور في دولة بني بويه (الشيعية)، ظهر القرامطة في أرض المشرق والمغرب، واستولى النصارى على ثغور المسلمين. فإن الانشغال بالمزارات البدعية يوقع في ترك الجهاد، فيتسلط الكفار.

أخراهما:


 

مع فضل بيت المقدس، وفضل المسجد الأقصى؛ إلا أن الرباط والجهاد في سبيل الله أفضل من المجاورة والعبادة في المساجد الثلاثة، وهذه مسألة ظاهرة جلية، فلا مجال للموازنة والمفاضلة ها هنا.

قال أبو العباس: "المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، كما نصّ على ذلك أئمة الإسلام عامة، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: لأن أرابط في سبيل الله أحب إليّ من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود، وذلك أن الرباط من جنس الجهاد، وجنس الجهاد مقدم على الحج".

وقال أيضاً: "المرابطة في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة، وليست هذه المسألة من المشكلات عند من يعرف دين الإسلام، لكن لكثرة البدع في العبادات، وفساد النيات في الأعمال الشرعيات، صار يخفى مثل هذه المسألة على كثير من الناس".

فعلامَ العبرات تفيض والدموع تنهال لأجل الحنين والشوق إلى صلاة في المسجد الأقصى، ثم تنقبض الأيدي ويغلب الشح لأجل البذل والإنفاق في سبيل الله في ثغور غزة وسائر الشام؟!

أعاذنا الله من جبن خالع، وشحّ هالع، فإنه سبحانه هو القادر.

 

المصدر: مجلة البيان
  • 1
  • 0
  • 5,058

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً