رحلة الطائف دعوة وتربية
إن رحلة الطائف رغم ما فيها من أحداث مؤلمة من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، تركت لنا دروسا هامة، ينبغي على المسلم عامة، والمربي والداعية خاصة الوقوف معها والعمل بها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم واصل دعوته إلى الله بصبر وثبات، وحكمة ورحمة، فكانت النتيجة النصر من الله، والفتح المبين الذي نعيش في ظلاله، وننعم بنوره إلى يومنا هذا، وإلى يوم الدين.
- التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة -
لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم كل ألوان الأذى والاضطهاد من طواغيت قريش الذين بذلوا أقصى ما في وسعهم للقضاء على الدعوة الإسلامية الجديدة، وتلك هي سنّة الله في خلقه، ولأن رسالة الإسلام عامة لكل الناس كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فلم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم رغم تعرضه للأذى على دعوة قريش فقط، وإنما بدأ في التحرك للدعوة بمناطق أخرى خارج مكة المكرّمة، لمحاولة إيجاد مكان وأرض جديدة تكون صالحة للدعوة الإسلامية الجديدة.
ففي شوال من السنة العاشرة بعد بدء نزول الوحي خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف التي تبعد عن مكة ستة وتسعين كيلو متر ماشيا على قدميه الشريفتين صلى الله عليه وسلم ذهابا وإيابا، وأقام الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف عدة أيام، ولم يترك أحدًا إلا دعاه إلى الإسلام، فتطاولوا عليه وطردوه، ثم أغروا به سفهاءهم فلاحقوه وهو يخرج من الطائف يسبّونه، ويرمونه بالحجارة، حتى دميت قدماه الشريفتان، وحاول زيد بن حارثة رضي الله عنه أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أصيب في رأسه، ولم يزل السفهاء يرمونهما بالحجارة حتى لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم وزيد رضي الله عنه إلى حائط (بستان) لعتبة و شيبة ابني ربيعة على بعد ثلاثة أميال من الطائف، فرجعوا عنهما.
وبعد العسر يأتي اليسر، ومع الهم يأتي الفرج، ففي طريق عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة جلس في بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة من سادات أهل الطائف ليستريح قليلا، فأرسلا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس بقطف من عنب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم، مد يده قائلا: بسم الله ثم أكل، فقال عداس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت وما دينك؟ فقال عداس: أنا نصراني من أهل نينوى، فقال صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلهما وأسلم، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليستأنف الدعوة إلى الله، وعرض الإسلام وإبلاغ الرسالة للوفود والقبائل والأفراد.
إن المتأمل في رحلة النبي صلى الله عليه وسلم الشاقة للطائف، وما لاقاه من أذى ليجد فيها الدروس الكثيرة للدعاة والمربين، ومنها:
رحمة الداعية:
أظهرت رحلة الطائف الشاقة بصورة عملية، معاني الرحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن آذاه، إذ كان بوسعه أن ينتقم من السفهاء الذين آذوه، ومن زعمائهم الذين أغروا به، وسلطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم، فقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: «يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (ميقات أهل نجد)، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين (الجبلين)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» (رواه البخاري).
لقد كانت إصابة النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبلغ من الناحية الجسدية، أما من الناحية النفسية فإن إصابته يوم الطائف أبلغ وأشد، ومع ذلك رفض إهلاك من آذاه، فقد كانت نظرة النبي صلى الله عليه وسلم نظرة مستقبلية فيها رحمة لأعدائه ومن آذاه، بل وأمل في هدايتهم، فأهل الطائف يؤذونه، ويدفعون أنفسهم في النار، والرسول صلى الله عليه وسلم حريص عليهم، رحيم بهم، قائلا: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا»، ولم يكن هذا الموقف موقفًا عارضًا في حياته، فقد فعل ذلك أيضًا قبل ذلك مع قبيلة دوس عندما رفضوا الإسلام، فقال: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ» (رواه البخاري)، وصدق الله العظيم الذي قال عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وهذا الموقف مع ما فيه من درس عملي في رحمة الداعية وشفقته بالمدعو، وعدم تعجل نزول العقاب بمن لا يستجيب لدعوته، فيه أيضا دلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم فقد تحقق بالفعل ما أخبر به من إسلام أبناء المشركين فيما بعد حين قال: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» (رواه البخاري).
منهج التغيير:
من خلال رفض النبي صلى الله عليه وسلم لمقترح ملَك الجبال بإهلاك من تعرض له بالأذى، وضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم منهجه في التغيير، وهذا من الدروس الهامة من هذه الرحلة الشاقة، إذ كان مقترح ملَك الجبال أن يُطبق عليهم الجبلين، وهو يدخل تحت منهج الاستئصال، وقد نُفِذ في قوم نوح وعاد وثمود ولوط، قال تعالى: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رفض ذلك، ونظر إلى المستقبل بيقين، وبروح التفاؤل والرحمة والشفقة قائلا: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا»، ومن ثم قرر الرجوع إلى مكة ليواصل دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، رغم ما يلقاه من تعب ومشقة، وهذا هو المنهج النبوي في الدعوة إلى الله، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
بركة السنة:
وفي إسلام عداس الغلام النصراني درس تربوي ودعوي في فضل وبركة التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالتسمية قبل الأكل من السنن والآداب التي علمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: «كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة (الطبق)، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك. فما زالت تلك طعمتي بعد» (رواه البخاري). فالتمسك بآداب وسنن النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية والقولية من أسباب تميز المسلمين على من حولهم من المشركين، وهذا التميز يلفت أنظار الكفار دائما، ويدفعهم إلى السؤال، ثم يقودهم ذلك إلى فهم الإسلام والانجذاب إليه والدخول فيه، كما حدث مع عداس ومع غيره إلى يومنا هذا.
{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: من الآية54].
إن واجب الداعية إلى الله هو الدعوة والبلاغ فحسب بغض النظر عن النتيجة والاستجابة، فالنتائج (الهداية) بيد الله وحده، ولو كان نجاح الدعوة يقاس بعدد الأتباع فحسب لظنّ البعض أن نبيّا عظيما مثل نوح عليه السلام قد أخفق في دعوته ورسالته، لأنه عاش يدعو قومه إلى التوحيد ألف سنة إلا خمسين، ولم يؤمن معه إلا عدد قليل، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل الواحد، ومنهم من يأتي ومعه الرجلان، ومنهم من يأتي وليس معه أحد، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الثلاثة وأكثر من ذلك» (رواه ابن ماجه)، وفي رواية: «والنبي وليس معه أحد من أمته»، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإن «من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجلٌ واحد» (رواه مسلم).
إن الرسل عليهم السلام قد أدّوا الأمانة وبلّغوا الرسالة على أتم وأكمل وجه، وليست الكثرة دليلا على الحق أو النجاح، ولن يستجيب أحد للحق الذي تدعوه إليه إلا إذا شاء الله، قال الله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 2]، وقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 82]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: من الآية 272]، وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: من الآية 56].
إن رحلة الطائف رغم ما فيها من أحداث مؤلمة من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، تركت لنا دروسا هامة، ينبغي على المسلم عامة، والمربي والداعية خاصة الوقوف معها والعمل بها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم واصل دعوته إلى الله بصبر وثبات، وحكمة ورحمة، فكانت النتيجة النصر من الله، والفتح المبين الذي نعيش في ظلاله، وننعم بنوره إلى يومنا هذا، وإلى يوم الدين.