البشارة والتهنئة بالمولود
وفى تبادر المسلمين بين مُهنِّئ ومبشِّر بعضوٍ جديد في المجتمع المسلم خاصة والمجتمع الإنساني عامة، دون اعتبار بنوعه وجنسه، يكون هذا السلوك دافعًا قويًّا وحافزًا مُثيرًا في الإقبال على هذا المولود والإحسان إليه وقيام المجتمع بواجبه تجاهه من التربية والتقويم.
- التصنيفات: العقيقة وأحكام المولود -
(رؤية إسلامية تحليلية)
البِشارة بكسر الباء، الاسم من بشَّر، وهو: الخبر السارُّ الذى يؤثِّر في بَشَرة الوجه، والجمع بشارات وبشائر[1].
أما التهنئة فهي: المباركة للشخص بخيرٍ أصابه، خلاف التعزية، أو هي: مواجهة مَن أصابه خير بالسرور، مع الدعاء له بالاستمتاع بهذا الخير[2].
بقول ابن القيم: إن فاتته البشارة استحبَّ له التهنئة، والفرق بينهما أن البشارة إعلام له بما يَسرُّه، والتهنئة دعاء له بالخير فيه بعد أن علم به، ولهذا لما أنزَلَ الله توبة كعب بن مالك وصاحبَيه، ذهَبَ إليه البشير فبشَّره، فلما دخل المسجد جاء الناس فهنَّؤوه[3].
ولا جرم أن الأولاد هبة من الله تعالى يَمنحهم مَن يَشاء، ويَحجُبهم عمَّن يشاء، ويَسلبهم ممن يشاء، فهم عطيّة الله وفضله، يتفضَّل بهم على عباده، وأي فضل هو؟ إنه الإنسان الذي خلَق الله تعالى الأرض من أجله، وسخَّر الكون لخدمتِه، وأخرَج بسببه إبليس من رحمته، وجعَلَ بعض الملائكة لراحته، وفوق ذلك كله، فهو الذى نفخ فيه من روحه؛ ليكون له بذلك التكريم والتشريف على سائر المَخلوقات.
وترتيبًا على تلك المكانة وذلك الفضل؛ فقد وجَّه الله عباده إلى الاحتفاء بالإنسان الجديد؛ بأنه سبحانه وتعالى قد بشَّر بعض أنبيائه بقدوم أبنائهم، ولم يُرسل سبحانه وتعالى في ذلك الملك الموكَّل بالوحي فقط، كما يفعل في الرسائل الإلهية إلى الأرض، بل أرسل وفدًا من الملائكة لتتمَّ بهم البشارة ويَحصل المقصود، وهو غاية التكريم والتعظيم؛ قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]، وقال تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 7]، وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، وقال تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، وقال تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 51 - 56].
وفى التَّكرار السابق على هذا النحو في أكثر من مَوضِع، دلالة قوية على شرف هذا السلوك واستحبابه وفائدته العظيمة.
أما ما ورَد بخُصوص كيفية التهنئة وألفاظها، فقد نقل النووي في الأذكار، وابن القيم في التُّحفة عن الحسن البصري أن رجلاً جاء إليه، وعنده رجل قد وُلد له غلام، فقال له: يهنيك الفارس، فقال له الحسن: ما يدريك فارس هو أم حمار؟ قال: فكيف نقول؟ قال: قل: "بورك لك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلَغ أشدَّه، ورُزقت بِرَّه".
فلم تتعدَّ التهنئة الدعاء للمولود وللوالد أيضًا، وفى ذلك سموٌّ ورفعة عن التهاني الجاهلية ضيقة المعنى، أحادية الدلالة، وهذا هو سَمتُ الإسلام في كل شؤونه الاجتماعية، فهو يرجو بالدعاء ليس ثمة السرور فقط، بل ودوام الخير واستمراره، كذلك تأخذ التهنئة صفة العبادة، حين تأخذ أسلوب الدعاء، وهذا هو الذى يُكسِبها ميزة؛ حيث الإخلاص والتجرُّد.
ولما كان الترابُط الاجتماعي مقصدًا ساميًا من مقاصد وغايات الشريعة الإسلامية، فلم يكن لها أن تُهمِل هذا الحدث الجليل، دون استغلاله في تعميق هذه الغاية النبيلة التي يَبتغيها الإسلام للبَشريَّة جمعاء، فإنه وجَّه المسلم وحبَّب إليه مبادرة أخيه بالبشارة؛ إدخالاً للسرور عليه، فإن الإنسان بلا ريب يَستبشِر بمَن يُبشِّره بالأخبار الحسنة التي تسرُّه.
ويُشير المختصون النفسيُّون إلى أنَّ الإنسان يَربط في عقله الباطن بين الصور والأشياء أو الأشخاص باتجاه إيجابي أو سلبيٍّ على حسب الموقِف المُصاحِب، ويربط طبقًا لما سبق بين البشارة والمبشِّر بالخير والتفاؤل، وفى ذلك دافع كافٍ للمحبَّة والأُنس.
ومَن فاتته البشارة فلا زالت التهنئة والدعاء بالخير بديلاً، فهي مِن قبيل التعاون في الخير، والتفاعل الاجتماعي البنَّاء، ولها أثر معلوم في نبذ الحقد والكراهية من النفوس، وطرْح العداوة من القلوب إن أوغَلَ الشيطان بين القلوب؛ لأن الإنسان يأنِس ويألَف بمَن يُشاركه أفراحه وأتراحه ومَن يُبادِره بالخير والحُبور.
ومِن روافد هذا السلوك الاجتماعي القويم التطهُّر مِن شُحِّ النفس الذى حذَّرَنا الله ورسوله منه، وأنه أصلٌ لكل شرٍّ اجتماعي حاصل، فتمني الخير للآخرين مع الإخلاص والتجرد إطلاقٌ للنفس من الأثرة الممقوتة التي تجعل الإنسان أسير نفسه، لا يعبأ بمَن حوله، بل يتمنى لنفسه الخيرَ ولا يتمنَّاه للآخَرين.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نُوضِّح أن البشارة والتهنئة لا تقتصران على نوع دون آخر، بل الأمر يعمُّ الذكَر والأُنثى؛ قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، خلافًا لما كان عليه العرب في جاهليتِهم مِن التهنئة بالأنثى دون الذكَر بقولهم: "بالرفاء والبنين"، وفى ذلك انتصار للإنسانية، فالتكريم الحاصل يشمل كلا الجنسين، وكلاهما منوط بأدوار يؤديها لخدمة الإنسانية جميعًا، فالأفضلية في الإسلام لمن أدرك دوره في الحياة الدنيا وأدَّاه باقتدار على الوجه المَنوط به، أما ما يَحدُث في بعض المجتمعات المعاصرة من التفاؤل بجِنس على حساب الآخر فهو ردة جاهلية قد قهَرَها الإسلام ومحاها، وعودة لعصور بائسة عانت خلالها البشرية من تخلف وظلم وقهر، انتصَر الإسلام عليها ومحاها.
وفى تبادر المسلمين بين مُهنِّئ ومبشِّر بعضوٍ جديد في المجتمع المسلم خاصة والمجتمع الإنساني عامة، دون اعتبار بنوعه وجنسه، يكون هذا السلوك دافعًا قويًّا وحافزًا مُثيرًا في الإقبال على هذا المولود والإحسان إليه وقيام المجتمع بواجبه تجاهه من التربية والتقويم.
[1] معجم لغة الفقهاء، (1: 107).
[2] مرجع سابق، (1: 149) بتصرف يَسير.
[3] تُحفة المودود بأحكام المولود (ص: 20).