القرامطة في الخليج العربي (ظروف نشأتهم، تعاليمهم، أساليبهم، كيانهم)

منذ 2014-02-08

من المعلوم أن من أسماء الإسماعيلية التي اشتهرت بها "الباطنية"؛ ذلك لأنها قالت بالتأويل وبوجود علم ظاهري عام وعلم باطني خاص. وعلى هذا الأساس يكون معنى القرامطة هو الباطنية؛ لأنهم ادَّعوا أن: "لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري مجرى اللب من القشر، وأنها تُوهم الأغبياء صوراً، وتُفهم الفطناء رموزاً وإشارات إلى حقائق خفية، وأن من تقاعد عن الغوص على الخفايا والبواطن متعثر، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عن التكليف واستراح من أعبائه.

 

لا بد من الإشارة ها هنا إلى أن الحركة القرمطية من الحركات الباطنية المتطرفة التي لم تدرس في عصرنا الدراسة الموضوعية؛ التي تلتزم جانب الإسلام وتعالج هذا الموضوع بأمانة وتجرد، بعيداً عن الغرض والهوى والإسقاط التاريخي.

 

فالباحثون ذوو الاتجاه الماركسي لم يدّخِروا جهداً في كيل المديح لهذه الحركة الهدامة والثناء عليها، والدعوة إلى اتباع نهجها وفاءً لها وإيماناً بأفكارها؛ لأنها قضت في زعمهم على التميز الطبقي، وأنصفت الفقراء والعمال والفلاحين.



 

ونذكر على سبيل المثال كتاباً ألَّفه أحد الباطنين سمَّاه "الحركات السرية في الإسلام"، وخص القرامطة بفصل عنوانه (القرامطة: تجربة رائدة في الاشتراكية) (انظر: محمود إسماعيل: الحركات السرية في الإسلام، ص: [117]).



 

وقال عنهم كلاماً أكثر مما يقوله أبو سعيد الجنّابي عن نفسه.



 

وهذه جرأة لا يحمد عليها مؤلف الكتاب الدكتور محمود إسماعيل، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة عين شمس بالقاهرة.



 

وهؤلاء قد اتبعوا المستشرقين في افتراءاتهم؛ إذ يرى فان فولتن وبيكر بأن الإسلام لم يكن في أدواره الأولى ديناً بقدر ما كان علامة امتياز للأرستقراطية المنتصرة والمذهب الرسمي للدولة التي تمثله. وعلى هذا فإن الشيعة الثورية (القرامطة) كانت النتيجة الطبيعية في وسط ثيوقراطي لثورة الطبقات المظلومة؛ الفارسية والسامية على السواء (برناد لويس: أصول الإسماعيلية، ص: [149]).



 

إن الدارس للحركة القرمطية يلاحظ أنها عملية مرحلية لها أهداف معينة في تلك الفترة، وتُعَد خطوة من خطوات الدعوة الإسماعيلية التي كانت تتحرك وِفق مخطط عملي مدروس ومنظم، يقوم على خداع الجماهير باستغلال عاطفتهم نحو آل البيت، وتعتمد على التنظيم السري والعسكري، وهدفها: إحياء أمجاد فارس وإبطال حقيقة الإسلام.



 

والناظر في أوائل زعماء ودعاة القرامطة يجد أنهم من الفرس: كأبي سعيد الجنابي وهو من أهل جنابة بفارس وزكرويه بن مهرويه، وذكيرة الأصفهاني، والفرج بن عثمان، ودندان، وعبد الله بن ميمون القداح وغيرهم (النويري: نهاية الأرب، ج5، ص: [68]، [191]، [233]؛ والقاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة، ج2، ص: [386]، [594-595]؛ والمقريزي: المقفى الكبير في تراجم أهل مصر والوافدين عليها، ج3، ص: [294]).



 

أما إذا بحثنا في مضمون حركة القرامطة فسوف نجد أن هذه الحركة استفادت من ظروف البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في سواد العراق؛ حيث كان منظمها الأكبر "حمدان قرمط" قروياً عارفاً بالمساوئ التي يشكو منها أهل السواد.



 

ولا يمكن فهم روح الحركة إلا بعد معرفة:



 

أ- ما المبادئ التي بشَّرت بها؟



 

ب- ما الجماعات التي انتظمت لها؟



 

* ظروف نشأة حركة القرامطة:



 

جدير بالإشارة أن إلقاء الضوء على أحوال العصر وظروف نشأة هذه الحركة سيمكننا بلا ريب من الإجابة على السؤالين المهمين السابقين.



 

- الحالة السياسية:



 

كان للضعف الذي ألمَّ بالخلفاء العباسيين بعد موت الواثق [سنة 232هـ]، وسيطرة الأعاجم عليهم وضياع نفوذ الخلافة، الأثرُ الكبير في كثرة الانفصالات عن الدولة العباسية، واستقلال بعض الأسر المشهورة؛ كالصفاريين والسامانيين والعلويين واليعفريين والطولونيين (الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج9، ص: [306-308]، [363]، [381]؛ والنويري: نهاية الأرب، ج25، ص: [81]، [331]، [373]).



 

ولم يبقَ للعباسيين في كثير من الأقاليم سوى الدعاء لهم يوم الجمعة والعيدين ونزر يسير من الهدايا (ظاهر العمر: الخلافة العباسية في عصر الفوضى العسكرية، ص: [244-225]).



 

كما أثار الزنج وهم طائفة من عبيد إفريقية القلق والرعب في حاضرة الخلافة العباسية، وكان مسرح ثورتهم الجامحة العنيفة التي دامت أكثر من أربع عشرة سنة المستنقعاتُ الممتدة بين البصرة وواسط. وقد كلفت هذه الثورة الدولة العباسية كثيراً من الجهود والأموال والأرواح (النويري: نهاية الأرب: ج25، ص: [119]، [125]، [132]، [138]).



 

وظهر القرامطة في سواد العراق والبحرين؛ حيث أعانهم على ذلك تشاغل الخليفة العباسي بفتنة الزنج (النويري: نهاية الأرب، ج25، ص: [229]).



 

وظهر ابن حوشب في اليمن حيث نشر دعوة المهدي، وظهر أبو عبد الله الشيعي الذي نشر الدعوة الفاطمية في المغرب (النويري: نهاية الأرب؛ ج28، ص: [77]).



 

- الحالة الاجتماعية والاقتصادية:



 

أما الحالة الاجتماعية والاقتصادية فإن المجتمع العباسي في هذه الفترة كان ينقسم إلى ثلاث طبقات رئيسة:



 

أ- الطبقة العليا: وتشتمل على الخلفاء والوزراء والقادة والولاة، ومن يلحق بهم من الأمراء وكبار التجار وأصحاب الإقطاع.



 

ب- الطبقة الوسطى: وتشتمل على رجال الجيش وموظفي الدواوين والتجار والصناع (أحمد أمين: ظهر الإسلام، ج1، ص: [114]؛ وحسن أحمد محمود: العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص: [177]).



 

ج- الطبقة الدنيا: وتشمل أغلبية الناس من الزراع وأصحاب الحرف الوضيعة والخدم والرقيق (أحمد أمين: ظهر الإسلام، ج1، ص: [114]).



 

وفي خضم هذه الظواهر الاجتماعية والاقتصادية التي طبَعَها ما روي من الترف والمجون والفساد والفقر والجهل، وما صاحب ذلك من دجل وخرافة وشعوذة وسحر وطلاسم وتنجيم[1]، ظهر القرامطة واستغلوا هذه الأجواء المشحونة لإذكاء نار الفتنة بين الناس، مذكرين إياهم ما يلقونه من ظلم وعنت، وأن ساعة الخلاص من الظلم والاضطهاد قريبة، مما جعل هؤلاء إزاء هذه الحالة الاقتصادية والاجتماعية السيئة على أتم استعداد للخروج على ولاة أمورهم.



 

وكذلك انتشرت هذه الدعوة بين أهل الحرف وعوام المدن الذين كان مستوى معيشتهم متواضعاً وظلوا جهلة لا يفهمون الشريعة، ويرون أوامرها يمكن تركها متى تطلّبت المصلحة ذلك. وهذا الجهل جعلهم طعمة سهلة للدعوة القرمطية الماكرة، خاصة في مدن الأحساء والقطيف والبحرين حيث استمرت دعوة حمدان قرمط؛ إذ أنشأ أحد دعاته وهو الحسين الجنابي دولة في الخليج، مطبقاً روح تعاليم سلفه بكل حماس، مستغلاً حالة التذمر من الفقر والفاقة التي كانت سائدة في تلك الجهات، خاصة بين أهل البادية الذين كان فقرهم مضرب الأمثال.



 

* تعاليم القرامطة وعلاقتهم بالباطنية:



 

من الثابت أن الحركة القرمطية فرقة باطنية من جماعات الدعوة الإسماعيلية؛ حيث من المسَلَّمْ به وجود علاقات عضوية أساسية بين الفئتين في مجال العقائد والأفكار[2]، بينما مر تاريخ العلاقات السياسية بينهما بأطوار تباينت فيه المواقف ووصلت إلى حد المواجهات المسلحة في بعض الأحيان (المقريزي: المقفى الكبير، ج3، ص: [297]).



 

ومعلوم أن من أسماء الإسماعيلية التي اشتهرت بها "الباطنية"؛ ذلك لأنها قالت بالتأويل وبوجود علم ظاهري عام وعلم باطني خاص. وعلى هذا الأساس يكون معنى القرامطة هو الباطنية؛ لأنهم ادَّعوا أن: "لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري مجرى اللب من القشر، وأنها تُوهم الأغبياء صوراً، وتُفهم الفطناء رموزاً وإشارات إلى حقائق خفية، وأن من تقاعد عن الغوص على الخفايا والبواطن متعثر، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عن التكليف واستراح من أعبائه" (ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج12، ص: [289]).



 

* تعريف القرامطة:



 

ومن أفضل ما قيل في تعريف القرامطة ما أورده ابن العديم في كتابه (بغية الطلب) حيث قال: "...زعموا أنهم يرجعون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بن علي، ونسبوا إلى قرمط؛ وهو حمدان بن الأشعث، كان بسواد الكوفة، وإنما سمي قرمطاً؛ لأنه كان رجلاً قصيراً وكانت رجلاه قصيرتين، وكان خطوه متقارباً؛ فسُمِّيَ بهذا السبب قرمطاً... وذكر بعض العلماء أن لفظة قرامطة: إنما هي نسبة إلى مذهب يقال له: (القرمطة) خارج مذاهب الإسلام، فيكون على هذه المقالة عزوُه إلى مذهب باطل لا إلى رجل" (بغية الطلب في تاريخ حلب؛ الجامع في أخبار القرامطة، ص: [277]، وانظر كذلك: المقفى للمقريزي، ج3، ص: [300]).



 

ثم إن الرأي الأخير يتوافق مع ما ذهب إليه بعض الباحثين المعاصرين من القوم بأن كلمة "قرمطة" هي كلمة أرامية تعني العلم السري (سهيل زكار: مقدمة الجامع في أخبار القرامطة، ص: [29]).



 

وقد استغل القرامطة وغيرهم من الباطنية الأوضاع الاجتماعية المتدهورة، والأحوال الاقتصادية المزرية، والنزاعات السياسية، فبثوا فكرة الإمام المهدي المنتظر الذي سيُحرِّر الناس من الظلم والحيف ومن كافة الأغلال والقيود.



 

وعن طريق هذه الفكرة تغلغل تأثيرهم الموجه إلى محيط العامة وجميع الفئات المهمشة اجتماعياً، خاصة في الأرياف، وبعثوا في نفوسهم الأمل بدنوِّ النصر وقرب ساعة التحرير، وما ذلك إلا وسيلة لاستقطابهم وجذبهم إلى عقائدهم وأفكارهم.



 

* عقائدهم:



 

تقوم تعاليمهم في مجال العقائد (الإلهيات والنبوات) على إنكار وجود الله سبحانه وتعالى وجحد أسمائه الحسنى وصفاته العلى، والقول بقدم العالم، وتحريف شرائع النبيين والمرسلين، مع التستر بدعوى التأويل حيناً والتجديد حيناً آخر، وتذرَّعوا بأحاديث يختلقونها أو بنصوص يحرفونها أو يؤولونها، وعامة تأويلاتهم مبنية على أصول المجوس وبعض نظريات الفلاسفة كأرسطو.



 

وقد نقل الغزالي مذهبهم في الإلهيات في كتابه (فضائح الباطنية) بقوله: "وقد اتفقت أقاويل نقلة المقالات من غير تردد أنهم قائلون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمن؛ إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني، واسم العلة السابق واسم المعلول التالي، وأن السابق خلق العالم بواسطة الثاني لا بنفسه، وقد يُسمَّى الأول عقلاً والثاني نفساً"[3]، وهذا إلحاد لا شك فيه.



 

أما اعتقادهم في النبوات فهو قريب من اعتقاد الفلاسفة: وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بواسطة الثاني قوة قدسية صافية مهيأة لأنْ تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات، كما قد يتفق ذلك لبعض النفوس الزكية في المنام حتى تشاهد من مجاري الأحوال في المستقبل. ويعتقدون أن جبريل عبارة عن العقل الفائض عليه، لا أنه شخص متجسم متركب عن جسم لطيف أو كثيف يناسب المكان حتى ينتقل من علو إلى أسفل (الغزالي: فضائح الباطنية، ص: [40-41]).



 

والقرآن الكريم في نظرهم عبارة عن ظواهر هي رموز إلى بواطن يفهمها بزعمهم الإمام المعصوم فيتعلمونها منه (الغزالي: فضائح الباطنية، ص: [52]).



 

وقد أنكروا القيامة، وأوَّلوا القيامة الواردة في النصوص وقالوا: إنها رمز إلى خروج الإمام وخروج قائم الزمان، وأنكروا بعث الأجساد والجنة والنار (الغزالي: فضائح الباطنية، ص: [44]).



 

أما اعتقادهم في التكاليف الشرعية فهو الإباحة المطلقة، واستحلال المحرمات، ورد أحكام الشريعة بحجة أن المدركين للحقائق تسقط عنهم التكاليف (الغزالي: فضائح الباطنية، ص: [47]).



 

وفي الإمامة يقولون بأنه لا يكون بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلا سبعة أئمة هم: علي الإمام الرسول، الحسن، الحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر؛ وهو الإمام القائم وخاتم النبيين.



 

وقالوا: إن الرسول انقطعت رسالته في حياته في اليوم الذي أمر فيه بتنصيب أمير المؤمنين علي بغدير خم، فصارت الرسالة من ذلك اليوم إليه، وصار النبي تابعاً لعلي محجوباً به (الغزالي: فضائح الباطنية، ص: [44]).



 

ومن جهة استحلالهم للأموال والفروج وسفكهم دماء المخالفين والشهادة عليهم بالكفر والشرك[4]؛ فهم على مذهب البهيسية والأزارقة من الخوارج.



 

* حالهم عند التمكين:



 

وعلى العموم، فإن السرية والتكتم غالبان عليهم في حالة الاستضعاف، أما عند الظهور والغلبة فكانوا ينادون بآرائهم جهاراً ويعلنون ما كانوا يخفون؛ فعندما وقع لهم التمكين في البحرين أظهروا تكذيب الأنبياء وتعطيل الشرائع، وأخذوا الناس بلعن الأنبياء جهاراً في الأسواق، وتصدَّروا لإحراق المصاحف، وأعلنوا براءة الذمة ممن ترك عنده شيئاً من المصاحف أو التوراة والإنجيل وجميع ذلك كله، والأمر بطرحه في الحشوش والاستنجاء به، ونادوا بنكاح الأمهات والأخوات وذوات المحارم، وإباحة اللواط (القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة، ج2، ص: [387]).



 

وفي زمن الخليفة المقتدر؛ كان مَنْ في بغداد من الباطنية قد راسلوا أبا طاهر بن أبي سعيد في البحرين بضعف السلطان، وطلبوا منه أن يركب إلى بغداد ليستولي عليها، فسار القرامطة إلى العراق يقتلون وينهبون، وقال قائلهم: ما بقي شيء ينتظر، وما جئنا لإقامة دولة ولكن لإزالة شريعة (القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة، ج2، ص: [383]).



 

ومن أعمالهم الشنيعة أنهم أغاروا على الحُجاج في بيت الله، وسلبوا البيت وقلعوا الحجر الأسود وحملوه معهم إلى الأحساء[5]، وسبوا من النساء العلويات والهاشميات وسائر الناس نحو عشرين ألفاً (القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة، ج2، ص: [385]).



 

* أساليب القرامطة في الدعوة:



 

- إظهار الإسلام وإبطان الكفر:



 

فهم يتسترون بالإسلام وبقراءة القرآن وبالصلاة والصيام[6]، ويظهرون حب آل البيت والعفاف والزهد وترك الدنيا والإعراض عن الشهوات، ويأمرون بالصدق والأمانة والمعروف[7]، وفي حقيقة الأمر هم على خلاف ذلك؛ إذ يبطنون الكفر والزندقة والتعطيل وبغض الأنبياء والرسل، ويميلون إلى المجون والخلاعة والانغماس في اللذات والشهوات (القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة، ج2، ص: [380-386]، [387-388]).



 

وفي كل ذلك قد أوثقوا أمورهم بالسرية، وبأخذ الأيمان والعهود على من أجابهم بكتمان ما يبوحون له به من أسرارهم، ولا يكشفون أمرهم إلا بالتدرُّج على قدر طمعهم في الشخص (القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة، ج2، ص: [376]).



 

- الاستدراج والحيلة:



 

إنهم يتصلون بالناس سراً، وينقلونهم عن الإسلام بالحِيَل والأيمان الخادعة، ويستدرجونهم إلى مذهبهم من حيث يوافق رأيه لا يشعرون شيئاً فشيئاً، ويخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه بعد أن يظفروا منه بالانقياد لهم والموالاة لإمامهم[8]؛ إذ يوصون دعاتهم فيقولون للداعية: إذا وجدت من تدعوه فاجعل التشيع دينك، وادخل عليه من جهة ظلم الأمة لعلي، وقتلهم الحسين وسبيهم لأهله، والتبرأ من تيم وعدي وبني أمية وبني العباس، وقل بالرجعة، وأن علياً يعلم الغيب. فإذا تمكنت منه أوقفته على مثالب علي وولده، ثم بينت له بطلان ما عليه أهل ملة محمد وغيره من الرسل (ابن الجوزي، المنتظم، ج12، ص: [293]، وهكذا يتسم أسلوب دعوتهم بالمرحلية: ففي المرحلة الأولى ينادون بالتشيع لآل البيت، وفي المرحلة الثانية يقولون بالرجعة وأن علياً يعلم الغيب، وفي المرحلة الثالثة يشرعون للمدعو مثالب علي وأولاده، وبطلان ما عليه أهل ملة الإسلام).



 

وإن كان يهودياً فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأن المسيح هو محمد بن إسماعيل بن جعفر؛ وهو المهدي، واطعن في النصارى والمسلمين، وإن كان نصرانياً فاعكس، وإن كان صابئياً فتعظيم الكواكب، وإن كان مجوسياً فتعظيم النار والنور، وإن وجدت فيلسوفاً فهم عمدتنا؛ لأننا نتفق وهم على إبطال النواميس والأنبياء، وعلى قدم العالم (ابن الجوزي، المنتظم، ج12، ص: [293]، وهكذا يتسم أسلوب دعوتهم بالمرحلية: ففي المرحلة الأولى ينادون بالتشيع لآل البيت، وفي المرحلة الثانية يقولون بالرجعة وأن علياً يعلم الغيب، وفي المرحلة الثالثة يشرعون للمدعو مثالب علي وأولاده، وبطلان ما عليه أهل ملة الإسلام).



 

ومن رأيته زيدياً أو إمامياً فأظهر له بغض أبي بكر وعمر، ثم أظهر له العفاف والتقشف وترك الدنيا والإعراض عن الشهوات، ومر بالصدق والأمانة، فإذا استقر عنده ذلك فاذكر له ثلب أبي بكر وعمر[9]، وإن كان سنياً فاعكس[10]، وإن كان مائلاً إلى المجون والخلاعة فقرِّر عنده أن العبادة بَلَهٌ والورع حماقة، وإنما الفطنة في اتباع اللذة وقضاء الوطر من الدنيا الفانية (البغدادي: الفرق بين الفرق، ص: [226]).



 

- خداع الناس:



 

وقد اتخذوا التظاهر بحب آل البيت والتستر بالتشيع وسيلة للتحايل على الناس وخداعهم أثناء دعوتهم لهم.



 

ومن أساليبهم في خداع الناس اتخاذ الدين مطية لبلوغ أهدافهم، واستغلال ظروف الناس المعيشية المتدنية وعواطفهم الملتهبة للإصلاح برفع شعارات براقة؛ فعندما ثار القرامطة سنة 315هـ كانت لهم أعلام بيض مكتوب عليها: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} [القصص من الآية:5] (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج6، ص: [194]).



 

- مكان دعوتهم:



 

كانوا يقصدون بدعوتهم الأماكن النائية والمنعزلة التي يوجد بها الديلم والأعراب الذين قل بحثهم ونظرهم، ويذهبون إلى الأطراف البعيدة التي استولى على أهلها الغفلة والجهلة والطيش[11]، ويقطعونهم عن البحث والاستدلال بالعهود والأيمان المغلظة، ويجتهدون في زلزلة عقائد الناس بإلقاء المتشابه؛ فإن سكت محدثهم سكتوا، وإن ألح قالوا: عليك العهد والميثاق على كتمان هذا السر، ثم يخبرونه ببعض الشيء ويقولون: هذا لا يعلمه إلا آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: هذا الظاهر له باطن، وفلان يعتقد ما نقوله ولكنه يستره، ويذكرون له رجلاً فاضلاً ببلد بعيد (ابن الجوزي: المنتظم، ج12، ص: [294]).



 

- خططهم لإغواء الناس:



 

والمتأمِّل في خطط القرامطة يجد أنها تدل على دهاء وخبث وحنكة وذكاء في الأمور السياسية والاجتماعية، ومعرفة بنفسيات الناس وبظروفهم وبيئاتهم؛ فقد كانوا يختارون بعناية الزمان والمكان والأشخاص.



 

أما الزمان: فهو ضعف الدولة العباسية في العصر العباسي الثاني المعروف بعصر نفوذ الأتراك؛ حيث أخذت الرغبة تزداد في نفوس القادة الأتراك بانتزاع السلطة منذ عهد المتوكل، وقويت شوكتهم وتوطد سلطانهم، وأصبحوا هم أصحاب الحل والعقد، يدبرون المؤامرات لعزل الخلفاء أو قتلهم واستبدالهم بغيرهم (الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج11، ص: [62]، [75]، [97]، طبعة دار الفكر).



 

وقد كان للضعف الذي ألمّ بالدولة العباسية أثر واضح في انفصال كثير من الأقاليم عن جسم الدولة وظهور حركات مناوئة تحكمهم؛ كحركتي القرامطة والزنج.



 

أما المكان: فكانوا يختارون الأقاليم والمدن المغمورة الواقعة في أطراف الدولة أو في المناطق النائية، كوقوع اختيارهم على مدينة سلمية بالشام إلى الشرق من حماة، وهي تتمتع بموقع ممتاز؛ إذ بالإضافة لخصبها فهي وثيقة الصلة بالبادية وأهلها، ووقع اختيار الدعوة الإسماعيلية عليها لهذه المزايا (الجامع في أخبار القرامطة، حاشية رقم2، ص: [212]).



 

كما أن الأحساء واحة ينبغي لبلوغها من العراق مركز الدولة العباسية اجتياز صحراء واسعة (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [158]).



 

أما الأشخاص: فكانوا يختارون لدعوتهم أناساً تظهر فيهم صفات: الصبر، والجلد، وعلو الهمة، والذكاء، والمعرفة بنفسيات الناس ومظاهر التذمر والرضا لديهم؛ فعندما وقع اختيار ميمون القداح على شاب يدعى علي بن الفضل للدعوة إلى مذهبه قام بالعمل لصالحهم داعيةً لمذهبهم في نواحي اليمن وإليه ينتسب الباطنية هناك.



 

لقد كانوا قوة خفية نشطت واستعملت أساليب متنوعة ووسائل مختلفة، وبرعت في استغلال سخط مجموعة من الفئات الاجتماعية ودفعها إلى التخريب والإفساد، وتغيير الحياة العامة في كثير من مظاهرها.



 

* الفئات التي انضمت إلى الحركة القرمطية:



 

فإذا كانت تلك هي أساليبهم وطرقهم في الدعوة؛ فمن أتباعهم إذاً؟



 

1- ضعاف العقول: الذين قلّت بصائرهم، وغلبت عليهم البلادة والسذاجة والبَلَه، ولم يعرفوا شيئاً من العلوم؛ كعوام المدن، وأهل البوادي والأرياف، وجفاة الأعاجم، وسفهاء الأحداث.



 

2- الحاقدون: وهم المجوس والشعوبية من أهل فارس الذين انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام؛ كأبناء الأكاسرة والدهاقين؛ فهؤلاء موتورون قد استكنّ الحقد في صدورهم ويعملون لإزالة دولة الإسلام وإعادة الملك إلى العجم.



 

3- الطامعون: الذين لهم تطلّع إلى التسلط والاستيلاء، ولكن الظروف لا تساعدهم، فإذا رأوا طريق الظفر إلى مقاصدهم سارعوا إليه.



 

4- الشاذون في آرائهم: الذي يحبون التميز عن الناس ويزعمون أنهم يطلبون الحقائق، وأن أكثر الخلق في رأيهم كالبهائم.



 

5- أتباع الإلحاد والزندقة: كالفلاسفة والثنوية الذين اعتقدوا الشرائع السماوية قوانين مصطنعة، والمعجزات مخاريق مزخرفة، فإذا رأوا من يتجاوب معهم مالوا إليه.



 

6- أصحاب اللذة المباحة: الذين مالوا إلى اللذات العاجلة بإطلاق، ولم يكن لهم علم ولا دين صحيح، فإذا صادفوا من يرفع عنهم الحجر والمنع مالوا إليه (ابن الجوزي: المنتظم، ج12، ص: [297-298]؛ والبغدادي: الفرق بين الفرق، ص: [227-228]).



 

* كيان القرامطة على الصعيد السياسي:



 

من المعلوم أن القرامطة فرقة سياسية وحركة عسكرية؛ لم تكن دولة بالمعنى الصحيح، ولكنها كانت كياناً منظماً يعتمد على البدو، ويستطيع إقلاق راحة الدول المجاورة، ويعتمد في حياته على الغارات التي يشنها على البلاد المجاورة ويغنم منها وتعود جيوشه إلى مركزها في الأحساء والبحرين.



 

على أن القرامطة كانوا أعداء ألداء للدولة العباسية؛ لأنها كانت دولة سنية تقف بالمرصاد لغلاة الشيعة من الباطنية (ثابت بن قرة: الجامع في أخبار القرامطة، ص: [16-17]).



 

أما علاقتهم مع الفاطميين أو العبيديين فكانت علاقة مذهبية في أول الأمر. ولما أصبح العبيديون حكام مصر انقلب عليهم القرامطة وأخذوا يشنون الغارات على مصر والشام (ثابت بن قرة: الجامع في تاريخ أخبار القرامطة، ص: [57-63]).



 

وهذا الموقف لا ينبغي أن ينسينا أن الحزب الواحد يتمزق ويرمى أفراده بعضُهم بعضاً بأقسى التهم وأشنعها، ومردُّ ذلك إلى التنافس على السلطة؛ فالملك عقوق عقيم، والإنسان في السلطة هو غيره في الواقع النظري، ومقتضيات السياسة شيء ومقتضيات المُثل والمبادئ شيء آخر، لا سيما في الكيانات التي اتخذت الدنيا غاية تتصارع على حطامها ومتاعها.



 

لكنْ رغم ذلك لم تنقطع العلاقات بالكلية بين العبيديين والقرامطة؛ إذ ظل أولئك يمارسون نوعاً من الضغط والتأثير على هؤلاء؛ فعندما أغار القرامطة على مكة وسرقوا الحجر الأسود وأخذوه إلى الأحساء بقي هناك حتى أعادوه بواسطة الحاكم العبيدي عبيد الله المهدي(ابن الأثير: الكامل، ج6، ص: [204]؛ والمقريزي: اتعاظ الحنفاء، ص: [185]).



 

لقد ظلت الدعوة القرمطية تنشط في السر إلى أن جاء أبو سعيد الجنابي، الحسينُ بن بهرام، من جنابة ببلاد فارس، فأقام في البحرين تاجراً، ثم جعل يدعو الناس إلى نِحْلته الفاسدة، فانتشرت في البحرين، كما أنشأ لها فرعاً كبيراً في الأحساء، وتبعها فئام من الناس(الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج10، ص: [75]؛ والقاضي عبد الجبار: تثيبت دلائل النبوة: [2/378]).



 

وحين ظهر أمر أبي سعيد وقوي صيته قاتل بمن أطاعه مَنْ عصاه، فنزل الأحساء[12]، ثم حاصر القطيف، وحاصر هجر عاصمة البحرين آنذاك شهوراً يقاتل أهلها، فاستولى عليها[13]، وقتل كثيراً من الناس، وخرب المساجد وأحرق المصاحف، وفتك بالحُجاج وهاجم قوافلهم (البغدادي: الفرق بين الفرق، ص: [218]؛ والحفني: موسوعة الفرق، ص: [319]).



 

ثم خلفه ابنه سعيد الذي سلَّم الأمر إلى أخيه أبي طاهر بعد ذلك[14]، فسار هذا الأخير من البحرين، وخرَّب منازل الحجاج وقد كانت في الأمن والعمارة كالأسواق القائمة، وأغار على مكة، وقتل وسلب ونهب، وأثخن في المسلمين (القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة، ج2، ص: [384-385]).



 

وتذكر المصادر أن قتلاه أكثر من قتلى بابك وصاحب الزنج (الجامع في أخبار القرامطة، ص: [157]، [168]).



 

"وقد ملك القرامطة كثيراً من البلدان هي: البحرين، والأحساء، والقطيف، واليمن، وعمان، وبلاد الشام، وجنوب العراق، وحاولوا احتلال مصر، لكن محاولتهم باءت بالفشل" (المقريزي: اتعاظ الحنفاء، ص: [160-161]، [166]، [177]، [182]، [188]؛ والمقفى الكبير؛ ومحمد بن مالك: كشف أسرار الباطنية، الجامع: ص: [222-225]، ج3، ص: [294-297]).



 

أما كيانهم السياسي فكان يحكمه شخص واحد هو أبو سعيد الجنابي، يعاونه في الحكم مجلس مؤلف من أتباعه المقربين، وممن تربطه بهم رابطة العقيدة القرمطية والنسب. ويذكر ابن حوقل بعض الأفراد ووظائفهم (ابن حوقل: المسالك والممالك).



 

ولما توفي أبو سعيد الجنابي انتقلت الحكومة إلى مجلس شورى مؤلف من ستة دعاة ينظرون في القضايا والمسائل المختلفة، ويصدرون أوامرهم بالاتفاق، ولهم ستة وزراء (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [159]).



 

* سياسة فرض الضرائب المختلفة على الأتباع:



 

يؤكد القرامطة على أهمية الناحية المادية. ولاستقطاب الناس، خاصة الفقراء والمنعدمين وذوي الحاجة منهم؛ فقد اتسمت سياستهم المالية في بادئ الأمر بفرض حمدان قرمط الضرائب على أنصاره، وكانت هذه الضرائب على نوعين؛ إجبارية واختيارية. وكانت تسمى بأسماء متعدد، منها "الفطرة": وهي درهم على الجميع، ومنها "الهجرة": وهي دينار على البالغين، ومنها "البلغة": وهي سبعة دنانير، زعموا أن ذلك بلاغ من يريد الإيمان (المقريزي: المقفى، ج3، ص: [289-290]).



 

كما فرضوا على أتباعهم دفع "أخماس" ما يملكون وما ينتجون؛ فكانت المرأة تُخرِج خُمس ما تغزل، والرجل خمس ما يكسب. وفرضوا على أتباعهم "الألفة": وهي أن يجمعوا أموالهم في موضع واحد ويشتركوا فيها؛ حيث تكون ملكاً للجميع، فلا يملك أحد منهم إلا سلاحه (المقريزي: المقفى، ج3، ص: [290]).



 

وكان القرامطة يغرون بنصيب من هذه الأموال الفقراءَ لاجتذابهم بإعطائهم جزءاً مما يجمعون، ويمنّونهم بأن تكون لهم الخيرات التي يتمتع بها الموسرون والحكام، قائلين لهم: إن ساعة الخلاص منهم ومن استعبادهم قريبة، وأظهروا للناس إبطالاً للسلم والرفاه اللذين وعد بهما العباسيون من قبل ولم يحققوها، فأطاعوهم وساروا وراءهم (محمد علي حيدر: الدويلات الإسلامية في المشرق، ص: [38]).



 

وعلى العموم؛ تمكَّن القرامطة -بمقتضى سياستهم المالية المتدرِّجة- من أن يعدوا العدة لصراع طويل ضد السلطة الحاكمة، فاشتروا السلاح الكثير بالمال الذي جمعوه من الضرائب المختلفة.



 

* مجال الخدمات:



 

عندما قام سلطان القرامطة في الأحساء والبحرين تغيرت سياستهم المالية لكسب ولاء وود الأنصار والأتباع من جهة، وللدعاية للمذهب من جهة أخرى.



 

فقد كانوا لا يأخذون عشوراً من الرعية، وإذا افتقر إنسان أو استدان يتعهدونه حتى يتيسر عمله، وكل غريب ينزل في مدينتهم وله حرفة يعطى ما يكفيه من المال حتى يشتري ما يلزم صناعته من عدد وآلات، ويرد إلى الحاكم ما أخذ حيث يشاء. وإذا خرب بيت أو طاحون أحد الملاك، ولم يكن لديه القدرة على الإصلاح، أمروا عبيدهم أن يذهبوا إليه ويصلحوا المنزل أو الطاحون، ولا يطلبون من المالك شيئاً (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [160]).



 

وفي الأحساء مطاحن مملوكة لزعيمهم تقوم بطحن الحبوب للرعية مجاناً، ويدفع هو أجور العمال ونفقات الإصلاح (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [160]).



 

* تغطية النفقات:



 

كانت تغطية تلك النفقات وسد النقص في موارد الدولة تتم عن طريق أسلوب الغزو والنهب والسلب؛ إذ كانوا يشنون الغارات على البصرة والكوفة تارة، وعلى الحجاز تارة أخرى، ويعترضون قوافل الحجاج في طريق مكة؛ فينهبون الأموال ويسبون النساء(النويري: نهاية الأرب، ج25، ص: [176]، [284-285]؛ والجامع في أخبار القرامطة، ص: [157]).



 

ويتم كذلك فرض الإتاوات والغرامات التي كانت تدفعها مدن وقرى العراق وبلاد الشام (مصطفى غالب، الحركات الباطنية في الإسلام، ص: [172]).



 

ومن ناحية ثانية كان الكيان القرمطي يبحث عن موارد تقوم باحتياجاته بدون أن يشعر الناس للحفاظ على ولائهم؛ فوضعوا ضريبة على المراكب التي كانت تمخر الخليج العربي، ثم ضريبة على الحجاج، وضريبة على صيادي اللؤلؤ في مياه البحرين (مصطفى غالب، الحركات الباطنية في الإسلام، ص: [172]).



 

* التجارة:



 

وفي ميدان التجارة احتكرت الحركة القرمطية التجارة الداخلية؛ إذ وضع أبو سعيد الجنابي مالية جماعية بين يديه يقوم بتوزيعها على أتباعه؛ فلا يأخذ أحدهم إلا ما يعينه له؛ حيث قبض على منتجات البلد من ثمار وحنطة وشعير، واستولى على المواشي والحيوانات وعيّن لها رعاة، ومعهم قوم، لحفظها والتنقل معها على نُوب معروفة (المقريزي: اتعاظ الحنفاء، ص: [161]).



 

كما احتكر القرامطة التجارة الخارجية، وفتحوا سوقاً لهم بالخارج (البصرة)، وضربوا نقوداً لهم من الرصاص لا تُصرَف خارج منطقة نفوذهم[15]، وذلك حتى لا تتسرَّب الثروة العامة إلى الخارج.



 

* الزراعة وتنظيم أعمال الحِرف:



 

في ميدان الزراعة قام أبو سعيد الجنابي بإصلاح أراضي المزارع وأصول النخل، ونصّب الأمناء على ذلك[16]، وأسس ما يمكن أن يطلق عليه مصرفاً زراعياً لتسليف الفلاحين وتشجيعهم في أعمالهم[17]، وكان يشتغل بالزراعة وفلاحة البساتين ثلاثون ألف زنجي وحبشي (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [159]).



 

أما أعمال الحرف والمهن فأقام العرفاء على أصحابها، وكانت الشاة إذا ذبحت يتسلم هؤلاء العرفاء اللحم ليفرِّقوه على من يُرسم لهم، ويدفع الرأس والكراع والبطن إلى العبيد والإماء، ويجز الصوف والشعر من الغنم ويفرَّق على من يغزله، ثم يدفع إلى من ينسجه عبياً وأكسية وغرائر وجوالقات، ويفتل منه الحبال، ويُسلَّم الجلد إلى الدباغ ثم إلى خرازي القرب والروايا بعد ذلك، وما كان يصلح منه نِعالاً وخفاً عمل منه، ثم توضع هذه المنتوجات في خزائن[18]، استعداداً لتوجيه ذلك لاقتصاد الغزو وتوظيفه في أعمال النهب والسلب.



 

وهكذا استولى القرامطة في البحرين والأحساء آنذاك على وسائل الإنتاج، واحتكروا الحوانيت والمستودعات والأفران والحمامات، واحتكروا مصادر الثروة الزراعية؛ للإمساك بزمام القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتشريعية، والتحكم في مجتمعهم وتوجيه وجهة تتفق مع الأهداف التي رسموها لحركتهم.



 

* على الصعيد الاجتماعي:



 

في هذا المجال: يروى ارتباطهم بمذهب مزدك الذي كان يحل النساء ويبيح الأموال، ويجعل الناس شركاء فيهما كاشتراكهم في الماء والكلأ والنار، بذريعة استئصال أسباب المباغضة بين الناس؛ لأن ما يقع في زعمهم من الخالفة والبغضاء إنما هو بسبب النساء والأموال (الشهرستاني: الملل والنحل، ج1، ص: [249]).



 

والثغرة الخطيرة في كيان القرامطة هي مشكلة الرقيق؛ ذلك أنهم احتفظوا بنظام الرقيق وجعلوه أداة للإنتاج، وقامت دولتهم من حيث الواقع على طبقتين اجتماعيتين، الأولى: الأحرار وجلهم من المقاتلين الأعراب[19]، والثانية: العبيد؛ إذ كان لهم في ذلك الوقت ثلاثون ألف زنجي وحبشي يشتغلون بالزراعة وفلاحة البساتين (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [159]).



 

وهذا الوضع يصطدم مع العدالة والمساواة التي كانوا ينادون بها. على أن مبدأهم الذي يجعل ما يأخذه الفرد يتناسب وحاجتَه، بينما جعل مركزه الاجتماعي يتناسب وقدرتَه على خدمة الجموع يذهب أدراج الرياح ويفقد مصداقيته على أرض الواقع.



 

وقد دفع هذا التناقص، بين الواقع الاجتماعي والبنية الفكرية للقرامطة، بعض الباحثين إلى القول بأن دولة القرامطة لم تكن دولة اشتراكية، وإنما كانت دولة تطبق رأسمالية الدولة (دولة المحاربين)، بينما صنفها آخرون دولة اشتراكية، بينما ذهب فريق ثالث إلى أن دولة القرامطة في البحرين والأحساء قامت في منطقة خضعت دائماً للتأثير الفارسي في الإقطاع الساساني الذي عرف بنظام إقطاعيات الفرسان (سهيل زكار: مقدمة الجامع، ص: [31]).



 

* على الصعيد الديني:



 

في مجال التدين يروى أن أبا سعيد أعفى أتباعه من الصلاة والصوم، وأصبح مرجعهم في كل شيء، ولذلك حين يُسألون عن مذهبهم يقولون: (إنا أبو سعيديون) (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [159]).



 

وليس بمدينة الأحساء آنذاك مسجد جمعة، ولا تقام بها صلاة أو خطبة (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [160]).



 

ويؤمن القرامطة بالرجعة؛ لذا كانوا قد وضعوا على باب قبر أبي سعيد حصاناً مهيأ بعناية، عليه طوق ولجام، يقف بصفة مستمرة، معتقدين أن أبا سعيد سيركبه حين يرجع إلى الدنيا (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [160]).



 

وحين أغاروا على مكة في موسم الحج؛ انتزعوا الحجر الأسود من مكانه ونقلوه إلى الأحساء، زاعمين أنه مغناطيس يجذب الناس إليه من أطراف العالم (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [160]).



 

وما فقِهوا أن اعتدال الإسلام وعدله هما اللذان يجذبان الناس.



 

وفي عاصمتهم الأحساء -آنذاك- تُباع لحوم الحيوانات كلها؛ الحلال والمحرَّمة: من قطط وكلاب وحمير وبقر وخِراف وغيرها. ويُسمنون الكلاب كما تُعلَّف الخِراف، ثم يذبحونها ويبيعونها لحماً (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [167]).



 

وفي موقفهم هذا إشارة إلى استباحة المحظورات وعدم انقيادهم للشرع في مسائل الأحكام.



 

* في الميدان الحربي:



 

كان زعيمهم أبو سعيد الجنابي يجمع الأطفال الذين تعرَّضوا للسبي في دور خاصة، ويجعل لهم علامة يُعرفون بها لئلا يختلطوا بغيرهم، وينصِّب لهم عرفاء، ثم يأخذ في تدريبهم على ركوب الخيل والرماية وأساليب الفروسية، وبذلك ينشؤون لا يعرفون إلا الحرب، وتصير دعوته طبعاً لهم[20]، حتى يكون ولاؤهم له وحده.



 

* الخاتمة:



 

إن تقويم حركة القرامطة بعد دراسة ظروف نشأتها وتعاليمها، وأساليبها في الدعوة، وكيانها، والنظر في أسلوب عملها ونمط حياة زعمائها، يقود إلى القول بأنها حركة باطنية إباحية هدامة قامت على الأشلاء والدماء، وعبثت بالقيم والأخلاق؛ فدمرت القرى والمدن، وقتلت الشيوخ والنساء والأطفال، ووصل بها الأمر إلى انتهاك حرمة الأماكن المقدسة، وقتل حجاج بيت الله الحرام.



 

إنها لا تختلف عن الحركات الثورية اليسارية التي شهدها العالم المعاصر؛ إذ نجد قاسماً مشتركاً بينها وبين المنظمات السرية كالماسونية، والمذاهب الفوضوية كالشيوعية، التي تنادي بالإباحية والحرية بلا قيود، والمساواة دون النظر إلى الجنس والدين، وترى أن الدين هو العدو الحقيقي للبشرية، وأنه لا بد من العمل لتهميشه والقضاء عليه.



 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



 

المراجع:



 

[1]- (نهاية الأرب، ج28، ص: [68]).



 

[2]- (سهيل زكار: مقدمة الجامع في أخبار القرامطة، ص: [21]؛ وبرنارد لويس: أصول الإسماعيلية، ص: [135-137]؛ وعارف تامر: القرامطة، ص: [120]).



 

[3]- (الغزالي: فضائح الباطنية، ص: [38]).



 

[4]- (المقريزي: اتعاظ الحنفاء، ص: [158]).



 

[5]- (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج6، ص: [203]).



 

[6]- (القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة، ج2، ص: [376]).



 

[7]- (ابن الجوزي: المنتظم، ج12، ص: [293]).



 

[8]-  (الغزالي: فضائح الباطنية، ص: [37]).



 

[9]- (البغدادي: الفرق بين الفرق، ص: [227]).



 

[10]- (ابن الجوزي: المنتظم، ج12، ص: [294]).

[11]- (القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة، ج2، ص: [376]).



 

[12]- (المقريزي: المقفى، ج3، ص: [294]).



 

[13]- (القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة، ج2، ص: [380]).



 

[14]- (ثابت بن قرة: الجامع في تاريخ أخبار القرامطة، ص: [35]).



 

[15]- (ناصر خسرو: سفرنامة، ص: [160]).



 

[16]- (المقريزي: اتعاظ الحنفاء، ص: [164]).



 

[17]- (مصطفى غالب: الحركات الباطنية في الإسلام، ص: [172]).



 

[18]- (المقريزي: اتعاظ الحنفاء، ص: [164]).



 

[19]- (مثل: بني الأضبط من كلاب، وبني عقيل وبني سنبر، انظر: المقريزي: المقفى الكبير، ج3، ص: [289]؛ والطبري: تاريخ الرسل،


 

ج10، ص: [71]؛ وابن كثير: البداية، ج11، ص: [92]).



 

[20]- (المقريزي: اتعاظ الحنفاء، ص: [161]).

 

المصدر: مجلة البيان

محمد أمحزون

الأستاذ الدكتور محمد أمحزون، أستاذ التاريخ الإسلامي الوسيط بكلية الآداب جامعة المولى إسماعيل.

  • 7
  • 1
  • 28,173

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً