اعتراض الفلاسفة والعلماء والمؤرخين على كتب النصارى
اعتراض الفلاسفة والعلماء والمؤرخين على كتب
النصارى
للسيد رشيد رضا
ان عقائد المسيحيين التي هم عليها من عهد
بعيد مأخوذة من عقائد الوثنيين ، و الكتب التي يُسمَّى مجموعها عند
اليهود والنصارى التوراة ، ليست هي التوراة التي شهد لها القرآن
الشريف ؛ وإنما توراة القرآن هي الأحكام التي جاء بها موسى عليه
السلام وتوجد فيما عدا سفر التكوين من الأسفار الخمسة المنسوبة إلى
موسى ، وفيها تاريخه وذكر وفاته ،و أنه لا سبيل إلى هروب أهل الكتاب
من اعتراض الفلاسفة والعلماء والمؤرخين على كتبهم إلا بالاتفاق مع
المسلمين على هذا الاعتقاد .
ونذكر الآن كلام بعض فلاسفة فرنسا في الطعن بالديانتين اليهودية
والنصرانية ، وكتبهما نقلاً عن كتاب ( علم الدين ) الذي ألَّفَه
الخالد الذكر علي باشا مبارك ناظر المعارف سابقًا ، قال في المسامرة
الرابعة والتسعين حكاية عن الإنكليزي الناقل كلام الفيلسوف الفرنساوي
بعد كلام ، ما نصه : ( ويقول : إن التوراة كتاب مؤلَّف وليس من الكتب
السماوية متكئاً في ذلك على قول ماري أغسطس : إنه لا يصح بقاء
الإصحاحات الثلاثة الأولى على ما هي عليه ، وعلى قول أويجين بأن ما في
التوراة مما يتعلق بخلق العالم أمور خرافية بدليل أن كلمة ( بَرَّاه )
العبرانية وهي بفتح الباء وتشديد الراء وسكون الهاء معناه رتب ونظم ،
ولا يرتب أحد شيئًا وينظمه إلا إذا كان موجودًا من قبل ، فاستعمال هذه
الكلمة في خلق العالم يقتضي أن مادة العالم كانت موجودة من قبل ،
فتكون أزلية ويكون ملازمها وهو الزمان والمكان أزليين ، وحيث إنهم
قالوا: إن المادة ذات حياة ، فتكون الروح أيضًا أزلية ؛ لأنها هي التي
بها الحياة ، وبما أن المادة هي النور والحرارة والقوة والحركة والجذب
والقوانين والتوازن ، فتكون الحياة والمادة كالشيء الواحد لا يمكن
انفصالهما وجميع ذلك يخالف ما في التوراة .
ويقول أيضًا : إن الستة الأيام التي ذكرها موسى لخلق العالم هي
الأزمان الستة التي ذكرها الهنود ، والجنبهارات الستة التي ذكرها
زروطشت للمجوس ، وأن الفردوس الذي كان فيه آدم إنما هو بستان
الهيسبرويو الذي كان يخفره التنين ، وأن آدم هو آديمو المذكور في
أزورويدام ، وأن نوحًا وأهله هو الملك دوقاليون وزوجته بيرا وهكذا
.
ويبالغ في القدح في التوراة ، ويقول : إنها مبتدأة بقتل الأخ أخاه ،
واغتصاب الفروج وتزوج ذوي الأرحام - بل البهائم - وذكر النهب والسلب
والقتل والزناء ونحو ذلك من الأمور التي لا يليق أن تنسب لمن اصطفاه
الله تعالى وجعله أمينًا على أسراره الإلهية ، فانظر إلى اجتراء هذا
الرجل على نبي الله موسى عليه السلام ، وعلى كتاب الله التوراة ، مع
أن التوراة هي أساس الإنجيل ، فما يقال فيها يقال في الإنجيل[1] ؛
ولذلك يقولون : إن رسالة عيسى قد نبَّهت عليها اليهود من قبل بقولهم
إنه سيجيء إليهم مسيح ، وكلمة مسيح ككلمة مسايس ، ومسايس لقب شريف
باللغة العبرانية ، وقد لُقِّب به إشعيا كيروس ملك الفرس كما في
الإصحاح الخامس والخمسين ، ولُقِّب به حزقيال النبي ملك مدينة صور ،
ومع ذلك فلم يلتفت هذا الرجل إلى شيء من ذلك فقال ما قال .
ومن اعتقادات النصارى أيضًا أن الله تجسد في صورة عيسى ، وأنه هو
الإله وليسوا أول قائل بهذا التجسد ، بل قيل قبلهم في جزاكا و برهمة
بقدس الهند وقيل في ويشنو أنه تجسد خمسمائة مرة ، وقال سكان البيرو من
أمريكا أن الإله الحق تجسد في إلههم أودين ، وإن ولادة عيسى من بكر
بتول فتح روح القدس يشبه قول أهل الصين أن إلههم فُوَيْه ولدته بنت
بكر حملت به من أشعة الشمس ، وكان المصريون يعتقدون أن أوزوريس ولد من
غير مباشرة أحد لأمه .
وقول النصارى : إن عيسى مات ودفن ، ثم بُعِثَ ورُفِعَ إلى السماء
حيًّا ، قال بمثله قبلهم المصريون في أوزوريس المصري ، وفي أورنيس من
أهالي فينكيه وفي أوتيس من أهالي فريجيه ، إلا أنهم لم يقولوا برفعه
إلى السماء ، وكما قيل إن أودين كان قد بذل نفسه وقتلها باختياره بأن
رمى نفسه في نار عظيمة حتى احترق ، وفعل ذلك لأجل نجاة عباده وأحزابه
، فكذلك النصارى يعتقدون أن حلول الإله في عيسى وإرساله وموته إنما
كان لأجل فداء الجنس البشري وتخليصه من ذنب الخطيئة الأولى ، خطيئة
آدم و حواء ، وأما إدريس النبي قد رفع إلى السماء بدون أن تكفر عنه
الخطيئة ، ولا شك أن هذا خرافة ، ولهم كلام كثير من هذا القبيل يطول
شرحه ، ولا فائدة في ذكره ) اهـ .
( المنار ) لهذه الشبهات بل الحجج على عقائد المسيحيين واليهود ترك
علماء أوربا الدين المسيحي ، فبعضهم صرح بتركه ، بل وبعض حكوماتهم ؛
فإن الحكومة الفرنسوية أعلنت إعلانًا رسميًّا بأنه لا دين لها ،
وطاردت رجال الدين واضطهدتهم ، ومن بقي يتظاهر بالدين من عظمائهم
فإنما هو لأجل السياسة ، ولذلك ترى الفلاسفة والعلماء الذين يعبأون
بالسياسة يصرِّحون بعدم الاعتقاد بالوحي مع اعتقادهم بأن الدين ضروري
للبشر ؛ ولكنهم لم يجدوا في الدين الذي عندهم غناء ، ودين الفطرة
محجوب عنهم ؛ فإنهم ترجموا القرآن الكريم ترجمة فاسدة لم يفهموا منها
حقيقة الإسلام ، أذكر من ترجمة إنكليزية قول المترجم لسورة العصر ( إن
الإنسان يكون بعد الظهر بثلاث ساعات رديئًا أو قبيحًا ) ولو فهم
فلاسفة أوربا هذه السورة لجزموا بأنها على اختصارها تغني عن جميع ما
يعرفون من كتب سائر الأديان ، وهو مفهوم في الجملة لمن له أدنى إلمام
باللغة العربية وهي [ وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
]( وَالعصر : 1-3 ) .
إذ يعلم أن المراد بصيغة القسم التأكيد ، ويعلم أن المراد بالإنسان
الجنس ، وأن الصالحات ما يصلح بها حال الإنسان في روحه وجسده في
أفراده ومجموعه ، وأن التواصي بالحق هو من التعاون على الأخذ به
والثبات عليه ، وأن الحق هو الشيء الثابت المتحقق ، وثبوت كل شيء
بحسبه ، وأن الصبر يشمل الصبر عن الشيء القبيح كالمعاصي والشهوات
الضارة ، والصبر في الشيء الذي يشق احتماله كالمدافعة عن الحق
والمصائب .
كان أهل روسيا وأهل أسبانيا أشد أهل أوربا تمسكًا بالمسيحية ، ثم ظهر
أخيرًا من اضطهاد الإسبانيين لرجال الدين ما طيَّر خبره البرق إلى
جميع الأقطار ، واشتغلت به الجرائد في جميع البلاد ، ولما قام
الفيلسوف تولستوي الروسي يفند تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية ، ويبين
بطلان الديانة المسيحية - انتصر له المتعلمون للعلوم والفنون حتى
تلامذة المدارس وتلميذاتها ، فهذا هو شأن الديانة المسيحية كلما ازداد
المرء علمًا ازداد عنها بعدًا ؛ وإنما كانت أوربا مسيحية أيام كانت في
ظلمات الجهل والغباوة ، وبعكسها الديانة الإسلامية هي حليفة العلوم ،
وقد كانت أمتها في عصور المدنية والعلم أشد تمسكًا بالدين ، وصارت
تبعد عن الدين كلما بعدت عن العلم .
أما الآن فإننا لا ننكر أن بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية قد
وقعوا في بعض الشبهات ، وبعضهم أنكر الدين تبعًا للأوربيين الذين أخذ
عنهم ؛ ولكن السبب في هذا أنه لم يعرف الإسلام ولم يتعلمه قبل العلم
الأوربي ولا بعده ، ولهذا نطالب علماء ديننا بأن يجتهدوا في جعل زمام
تعليم العلوم الكونية بأيديهم ؛ لأننا نثق أتم الثقة بأنه لا يمكن أن
يرجع عن الإسلام من عرفه ، وكيف يختار الظلمة من عاش في النور ، وإن
لنا لَعودة إلى الموضوع إن شاء الله تعالى .
________________________
(1) المنار - هذه الجملة وما بعدها من كلام الإنكليزي ، ولا شك أن
إبطال التوارة يستلزم إبطال الإنجيل كما قال ، ولا يمكن التخلص من ذلك
إلا بالإسلام .
المجلد الرابع الجزء الثاني عشر الصفحة 448
- التصنيف: