القدس

منذ 2007-03-09

من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

الإسراء من البيت الحرام إلى بيت المقدس:

    لا شك أن حادثة الإسراء والمعراج هي المحور الأساسي الذي ترتكز عليه الكثير من الحقائق والدلائل التي نستند إليها في هذا الباب، ولأن حادثة الإسراء والمعراج كانت كرامة عظيمة لنبينا صلى الله عليه وسلم فإن كل من شارك فيها أو اتصل بها ناله من تلك الكرامة والتكريم من الله تبارك وتعالى وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أسري به في تلك الليلة ويتبعه في تلك الكرامة أمته من بعده بوصفها أمة الإسراء، وقد نال من هذه الكرامة البيت الحرام الذي أسري منه بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى الذي أسري إليه بنبينا صلى الله عليه وسلم ومع هؤلاء أيضا جبريل عليه السلام المرافق لنبينا صلى الله عليه وسلم في رحلته وكذلك البراق الذي نقل النبي صلى الله عليه وسلم من مكة لبيت المقدس ذهاباً وإياباً في تلك الرحلة..

أما الحِكَم البالغة التي احتوت عليها تلك الحادثة فلن يتسع المقام لذكرها هنا لكثرتها ونورد بعضا منها، فقد قال السيوطي: "تكلم الناس في الحكمة من الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس قبل المعراج، فقيل: ليجمع تلك الليلة بين القبلتين، وقيل لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله، فحصل له الرحيل إليه في الجملة، ليجمع بيت أشتات الفضائل، وقيل لأنه محل الحشر، وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية، فكان المعراج من القدس أليق، وقيل لإرادة إظهار الحق على من عاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد معاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح، فلما ذكر عليه السلام أنه أسري به إلى بيت المقدس، سألوه عن جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها، وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذ صحّ خبره في ذلك، لزم تصديقه في بقية ما ذكره".

وقال محي الدين مستو: "في بدء رحلة الإسراء من المسجد الحرام بمكة المكرمة وانتهائها بالأرض المباركة في المسجد الأقصى، ما يدل على قداسة هذين المسجدين وما يحيط بهما من أرض شهدت مبعث النبوات والرسالات، ولهذا كان أحدهما القبلة الأولى التي لا تنسى للمسلمين، وكان الآخر القبلة الدائمة التي يتوجهون إليها كل يوم، ويحج إليها كل عام، ونلحظ من جهة أخرى أن هذه الرحلة اتخذت نفس المسار الذي كان يسلكه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام في تردده بين مكة والأرض المباركة حين أسكن هاجر وابنها إسماعيل في مكة، وأسكن سارة وابنها إسحاق في فلسطين، وذلك كله يحمّل المسلمين في كل مكان عبء الدفاع عن هذه البلاد المقدسة، والإبقاء عليها في حوزتهم، تتردد بين جنباتها كلمة الله، وتخفق في ساحاتها راية التوحيد".

إن حادثة الإسراء والمعراج هي أعظم معجزة في تاريخ البشرية على الإطلاق إذ لم يتسن لأي نبي مرسل أو ملك مقرب أن يصل إلى المكانة التي وصل إليها نبينا صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة بخرق الناموس له ولقائه بالملائكة والأنبياء ورؤيته من الآيات العظام ورؤيته للجنة والنار ووصوله إلى درجة وقف عندها جبريل وصعد هو درجة أخرى أقرب إلى عرش ربه وأدنى..

ومن هنا كان كل شيء متصل بتلك الرحلة كريم وذو شأن عظيم وهو ما نخص منه المسجدين المباركين الذين جمعتهما هذه الرحلة المباركة وربطت بينهما برباط وثيق لم تحظ به أي بقاع أخرى على وجه الأرض، وهو ما سنعرض لبعض تفاصيله في النقاط القادمة.

- صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إماما فيهما:

إنّ من كرامة نبينا صلوات الله وسلامه عليه أن أي شيء يتصل به ويتعلق، من جماد أو إنسان، يرتفع قدره ويعلو شأنه فلصحابته منزلة لا يصل إليها أحد من أمته بقوله صلى الله عليه وسلم: « خير الناس قرني...» ولأمهات المؤمنين منـزلة علية رفيعة لا ينافسهنّ فيها أحد بقول الله تعالى: { يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } [الأحزاب:32]. وكذلك الأماكن التي مرّ بها لها مكانة خاصة متميزة عن غيرها من الأماكن، وتزداد تلك المكانة إن شهدت تلك الأماكن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فيها لأنه خير من صلّى وصام وذكر الله وعبده، فمقام العبودية لله لا يضاهيه مقام آخر ولذلك اختاره الله في وصفه لنبيه في مواضيع عديدة في القرآن الكريم فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الإسراء:1] وقال: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [الجن:19]. وغيرها من الآيات وعليه فالموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ينال مرتبة أعلى من ذلك الذي مرّ به مرورا عابرا فكيف إذا صلّى فيه إمام؟ وكيف إذا كان إماما لصفوة الخلق؟!.

إن البيت الحرام شهد صلاة النبي إماما بالمسلمين فنال شرفا على شرف، وهو بذلك اشترك مع المسجد الأقصى بهذه الميزة وإن كان الأخير قد حاز على ميزة أكبر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم إماما بالنبيين والمرسلين، فحاز المسجد الأقصى بذلك على شرف الإمام وشرف المؤتمين خلفه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقد وردت أحاديث عديدة عن هذه الصلاة منها:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي إلى بيت المقدس » وفيه: « وحانت الصلاة فأممتهم ».

ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: "ليلة أسري بنبي الله صلى الله عليه وسلم ودخل الجنة..." إلى أن قال "... فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام فصلى، فالتفت ثم التفت فإذا النبيون أجمعون يصلون معه".

أما ابن كثير فقد قال ضمن تفسيره لآية { إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } : "هو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا جمعوا له هناك صلى الله عليه وسلم كلهم، فأمّهم في محلتهم ودارهم فدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم هو الإمام المعظم والرئيس المقدم".

وقد علق صاحب كتاب (قبل أن يهدم الأقصى) على ذلك بالقول: "كانت صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في ليلة الإسراء إقرارا مبينا بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى البشر، أخذت تماما على يد محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن وطأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين، وكان في الإسراء دلالة على أن آخر صبغة للمسجد الأقصى - وهو المعبد العريق في القدم- هي الصبغة الإسلامية، فاستقر نسب المسجد الأقصى إلى الالتصاق بالأمّة التي أمّ رسولها سائر الأنبياء، ولا شك أن في اقتران الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا بالمسجد الأقصى دليلا باهرا على مدى ما لهذا البيت من مكانة وقدسية عند الله تعالى ودليل كذلك على صحة القول بأن المسجد الأقصى فوق مركز الدنيا وأنه المصعد من الأرض إلى السماء".

وعن صلاته إماما بالمسجد الأقصى ودلالاتها يورد د. صلاح الخالدي بعض الأمور المهمة التي تظهر مكانة الأقصى كونه منصة التكريم التي تمّ عليها تكريم نبينا صلى الله عليه وسلم وتعريفه بقدره الرفيع... فيقول: "جمع الله الأنبياء والرسل السابقين لمحمد صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، في المسجد الأقصى، ومنهم أنبياء ورسل بني إسرائيل، فأمّهم في الصلاة أي صلّى بهم إماما، وصلّوا هم خلفه مأمومين !!".

وجمعهم هذا جمع غيبي، لا نعرف كيف جرى، وهو غير خاضع للقوانين والأسباب المادية، لأن الرسل غادروا هذه الحياة الدنيا، والتحقوا بالرفيق الأعلى، فهم في حساب البشر أموات، ولكنهم عند الله أحياء، حياة خاصة غيبية، كما أراد الله سبحانه، ثم إن صلاتهم في المسجد الأقصى مأمومين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقدم لنا بعض الدلالات:

منها: اعتراف هؤلاء الرسل بفضل ومنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته عند الله، وتسليم بأنه أفضل الخلق أجمعين، وإمام الأنبياء والمرسلين في السير إلى طريق الله وفي القرب من الله.

ومنها: اعتراف هؤلاء الأنبياء والمرسلين بختم النبوة والرسالة بنبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا وحي بعده، ولا نبي يأتي بعده، ولا رسالة بعد رسالته، وهو اعتراف منهم أيضا بنسخ رسالتهم، ونسخ كتبهم بكتابه، فلا عمل بالتوراة أو الزبور أو الإنجيل بعد إنزال الله للقرآن.

ومنها: دعوة هؤلاء الأنبياء والمرسلين - بخاصة أنبياء بني إسرائيل - لأقوامهم وأتباعهم بالدخول في الإسلام، والإيمان بالقرآن، وإتباع محمد صلى الله عليه وسلم والتخلي عمّا كانوا عليه من اليهودية أو النصرانية، إن أرادوا القبول عند الله ودخول الجنة، فإن لم يستجيبوا له، ولم يدخلوا في دينه، فهم كفار ضالون مخلدون في النار، وإن أدعوا أنهم على طريق إبراهيم أو موسى أو عيسى عليهم الصلاة والسلام.

ومنها: تسليم هؤلاء الأنبياء والمرسلين "مفاتيح" الأرض المقدسة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فمعظم هؤلاء عاشوا على الأرض المقدسة، وكان هو المسؤول عنها، الراعي لها، الخليفة عليها، وأنوار رسالته ونبوته انتشرت عليها، وبقيت حلقات النبوة والرسالة والخلافة على الأرض المقدسة، إلى أن ختمت هذه الحلقات بنبوة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الدائمة إلى قيام الساعة، في ليلة الإسراء جاء الأنبياء وسلّموا محمد صلى الله عليه وسلم المسؤولية والخلافة والأمانة والعهد، وأوكلوا له - ولأمّته من بعده - مهمة الأرض المقدسة، ورعايتها وحمايتها والخلافة عن الله فيها، واستمرار الإيمان عليها، حتى قيام الساعة، وجعل الصلاة ميدانا ومجالا لهذا الانتقال، جوا مناسبا للتسلم والتسليم، حيث محمد صلى الله عليه وسلم هو الإمام والأنبياء خلفه مأمومون مسلمون له، يعطي دلالة واضحة على أهمية الصلاة والعبادة ووجوب تعمقه في أمة الإمامة والخلافة، التي تناط بها مسؤولية الإشراف على الأرض المقدسة.

ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول فاتح للأرض المقدسة ليلة الإسراء، وهذا منه عهد لأمّته من بعده، بأن تفتح هذه الأرض المقدسة عمليا، بعد أن فتحها هو نظريا، وتسلم مفاتيحها من إخوانه الأنبياء، وهذه بشرى لأمّته منه، بأنها ستفتح هذه الأرض المقدسة، وتنشر فيها الإسلام، وتحقق فيها الخلافة الربانية الراشدة، ولقد حققت هذه الأمة هذا الأمر بعد محمد صلى الله عليه وسلم وفهمت منه هذا الإيحاء، وأخذت عنه هذه الإشارة".

ولله در القائل:

إن كنت تسأل أين قـدر محمد بين الأنام

فأصْبِحْ إلى آياتـه تظفر برِيك في الأوام

أكرم بعبد سلمت تقديمــه الرسل الكرام

في حضرة للقدس وافاها بعــز واحترام

صفوا وصلوا خلفه إن الجماعـة بالإمام

للشهب نور بين والفضل للقمـــر التمام

سلك النبوة باهر وبأحمــــد ختم النظام

 

- جمعتهما آية واحدة:

الصلة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى لم تقف عند حادثة الإسراء وإنما خلدها الله تعالى بتخليد هذه الحادثة في السورة التي توسطت القرآن الكريم وحملت اسم "الإسراء" لتبقى هذه الصلة ماثلة أمام كل من يدخل في دين الله ويقرأ كتاب الله الخالد، وليكون المسجد الأقصى جزءا من كتاب الله من فرط فيه وخذله خسر وذل وخاب.

إنها السورة التي تصدرتها { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الإسراء:1].

فجمعت هذه الآية بين المسجدين معا لا يفصل بينهما إلاّ حرف الجر "إلى" تخليدا لهذه الصلة المميزة بينهما مع ما في ذلك من ثناء من الله عليهما.

وإذا كانت سورة الإسراء قد جمعت بين البيت الحرام والمسجد الأقصى فقد جمعتهما سورة أخرى أيضا هي سورة التين بقوله تعالى: { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ . وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } [التين:1-3]. فقد قال ابن عباس في تفسيرها: "التين بلاد الشام والزيتون بلاد فلسطين وطور سينين الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام،والبلد الأمين مكة".

وقال عكرمة: التين: مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس، قال قتادة: الجبل الذي عليه دمشق والجبل الذي عليه بيت المقدس لأنهما ينبتان التين والزيتون، وقال الضحاك: هما مسجدان بالشام، قال ابن زيد: التين مسجد دمشق والزيتون: بيت المقدس، وقال محمد بن كعب: التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء.

وقال البيضاوي: قيل المراد بها جبلان من الأرض المقدسة، أو مسجد دمشق وبيت المقدس أو البلدان بلاد الشام وبلاد فلسطين.

وإضافة إلى اجتماع مكة وبيت المقدس معا في هذه السورة، فإن مجيئهما بصيغة القسم يدل على مكانتهما الكبيرة عند الله تعالى ورفعة قدرهما إذ أن الله تعالى لا يقسم إلاّ بعظيم في آياته.

  • 2
  • 0
  • 22,390
  • وسيلة

      منذ
    [[أعجبني:]] أرى أن صاحب هذه المقالة يستحق التقدير و الشكر
  • حسان صبح

      منذ
    [[أعجبني:]] الشوق للأقصى ولقبلة المسلمين الأولى ما أجمل هذا المسجد وما أجمل من صلى به

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً