وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب
في السّنوات الخدّاعة الّتي بين يدي السّاعة، وعندما تحيط بالأمّة الفتن المدلهمّة، وحينما تشتدّ غربة الإسلام ويكثر الجهلة ويصدّر أنصاف المتعلّمين، ويقلّ أهل العلم الرّاسخون ويقصون ويبعدون، إذ ذاك يجد المنافقون والمرجفون فرصتهم الملائمة، ليقلبوا المفاهيم ويبدّلوا الحقائق، ويلبسوا الحقّ بالباطل ويخلطوا الصّدق بالكذب، ويسمّوا الأشياء بغير أسمائها، ويلبسوا القضايا غير أثوابها، يجتمع على ذلك شياطين الجنّ والإنس، ويتحالف لأجله رؤوس الجهل مع أئمّة الفتنة
الخطبة الأولى:
أمّا بعد، فأوصيكم أيّها النّاس ونفسي بتقوى الله عز وجل فاتّقوا ربّكم وخافوه: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أيّها المسلمون: في السّنوات الخدّاعة الّتي بين يدي السّاعة، وعندما تحيط بالأمّة الفتن المدلهمّة، وحينما تشتدّ غربة الإسلام ويكثر الجهلة ويصدّر أنصاف المتعلّمين، ويقلّ أهل العلم الرّاسخون ويقصون ويبعدون، إذ ذاك يجد المنافقون والمرجفون فرصتهم الملائمة، ليقلبوا المفاهيم ويبدّلوا الحقائق، ويلبسوا الحقّ بالباطل ويخلطوا الصّدق بالكذب، ويسمّوا الأشياء بغير أسمائها، ويلبسوا القضايا غير أثوابها، يجتمع على ذلك شياطين الجنّ والإنس، ويتحالف لأجله رؤوس الجهل مع أئمّة الفتنة {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، (يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف)، فيضلّ بسبب ذلك خلقٌ كثيرٌ، ويقف كثيرٌ من النّاس حائرين مضطربين، لا يدرون مع من يكون الحقّ والصّواب.
ولولا أنّ قلب المفاهيم وتبديل الحقائق يجد قلوبًا خاويةً تتشرّبه وعقولاً صغيرةً تقبله، لما وجد من سالف الأزمان واستمرّ إلى هذا الأوان، لكنّه مرضٌ خطيرٌ قديمٌ، بليت به الإنسانيّة منذ خلق أبوها آدم عليه السلام إذْ أراد الله أن يسجد لآدم تكريمًا له، فأبى إمام أهل الضّلال وقائدهم إلى النّار، وبدأ بالتّلبيس وقلب الحقيقة؛ إذْ قال له خالقه: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12].
وعلى درب إبليس مضى أهل الكتاب من اليهود والنّصارى، وعلى نهجهم سار المنافقون والمرجفون، قال تعالى مخاطبًا بني إسرائيل: {وآمنوا بما أنزلت مصدّقًا لما معكم ولا تكونوا أوّل كافرٍ به ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا وإيّاي فاتّقون . ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون} [البقرة: 41، 42]، وقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، وقال جل وعلا: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]، وقال تعالى عن المنافقين: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ . وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 11- 14].
وحتى هذه الأمّة العظيمة، الّتي نزل كتابها بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، ونطق نبيّها بأفصح لغةٍ وأحسن حديثٍ، لم تسلمْ من طوائف من المبتدعين وأهل الضّلال، ممّن زاغت قلوبهم وانتكست فهومهم، فحرّفوا الكلم عن مواضعه، ومالوا به عن مراد الله ومراد رسوله، فضلّوا وأضلّوا، وفرّقوا الأمّة شيعًا وأحزابًا وأضعفوها وأوهنوها.
ومن هنا أيّها المسلمون فإنّه لا يستنكر أن يظهر النّاعقون بين حينٍ وآخر في بعض القنوات الضّالّة المضلّة، في محاولاتٍ خاسرةٍ لقلب الحقائق وتبديل المفاهيم، وإصرارٍ ممقوتٍ على تخدير الأمّة وتنويمها؛ لتضيع وجهتها الصّحيحة وتنحرف عن جادّة الصّواب، ولكنّ المستنكر حقًّا، أن يجد أولئك النّاعقون والمرجفون من يتسمّر أمام قنواتهم ويتابع برامجهم، ويلقي السّمع لهرائهم ويصدّق كذبهم، في حين أنّه لم يزلْ في الأمّة طائفةٌ من أهل الذّكر والرّاسخين، ممّن لا يسع من لا يعلم إلاّ أن يسألهم ويأخذ بقولهم ويصدر عن رأيهم، طاعةً لله القائل سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] كيف وقد أخبر الصّادق المصدوق عليه الصلاة والسلام أنّ ذهاب العلم ووقوع الضّلال في الأمّة، إنّما يكون بترؤّس الجهّال وسؤالهم، قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من النّاس، ولكنْ يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يتركْ عالمًا اتّخذ النّاس رؤوسًا جهّالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ، فضلّوا وأضلّوا» (رواه الشّيخان).
وتعظم المصيبة أيّها المسلمون باتّخاذ الجهّال رؤوسًا وسؤالهم والصّدور عن رأيهم، حين تكون الأمّة كما هي اليوم، على مفترق طرقٍ كثيرةٍ، يتخطّفها الأعداء من كلّ مكانٍ، ويحيط بها المفسدون من كلّ جهةٍ، ويجتمع على حربها اليهود والنّصارى والباطنيّون والمنافقون، ثم يسارع الجهّال ممّن لم يعرفوا بعلمٍ ولا بصيرةٍ ولا فقهٍ في الدّين، وإنّما هم إعلاميّون متخبّطون، فيصرّ أحدهم على تسمية الجهاد إرهابًا، ويجعل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تدخّلاً في الخصوصيّات غير مسوّغٍ، ويعدّ الدّعوة إلى الحقّ ونصر المؤمنين وموالاتهم وإعانتهم تعرّضًا للفتن، وما علم هذا الجاهل ومن هو على شاكلته من المفتونين، أنّ الفتنة الحقيقيّة، هي ما وقعوا فيه، وأنّهم قد سبقوا إلى ذلك من إخوانهم الأوّلين، الّذين قال الله تعالى عنهم: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} بالتوبة: 43]، لقد نسي هؤلاء المفتونون أو تناسوا، أو جهلوا أو تجاهلوا أنّ الصّراع بين الحقّ والباطل سنّةٌ كونيّةٌ باقيةٌ، وأنّه لا بدّ من ابتلاءٍ للمؤمنين لتمحيصهم وتطهير صفّهم، قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]، وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ . وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 10، 11].
ألا فاتّقوا الله أيّها المسلمون وتمسّكوا بالحقّ وإن قلّ أنصاره وكثر مناوئوه، واحذروا الباطل وإن كثر أتباعه ومؤيّدوه، ولا يغرّنّكم كثرة ما يدور من خلطٍ للأمور وخاصّةً في وسائل الإعلام وبرامج التّواصل وشبكات الاتّصال، فإنّما الغالب على النّاس اليوم اتّباع الهوى والتّصدّر بغير علمٍ ولا تبيّنٍ ولا تثبّتٍ، وذلك هو عين الفساد والإفساد، وصدق الله العظيم حيث قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].
الخطبة الثانية:
أمّا بعد، فاتّقوا الله تعالى وأطيعوه ولا تعصوه، واذكروه ولا تنسوه، واشكروه ولا تكفروه، واعلموا أنّ من أخطر ما يهدّد الأمّة في عقيدتها وعباداتها، وفي أخلاقها ومعاملاتها، أن تعيش في جوٍّ من التّلبيس والتّضليل والخداع، فلا ترى الحقّ في صورته المضيئة الجميلة، ولا الباطل في صورته المظلمة القبيحة، وتكمل الخطورة حين يصل المكر والخداع إلى أن ترى الأمّة الحقّ باطلاً والباطل حقًّا، وتلتبس لديها سبل المجرمين بسبيل المؤمنين، وتصغي بآذانها وقلوبها لشرذمةٍ من المجرمين والجهّال والمنافقين، وتشيح بوجوهها عن المصلحين النّاصحين.
لقد قصّ الله سبحانه علينا في كتابه قصّة قومٍ من المنافقين أرادوا خداع الرّسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، فبنوا مسجدًا بزعم أنّهم يريدون بذلك الخير والحسنى، فكذّبهم الله سبحانه وفضحهم، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107، 108] هذا وهو مسجدٌ، وقد بني للحسنى بزعم من بنوه، وقد نهى الله نبيّه عن القيام فيه، فكيف بأناسٍ مسخ الله وجوههم وقبّحها، يخرجون على النّاس في أخبث القنوات ببرامج يزعمون فيها أنّهم يريدون بيان الحقائق والإصلاح، وهم في الواقع ملبّسون ضالّون مضلّون، فالحذر الحذر أيّها المسلمون فإنّ الحقّ ظاهرٌ ومنصورٌ وإنْ ضعف أو خفي في بعض الأزمنة أو الأمكنة، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (رواه مسلمٌ وغيره).
اللّهمّ ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السّماوات والأرض عالم الغيب والشّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدنا لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنّك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.
عبد الله بن محمد البصري
- التصنيف:
- المصدر: