رحيل (زيدان)؛ خسارة للعراق والأمة الإسلامية
لقد رحل أول أمس واحد من أؤلئك العلماء الأفذاذ، بعد سبعة عقود من التدريس في مختلف الجامعات، والتأليف لعشرات الكتب والبحوث والدراسات في المجال الفقهي، إنه العلامة الدكتور عبد الكريم زيدان بهيج العاني، علَّامة العصر وفقيه العراق المتميز، وأبرز منظِّري الفقه الإسلامي في العصر الحديث، والمراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في العراق.
إذا كانت قيمة أمة من الأمم ومنزلتها ومكانتها تقاس بعدد العلماء والمفكرين والمبدعين فيها، لا بكثرة عدد أفرادها وشعوبها؛ فإن الأمة الإسلامية تفخر بأنها من أكثر الأمم إنجابًا للعظماء والعلماء، وتاريخها حافل بأعداد لا تُعد ولا تُحصى منهم، كيف لا وهذه الأمة هي خير أمة أُخرِجت للناس بشهادة ربِّ العباد سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110].
وإذا كان العلم مقياس الأمم في تقدُّمها وتحضُّرِها؛ فإن الإسلام كان من أكثر الأديان حَضًا لأتباعه على طلب العلم وتقدير العلماء، فأول آيات القرآن الكريم {اِقْرَأَ}، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الحض على العلم والتعلُّم كثيرة، كما أن أحاديثه عن فضل العلماء ومكانتهم في الإسلام لا تخفى، قال صلى الله عليه وسلم «... » (صحيح ابن حبان: [88]، وصحَّحه الألباني).
ولكل ما سبق؛ فإن رحيل العلماء هو بلا شك خطبٌ وحدثٌ جلل، وخسارة كبيرة للمجتمع المسلم لا تُعوَّض إلا بخلفٍ يسدُ مسدَّ هذا العالِم الراحل، كيف لا وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم ارتفاع العلم من أشراط وعلامات الساعة فقال: « » (صحيح البخاري، برقم: [80]).
ومن المعلوم أن العلم لا يُنتزع انتزاعًا وإنما يُنتزع بقبض العلماء كما جاء في الحديث الصحيح: « » (صحيح مسلم، برقم: [6974]).
لقد رحل أول أمس واحد من أؤلئك العلماء الأفذاذ، بعد سبعة عقود من التدريس في مختلف الجامعات، والتأليف لعشرات الكتب والبحوث والدراسات في المجال الفقهي، إنه العلامة الدكتور عبد الكريم زيدان بهيج العاني، علَّامة العصر وفقيه العراق المتميز، وأبرز منظِّري الفقه الإسلامي في العصر الحديث، والمراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في العراق.
وُلِدَ الدكتور عبد الكريم زيدان في بغداد عام 1921م على ما حققه الدكتور حسين الدليمي الذي حصل على شهادة الدكتوراه في دراسته عن الدكتور عبد الكريم زيدان ومناهجه في الدعوة، بينما ذكرت كثير من المصادر الأخرى أن مولده كان عام 1917م، ونشأ يتيمًا حيث توفي والده وهو في الثالثة من عمره.
وفيما يخص نشأته ومسيرته العلمية منذ الابتدائية وحتى الدكتوراه والعالمية؛ نقل الدكتور أكرم عبد الرزاق المشهداني كلامًا للشيخ عن هذه الفترة إذ يتحدَّث عن نفسه قائلًا: "نشأتُ في بغداد وتعلَّمتُ قراءة القران الكريم في مكاتب تعليم القران الأهلية، وأكملتُ دراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية في بغداد، وتخرَّجتُ من كلية الحقوق في بغداد أيضًا، ثم التحقتُ بمعهد الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بالقاهرة، وتخرجتُ بتقدير ممتاز وحصلتُ على شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة سنة 1962 بمرتبة الشرف الأولى".
وعن العلماء الذين استفاد منهم الراحل ونهل عنهم العلم والمعرفة؛ ينقل تلميذُه د. سامي الجنابي فيقول: "استفاد من بعض المشايخ والأساتذة العراقيين والمصريين، من أمثال الشيخ أمجد الزهاوي، والشيخ عبد القادر الخطيب، والشيخ نجم الدين الواعظ، والشيخ محمد محمود الصواف، والشيخ علي الخفيف، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ حسن مأمون، والشيخ علامة العراق في الحديث عبد الكريم الصاعقة".
عَمِل الراحل في جامعات بغداد في مناصب أكاديمية مختلفة، كان من أهمها عمادة كلية الشريعة الإسلامية بجامعة بغداد، ثم انتقل إلى اليمن بداية تسعينيات القرن الماضي، وعمل فيه مُحاضِرًا في جامعتي صنعاء والإيمان، بعد اضطراره لمغادرة بلده ومسقط رأسه إثر مضايقات تعرَّض لها، بسبب انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين في العراق التي أسسها الشيخ محمد محمود الصواف، وقيادته للجماعة بعد مغادرة الشيخ الصواف للعراق نهائيًا، حيث بقي الراحل تحت الإقامة شبه الجبرية في منزله مدة تزيد على عشر سنوات، رحل بعدها إلى اليمن ليستقر هناك.
أثرى الراحل المكتبة الإسلامية بشتى أنواع الكتب والبحوث والدراسات العلمية والفقهية والأصولية والدعوية والفكرية، فناهزت مؤلفاته عن الثلاثين كتابًا، لعل أشهرها: (المفصل في أحكام المرأة، والبيت المسلم [11] مجلدًا)، الذي نال عليه جائزة الملك فيصل عام 1997م، كما شارك في تحرير مواد موسوعة الفقه الإسلامي الكويتية، وله الكثير من الدراسات والبحوث من خلال مشاركته في العديد من المؤتمرات الفقهية، إضافة لكونه عضوًا في عدد من المجامع الفقهية.
كان الراحل من أزهد الناس في المنصب والشهرة والتقرُّب إلى الرؤساء والأمراء، وأبعدهم عن التكلُّف والرياء، قسَّم وقته بين تلاوة القرآن أو مطالعة ما يَكتبه تلاميذه من الرسائل، ومناقشتهم في منزله أو التأليف أو استقبال العلماء والتلاميذ أو التدريس.
كما اشتهر عن الراحل اهتمامه الشديد بمتابعة شؤون الدعوة الإسلامية في العراق، وانشغاله الدائم بأحوال المسلمين هناك ومواكبة آخر أخبارهم وشؤونهم، فلا يبخل عليهم بالمشورة والنصيحة والتوجيه والإرشاد، ومن ذلك أنه أصدر أكثر من بيان أكَّد فيه شرعية اعتصامات أهل السنة في العراق ووجوب مناصرتها، داعيًا القائمين عليها إلى وِحدة الصف ونبذ الخلافات.
ومما جاء في بعض هذه البيانات قوله:
"من سنن الله في إزالة الظلم والظالمين العمل بكل وسيلة مشروعة ودون استعجال للوصول الى المطلوب الشرعي، فالمطلب العظيم بحاجة الى جهد عظيم وصبر أعظم، وقد وعد الله تعالى الصابرين على عملهم في إزالة الظلم الوصول إلى مطالبهم قال تعالى في سورة محمد آية 7 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، والمقصود بنصرة المسلمين لله تعالى نصرة دينه والدفاع عن أحكامه وتنفيذها، ونصرة الله للمسلمين إعانتهم على بلوغ مطالبهم ومن أعظم مطالب الدين قمع الظلم والظالمي".
وكان قبل ذلك قد أعلن وقوفه إلى جانب المعتصمين في العراق، وتأييده لمطالبهم بإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات، وإزالة "المادة الرابعة" من الدستور العراقي المتعلقة "بالإرهاب"، والتي اتخذها الظلمة -حسب قوله- للتضييق والتنكيل بكل مقاوم للظلم، موصيًا المعتصمين في نهاية هذا البيان بالصبر والثبات حتى تحقيق ما أسماها المطالب الشرعية.
ومن أشهر أقوله المنثورة على صفحته الخاصة على "فيسبوك"، والتي يُديرها بعض أقربائه، وتُنشر تِباعًا بعض فتاويه وأحكامه الفقهية.
كما تُنشر أخباره ومستجدات أنشطته العلمية والفكرية قوله:
"ومما يجب أن يُعرف أنَّ نصر المؤمنين حسب سنة الله في نصرهم قد يتأخر لأن الله تعالى يريد لهم النصر الأكبر والأكمل والأعظم والأدوم والأكثر تأثيرًا في واقع الحياة وفي عموم الناس بعد أن يتهيأ في المؤمنين القاعدة اللازمة لاستحقاقهم هذا النصر الأكبر واستقبالهم له، ويدل على ذلك أن نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المؤمنين، لم يحصل هذا النصر في يوم وليلة ولا سنة واحدة، وإنما تأخر فلم يحصل إلا بعد مضي أكثر مدة نبوته صلى الله عليه وسلم".
وصل جثمان الراحل إلى بغداد مساء أمس رغم تداول بعض الأنباء عن رفض مطار بغداد استقبال جثمانه، وتم تشييعه من جامع أبي حنيفة النعمان في الأعظمية صبيحة اليوم الأربعاء، وقد شهدت جنازته آلاف المشيعيين وفي مُقدِّمتهم العلماء الأكادميين والمثقفين والكتاب والمفكرين العراقيين الذين حملوا نعش الراحل على أكتافهم.
نعى الشيخ الراحل اتحاد علماء المسلمين وقيادة ائتلاف العراق وهيئة علماء المسلمين في العراق، والكثير من الهيئات والشخصيات العلمية والفكرية والدعوية.
فرحم الله الراحل وعوَّض الأمة الإسلامية خلفًا له يَسدُّ الثغرة والثلمة التي انثلمت بموته ورحيله.
إنه سميع قريب مجيب.
عامر الهوشان
- التصنيف:
- المصدر: