من الأساطير المؤسسة لليبرالية العربية

منذ 2014-02-17

كم من الأساطير التي صنعت أفكارًا، ووجهت جماعات، بل وشعوباً وأمماً إلى غير الوجهة الصحيحة، فقديما قادت الأساطير اليونانية والفارسية وغيرها من أساطير العالم القديم العالم إلى هوة سحيقة من الخرافات، وأودت بها في نهاية المطاف إلى عصور من التخلف والانحطاط.

 

كم من الأساطير التي صنعت أفكارا، ووجهت جماعات، بل وشعوباً وأمماً إلى غير الوجهة الصحيحة، فقديما قادت الأساطير اليونانية والفارسية وغيرها من أساطير العالم القديم العالم إلى هوة سحيقة من الخرافات، وأودت بها في نهاية المطاف إلى عصور من التخلف والانحطاط.

 

واليوم تعاد هذه الأساطير، لكنها بحلة جديدة، أنيقة، تناسب المكان والزمان، والعقل الحاضر، فهي أساطير عقلية، وخرافات منطقية، تتجاوز في مجملها هرطقات نظيراتها في الأمم القديمة، بل يمكننا القول أنها تقابل هذه الأساطير في المحتوى، لكنها تعادلها وتكاد أن تزيد من حيث الأثر الانحطاطي والغاية منها.

 

فأساطير اليوم كسابقتها تهدم أصول الدين، وتسعى بكل السبل إلى استعباد العقل البشري، وتحويله إلى رقم أو مادة أو ترس في آلة الأفكار الحداثية المادية، وتظهر هذه الأساطير بشكل جلي في فلسفات الغرب كالعلمانية والليبرالية والشيوعية..

 

ولليبرالية باعتبارها أرقى منتج حضاري غربي أساطير خاصة وأخرى عامة تتشارك فيها مع باقي الفلسفات الهدمية الحديثة، وفي مقالنا هذا سنطوف سريعاً على عدد من الأساطير أو التابوهات الفكرية والفرضيات المؤسسة لليبرالية العربية، والتي تذرع بها الليبرالي العربي، وآمن بها، حتى صارت من ثوابته العقلية ومسلماته التي لا يمكنه الانفكاك عنها.

 

* فالأسطورة الأكبر والكذبة الأولى التي يطالعنا بها العقل الليبرالي: ادعائه أن الليبرالية هي الضمان الوحيد لحصول الجميع على حرياتهم، ويدلل العقل العربي التابع على هذا الأمر بعدد من النماذج (الليبرالية الغربية)، زاعماً أنه لولا تبني هذه النماذج لقيم الليبرالية لما وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من حضارة وتقدم وازدهار على مختلف النواحي، مشيراً إلى بعض المجتمعات الغربية.

 

والليبرالي العربي وفق هذه الرؤية ينسى أو يتناسى النظرة المادية التي يتعامل بها الغرب مع الإنسان، وتغليب منطق القوة والمصلحة على كافة المثل والقيم، ثم إن صدق زعمه، فالحرية هناك ليست للجميع، بل يوجد بين أفراد هذا المجتمع من يتعرض لممارسات عنصرية، وفيما تلاقيه الأقليات الدينية والعرقية سيما المسلمين والعرب من تضييق واضطهاد أوضح دليل على هذا الأمر.

 

فقد ضاقت فرنسا بحجاب ترتديه المسلمة، فجعلت من مسألة قهر المسلمة وإذلالها قضية القضايا، وأم الحضارة، ودليل الأدلة على الرقي والتقدم، جعلوا من كبت الحرية حرية، ومن منع الآخر من ممارسة حقوقه المشروعة والشرعية برهاناً على رقي مجتمعهم، والأمر ذاته حصل في سويسرا في مسألة المآذن، ويتجلى هذا الأمر بشكل كبير فيما يعرف إعلاميا الآن بظاهرة "الإسلاموفوبيا".

 

ثم هل معنى هذا المذهب أن الدين والدين الإسلامي على وجه الخصوص لم يضمن الحريات ويوفر مجالات تنفيسها، وضمانات تحققها بالنسبة للفرد والجماعة بصفة عامة؟

 

حقيقة الأمر إن الإسلام حافظ على استحقاق الحرية دون إفراط فيه أو تفريط، ومع هذه المحافظة المنضبطة، حافظ في الوقت ذاته على حقوق الغير، وصان له حريته هو الآخر، لا كما تفعل بعض الديمقراطيات التي تتبنى المذهب الليبرالي وغيرها من المذاهب الغربية، التي ترى بعين واحدة، فلا ترى إلا ما يتوافق مع مذهبها ويؤيد فكرتها، ومن ثم فهذه الديمقراطيات لا تكفل الحرية إلا لمن يتفق أيدولوجيا معها.

 

وبصفة عامة " فالفكر الليبرالي يقوم على تأليه الإنسان وتقديس الفردية بصورة مطلقة بحيث تكون نزعات الإنسان وأهوائه هي المحدد الأوحد لسلوكه دون قيد من مبادئ أخلاقية أو ضوابط دينية، ومن ثم فمفهوم الحرية في الفكر الليبرالي العلماني يختلف عنه في الفكر الديني.

 

فالأولى أي الحرية الليبرالية تقوم على مبدأ الحقوق، بينما تقوم الثانية على مبدأ الواجبات، فالليبرالية في خلفيتها الفكرية تنحي "الله" بعيداً، وتجعل الإنسان وحده مركزاً لكل التفاعلات، ومن ثم فهي دائما ما تتكلم بلغة الحقوق" (مقال: سوروش: (الديمقراطية الدينية بديل الدولة الإسلامية) أحمد بركات. موقع أون إسلام).

 

* وفي الواقع العربي دائما ما يرتبط الحراك الليبرالي وما يتبناه من أفكار ليبرالية بفكرة الصدام مع الثابت الديني لتنشأ بذلك أسطورة أخرى تتبنى فكرة الصدام بين الدين (وهو هنا الإسلام على وجه الخصوص) ومنظومة الأفكار الليبرالية الداعية إلى الحرية المطلقة، غير المتقيدة بشرط المكان أو الزمان أو الظرف المجتمعي والمعتقد الديني المهيمن على أفراد المجتمع العربي المسلم.

 

ولهذا فـ"إشكالية الواقع الليبرالي في المجتمع العربي تتمثل في فقدان القدرة من قِبل أصحاب الفكر النهضوي التغريبي العربي على تقديم نموذج عربي لليبراليتهم المزعومة، بحيث تتماشي مع الشرط العربي "المسلم"، ولا تتصادم مع ثوابته ومعتقداته وأعرافه، وحتى يتم لهم هذا الأمر وهو أمر مستبعد بل مستحيل ستظل ثنائية (التنظير والتطبيق) تمثل الهاجس الأكبر والإشكالية الأهم لدى أصحاب الرؤية الليبرالية العربية" (مقال: الليبرالية والليبراليون العرب مقاربة نقدية، للكاتب).

 

فالليبراليون العرب اختاروا منذ اللحظة الأولى إعلان الحرب على قيم المجتمع المسلم وثوابته، ففي كتابات عامتهم تهجم صريح على مسلمات وثوابت ما كنا نتصور أن يطعن فيها أحد، وفيها أيضا اجترار لما كتبه الغربيون والمستشرقون بصفة خاصة عن الإسلام والمسلمين منذ مئات السنين حتى هذه اللحظة.

 

وبسبب هذا المنطق الاجتراري سار ليبرالي العرب على خطى نظرائهم في الغرب فهاجموا المسجد كما هاجم الآخرين كنسيتهم، وطعنوا في العلماء والمشايخ بل وفي نقلة الدين من لدن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا، كما طعن أقرانهم في الغرب ومؤسسو فكرتهم في قساوسة الكنيسة وكل من تاجر باسم الدين فاستغل الناس واستعبد عقولهم.

 

وعلى الرغم من اختلاف البيئتين (المسلمة، المسيحية)، وفقدان الحاجة إلى تكرار النموذج الغربي في بلدان المسلمين؛ لفقدان تسلط المسجد أو ادعاء امتلاك الحق الإلهي من قبل علماء المسلمين، بالرغم من هذا أصر ليبراليو الغرب والليبراليون العرب تبعاً لهم على خلق هذا الصراع المزعوم والمحموم بين الأفكار الليبرالية ومنظومة الأفكار الإسلامية، وأهمها قضية سيادة الشريعة وحاكميتها على حياة الفرد المسلم.

 

يقول الدكتور هاينر بيلافيلد في دراسة مختصرة له عنوانها "المسلمون في دولة القانون العلماني": "إن عملية تحرر الدولة من هيمنة تراتيبية الإكليروس والذي قاد في العصر الحديث إلى علمنة الدولة وقوانينها، لم تكن ضرورة في الإسلام، وبما أن الإسلام لا يعرف المشكلة المسيحية لهيمنة القساوسة، لا يتوجب عليه الأخذ بالحل المسيحي تجاه هذه المشكلة" (المسلمون في دولة القانون العلمانية‏:‏ جدلية المشاركة والاستبعاد‏.‏ هاينر بيلافيلد).

 

* ومن الأساطير التي تشترك فيها الليبرالية العربية مع غيرها من الفلسفات الغربية تمجيد العقل البشري وجعل سيادته فوق كل سيادة، سيما إن كانت سيادة دينية، فأرباب التيار الليبرالي لا يرون للدين حقاً في فرض سيادته وسلطانه على قوانين البشر ومعاملاتهم وعاداتهم، ويجعلون هذه السيادة قاصرة على ما يراه المجتمع (الدولة)، من قوانين وأعراف، فالدولة أو الأمة عندهم هي مصدر السلطات وإليها توكل مهام سن القوانين وتطبيقها على الجميع.

 

وهذا المبدأ في الأساس مبدأ كفري يصادم فكرة سيادة الشريعة والدين بصفة عامة، فمن أساطير العقل الليبرالي اللاعقلية اقتناعه بقدرات العقل البشري العاجز، مع تشكيكه في قدرات الوحي السماوي وطعنه في أحقيته بتدبير شؤون البشر، ليعارض بذلك المبدأ القرآني الصريح في مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].

 

فالعقل عند الليبرالي هو المحور الذي تدور حوله كل الأفكار الليبرالية، فما وافق عليه واتفق معه من أمور مُرِّر وقُبِل، وما خالف منطلقات هذا العقل من أمور كالغيبيات والأمور التي تحصر على وحي السماء رُفضت ونُحِّيت، وبذلك يختلف المنظور الإسلامي للعقل عن منظور دعاة الليبرالية، فللعقل في الإسلام مهام وإدراكات لا يمكن له أن يتعداها، وهي في الأساس ترتبط بالأمور الجزئية لا الأمور المطلقة التي يختص بها وحي السماء.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

رمضان الغنام

كاتب إسلامي مصري التحصيل العلمي: "باحث بالدكتوراه"، تخصص الدراسات الإسلامية، جامعة طنطا.

  • 1
  • 0
  • 4,823

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً