تلك الجماعة ليست هي المشكلة

منذ 2014-02-19

يعتصرني ألم كلما رأيت فئاماً من المتدينين الطيبين يدأبون على اجتراح الأخطاء بلا انتباه أو تفطن، وأظل أسأل نفسي، إذا كان "المؤمن كيسا فطنا"؛ فلماذا نقع في الحفرة ذاتها عشرات المرات؟!


يعتصرني ألم كلما رأيت فئاماً من المتدينين الطيبين يدأبون على اجتراح الأخطاء بلا انتباه أو تفطن، وأظل أسأل نفسي، إذا كان "المؤمن كيسا فطنا"؛ فلماذا نقع في الحفرة ذاتها عشرات المرات؟!

المشكلة العظمى هي في بساطتنا وقابليتنا الكبيرة للانخداع والاستدراج، والأمر لا يقتصر على من يتعاطفون مع العمل المسلح في سوريا أو غيرها، بل ينسحب على أنصار كثير من القوى التي تتخذ وسائل سلمية، دعوية أكانت أم سياسية؛ فالخديعة والتدليس والتلبيس كثيراً ما تمر حتى على بعض الوجهاء والمفكرين وقادة الرأي؛ فكم وضعوا أشخاصاً ومجموعات في مكانة لا يستحقونها.

مثلاً: مجموعة مسلحة ظهرت في سوريا، في توقيت ما دقيق، وأفسح لها المجال لكي تمثل الحالة الراديكالية التي تأسر قلوب الشباب الغض من شتى أنحاء العالم؛ فهي لا تقبل بأنصاف الحلول، في ظنهم، وهي لا ترضى من الأمور سوى بإقامة دولة الخلافة الراشدة.

ظهرت كما ظهرت في كل مكان من قبل، لا تقبل أن يكون لها شركاء، وفي فترة وجيزة يصبح كل ما يشاطرها بل يسبقها في الميدان مجرد "صحوات" أو "مرتدين" أو ما شابه، لأن هذا الاتجاه ليس تأبى عليه نفسه أن يخضع لأحد سواه فحسب، بل إنه يقوم بدوره المرسوم على أكمل وجه. فالمهمة دوماً هي تفريغ هذا المكان من المقاومة للمحتلين وغيرهم بطريقة مغايرة لتلك التي تتخذها الأطر النظامية والاعتيادية.

النمط السائد: جماعة "دولية"، طبعاً لأن الإسلام لا يعرف سايكس بيكو؛ فهذا يدغدغ مشاعر الشباب، لكنه في ذات الوقت يسمح بكافة أنواع الاختراقات؛ فاختلاف الأنساب والجنسيات يجعل من تلك المجموعات صيداً سهلاً للاختراق، وهذا مطلوب، وأيضاً يكبح كل وسائل اكتشاف الخونة والعملاء.

جماعة غامضة في قيادتها العليا؛ فكل ما سواها معروف، لكنها تتخذ المدن التي قدمت منها -أو ربما لم تقدم منها- عنواناً، وبالتالي يحيط بقياداتها هالات غامضة بحيث لا يمكن التحقق من تاريخ ومسار هذا القيادي بطرق "الجرح والتعديل" المعتادة، ثم يتطور الوضع فيصبح نسبته إلى هذه المدينة أو تلك مشكوكاً فيها بالأساس; وثمة حالات معروفة تنتسب إلى مدن ما كذباً، والتطور الأكبر حينما يصبح الانتساب للمدينة لا يعبر عن شخص بل عن قيادة (فيصبح أبو فلان النابلسي ـعلى سبيل المثل ـ كنية لكل من يتعاقب على المسمى من هذه المدينة! ولا يعبر عن شخص واحد حقيقة؛ فإذا ما قتل ورث غيره اسمه!).

لن أسترسل كثيراً في الملامح العامة، لكن بوجه عام، ليس الخلل دوماً في تلك المجموعات المخترقة، والتي تصدر في لحظة ما لغرض ما، ولا الشخصيات التي تحمل نفس السمات، بل فينا نحن! نعم، في كل من يتعاطى مع الظواهر والشخصيات والجماعات بقدر من السذاجة المفرطة. فلقد مر بالمسلمين تجربة الجزائر، وهي التجربة التي لم ترصد بالشكل الكافي ليس من الجهة التاريخية، وإنما من الناحية الفكرية الكاشفة لمسار ما يشابهها من تجارب.

فأكثر ما يسترعي الانتباه في المجموعات تلك أنها تأتي في لحظة محددة وفي مكان محدد له سمات معينة. مثلاً، لا تجد تلك المجموعات تختار الضفة الغربية لمحاربة النظام الصهيوني ولا حتى نظام أبو مازن التي تعتبره خارجاً عن دائرة الإسلام، بل تتزاحم في غزة! لماذا؟!

تترك المسلمين يذبحون في سوريا، ثم لمّا تتشكل فصائل تدافع عن الشعب السوري، تخرج. فإن خرجت زاحمتها في أماكن انتشارها، ولم تتطلع إلى مناطق أخرى إلا قليلاً! ثم يبدأ الطيبون في الفصائل من بعد ذلك في رصد الأماكن التي زاحموهم فيها، أو تلك التي أخليت لهم عن عمد، وبعضها هو من قبيل المناطق النفطية أو المائية الاستراتيجية أو نحوها! يفرح البسطاء ببعض العمليات التي تنفذها، لكنهم لا يفطنون إلى عدة ملاحظات حولها:


 

من يمول التفجيرات ذات الطبيعة المكلفة؟!


 

من يقدم الدعم اللوجيستي والاستخباري لها؟!


 

من هم الشباب الذين يزج بهم لتفجير ذواتهم تحديداً، ولماذا كلهم من فئة ما يسمونه بالمهاجرين؟!


 

ثم السؤال الأخطر:


 

من هو العميل بنظر الشباب؟! أهو ذاك الذي لا يحقق انتصارات مطلقاً ولا تبدو عليه أية أمارة للتدين والصلاح؟


 

بالطبع لا؛ فالعميل هو ذاك الذي تسمح له الجهة الداعمة بأن يحقق بعض نجاحات وتمنحه بعض الحرية في اتخاذ مواقف تبدو مستقلة، لأنه ببساطة لو لم يفعل لانتقل إلى خانة الأعداء الواضحين لا المنافقين والعملاء.

مثلاً، بعض الوعاظ الذين يجري "تلميعهم" وتصديرهم وإبرازهم حتى يطلق عليها بسطاء الشباب ألفاظ "الجبل" و"الأسد" و"العملاق" و"العالم"، هم أشخاص يختارون بعناية بحيث يحققون قدراً من الإبهار للطيبين، وأحياناً تجد أحدهم أو بعضهم "يتباكى" من دون دموع، وتسمع له نشيجاً ولا ترى ما يشعرك بخشوعه أو خوفه من الله حقيقة! كذلك، بعض من يتدثرون بدثار الواقعية والموضوعية من الشخصيات التي تنطلق من لافتة جيدة ربما في أصلها، وهي أن يتجنب الداعية أو الجماعات الصدام مع المجتمع، ثم يتكئ في ذلك إلى مفردات التنازل والتراجع وتمييع الثوابت، وأعني هنا الثوابت الحقيقية والأصول الدينية وليس ما يتوهم أنه ثوابت وأصول، وهو محض خلافات فرعية.

المسألة هنا لا تتعلق بمقدار ما يبثونه في نفوس المتلقين، لكن تتعلق بمدى قابليتنا نحن للخداع والاستغفال. هذا الأمر متكرر ومشاهد في كثير من البلاد وكثير من الحالات، والسبب فيه هو تلك التربية وذاك التأهيل الأعوج والأعرج الذي ينتج كثيراً من التشوهات في قطاعات ليست قليلة من المتدينين، تجعل البوصلة لديهم مهتزة، والرؤية يعتريها غبش وغيوم.

الكياسة إذن، والاتزان المعرفي والفكري والسلوكي، هي أبجديات لغة فهم النفوس والحركات والجماعات؛ فلا إفراط ولا تفريط، ولا مغالاة في مدح ولا ذم، وإنزال الناس منازلهم الحقيقية، لا الوهمية الخادعة. فهذا واعظ يذكرنا بالآخرة، لا بأس، لكنه ليس مخولاً أن يمسك بتلابيبنا لقيادتنا إلى رؤيته التي قد تكون قاصرة أو موجهة لحالة سياسية معقدة. وهذا يقاوم محتلين أو هكذا يبدو، لكنه ليس فقيهاً أو عالماً أو حتى خبيراً بشؤون التوجيه والاختراق. وهذا يبسط العلوم والمعارف الإسلامية لكنه ليس ملائماً سوى في ما يناسبه ولربما لا يناسبه شيء!

فلم تعد المشكلة فيما إذا اكتشف بعضنا فساد منهج هذا، أو شذوذ فكر ذاك، أو اختراق تلك، أو غباء هذه، أو رعونة هؤلاء... إنما المشكلة في ألا تتكون لدينا المعايير الحقيقية، وألا نمسك البوصلة الصالحة بطريقة صحيحة، لا تخدعها المظاهر، ولا تخيل عليها الألاعيب: هذا هو المحك، هذا هو السبيل.

 

  • 1
  • 0
  • 927

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً