من معالم الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيطالية بعد أفول نجم الإسلام عنها (1)
قد يظن البعض أن الوجود الإسلامي قد انْدَرَس من شبه الجزيرة الإيطالية بالكُلِّيَّة بعد إخراجهم من مَعاقِلهم الحَصِينة في جنوبها، وشمالها الغربي، ثم استيلاء النُّورمان على صِقِلِّيَّة، وليس ذلك بصواب، بل بَقِيَت لهم بَقِيَّة في قَلْب شِبْه الجزيرة الإيطالية، وكانت بالقُرْب من روما.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (35)
قد يظن البعض أن الوجود الإسلامي قد انْدَرَس من شبه الجزيرة الإيطالية بالكُلِّيَّة بعد إخراجهم من مَعاقِلهم الحَصِينة في جنوبها، وشمالها الغربي، ثم استيلاء النُّورمان على صِقِلِّيَّة، وليس ذلك بصواب، بل بَقِيَت لهم بَقِيَّة في قَلْب شِبْه الجزيرة الإيطالية، وكانت بالقُرْب من روما.
وإنما يعود ذلك لعِدَّة ظُرُوف تاريْخِيِّة قَدَّرَها اللهُ تعالى:
الأول: وقوع طائفة من غُزاة المسلمين الذين أَغاروا على رُوما في الأَسْر، والثاني: نَقْل الإمبراطور فريديك الثاني أُلوفًا من مُسْلِمي جَزيرة صِقِلِّيَّة إلى مدينة لوشيرة بإقليم بوليا، والثالث: اعتماد الملك المذكور وكان ملكًا على صِقِلِّيَّة وإيطاليا وألمانيا على المسلمين في جيشه.
أما الظَّرْف التاريخي الأول:
فقد قال أميرُ البَيان شكيب أرسلان[1] تعليقًا على خَبَر نقله عن المسيو رينو حول غزو المسلمين لموضع قرب روما[2] بقوله: الذي عَرَفْتُه في رومة من روايات بعض أُدَباء الطّليان، والمُطَّلِعِيْن منهم على التواريخ، أنه يوجد على مسافة أربعين كيلو متر من رومة قرية يُقال لها: سراسينشكو، أصل أهلها من المسلمين، كان سَلَفُهم غُزاة، وَقَعوا إلى تلك الأرض، وأحاط بهم الأهالي، فقتلوا جانبًا، واسْتَسْلَم لهم الباقون، وتَنَصَّروا[3]، وعَمَروا تلك القرية.
ويُقال: إن سَحَنَهم[4] لا تزال تدل على أصلهم العربي، وإن مَآكلهم، ومَشاربهم، وصَنْعَة الغِناء عندهم تدل على عُروبتهم، وحتى هذا اليوم تَراني أَتَرَقَّب الفُرصة؛ لمُشاهدة تلك القرية، والتَنْقيب عن صِحَّة ما سمعته. انتهى.
ولكنه ذكر في مكان آخر أن هؤلاء الذين تَوَطَّنوا قُرْب روما لم يَتَنَصَّروا، وإنما سكنوا تلك الأرض بعد وقوع صُلْح بينهم وبين الأهالي، عَقْب غَزْوهم لضَواحي، واجتماع الأهالي عليهم، مما أدى إلى انْحِصارهم في أحد المَواضع منها، رافضين الاستسلام.
قال في مجلة المنار(عدد شهر المحرم من عام 1342هـ). بعد أن وصف دخول المسلمين لروما بالاجتياح؛ ورد في التواريخ: أن العرب صَعَدوا إلى رومة من مَصَبِّ نهر التيبر، واجْتاحوا البَلْدة، وأخذوا من كنيسة مارِ بُطرس تابوتًا من فِضَّة، ولكنهم لم يستقروا برومة.
ثم إن العرب كانوا يختلفون إلى ضَواحي رومة، ويَشُنُّون الغارات فيها، وفي إحدى المِرار اجتمع عليهم الأهالي، فهزموهم، فخَلُص منهم فئةٌ إلى البحر، وفِئَةٌ اسْتؤصِلَت بالسيف، وفِئَةٌ من بقايا السُّيوف لاذت بمكان مَنيع هناك، ناضَلَت عن نفسها، وبَقِيَت تَحْمِي نفسها، إلى أن وَقَع الصُّلْح بينها وبين أهل البلاد.
ولأسباب مجهولة عندنا تفاصيلُها، تركوا تَوَطُّن تلك الأرض، فالآن على مسافة 40 كيلو متر من رومة، قرية اسمها (سارازينسكو) Sarrasinesco، من اسمها يُعْرَف أن أهلها أصلًا مسلمون؛ لأن (سارازينو) معناه مسلم كما لا يخفى[5]، وليس الدليل على كون أهل هذه القرية عربًا هو الاسم فقط، بل حَدَّثَني الكونت كولالتو، صاحب جريدة رومة الإيطالية التي تصدر بالقاهرة وهو من جِلَّة أُدباء الطليان وفُحول الكتاب أن أهالي قرية سارازينسكو هم إلى يومنا هذا حافظون عاداتهم العربية، ومَآكلهم العربية، ولا يزالون يَعْزِفون بآلات الطَّرَب العربية، مما لا يوجد عند قوم سواهم في إيطالية، وإن سَحْناتهم إلى هذا اليوم سَحْنات العرب، لا يَتَمارى في ذلك من رآهم. انتهى.
وأما الظَّرْف التاريخي الثاني:
فإنه يَتَمَثَّل في اعتماد الإمبراطور فريدريك الثاني على أولئك الجُنود المسلمين، وقد قال الأمير شكيب أرسلان في مجلة المنار(عدد المحرم 1342هـ) بعد أن تحدث عن غَزْو المسلمين لروما، وآثارهم الباقية هناك: يوجد آثارٌ للعرب فيما عدا رُومة من بَرِّ العُدْوَة الإيطالية، مثلًا بلدة لوشيرة بين نابلي وكالابرة، كان فيها الملك فريدريك هوشتافن الألماني في نحو السنة الألف والمائتين والخمسين للميلاد، وكان عنده عَسْكر من العرب نحو 20 ألفًا، وآثار مَساكنهم لا تزال إلى هذه الساعة،انتهى.
وقال في تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط (هامش. ص: [141]): يوجد آثارٌ عربية في لوشيرة بقرب نابلي، ولا يخفى أن الإمبراطور فريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا، وملك صِقِلِّيَّة - الذي عاش في أوائل القرن الثالث عشر المسيحي - كان عنده جيش من العرب، هم عُمْدَة قُوَّته، وكان مُتْقِنًا للُّغة العربية.
وسيأتي من كلام الحِمْيَرِي ما يُوَضِّح مَكانة أولئك الجُنود المسلمين عند الإمبراطور فريدرك الثاني، واعتماده الكبير عليهم، مع تَخَوُّفه في الوقت ذاته من قوتهم، وكثرة عددهم؛ فقد أراد بذَكائه السِّياسي أن يُوَظِّف إمكانات عَدوه التي تُخِيْفُه في خِدْمة مَصالحه.
ومن تَأمَّل في تَعْلِيل الحِمْيَرِي لإخراج فريدريك الثاني للمسلمين من صِقِلِّيَّة إلى لوشيرة، عَلِم مدى دَهاء ذلك الرجل السياسي، وهو أَمْرٌ عَرَفه به الدَّارِسون لشخصيته، الذين لم يَغْتَرُّوا بمَعْسُول قوله، ولا سِحْر فِعْله، كما اغْتَرَّ به الملك الكامل الأيوبي يوم أن سَلَّمه القُدْس بلا قتال، وكأنما سَحَرَه فريدريك بغير تَعاويذ، ولا تَمائم (انظر القصة في: الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل للعليمي [1/405-407]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط. هامش ص: [141]).
[2] كان المسيو رينو يتكلم عن اجتياح المسلمين لسواحل نيس، والبروفانس، وسيفتية فكشيا بقرب روما، انتقامًا من أَسْر كونت أمبورياس خمسمائة أسير مسلم، بعد عودة الجيش الذي كانوا فيه من غَزو جزيرة كورسيكا، وحيازتهم للغنائم والأسرى منها.
[3] لا يشك عاقل أن ذلك التَنَصُّر لو صح وقوعه بهذه الصورة كان تحت وقع الإكراه أخذًا بالرُّخْصة، ولا يُعْقَل أن مجاهدًا مسلمًا يقع في أسر أعدائه، يكون مستعدًا للتخلي عن دينه بمجرد الوقوع في الأسر، إلا على سبيل التقية، والمداراة، ولا ننسى ما كان يفعله النصارى في مُسْلِمي الأندلس؛ لإجبارهم الدخول في النصرانية الكاثوليكية، ولا شك أيضًا أن بقاء الأجيال تلو الأجيال تحت حكم الكفار مع العجز عن الهجرة إلى ديار الإسلام يؤول إلى نُشوء أجيال تتأقلم مع الأوضاع القائمة في البلاد التي نشأت فيها، ويتلاشى مع مرور الوقت استحضار حالة الإكراه، واستصحاب نية الهجرة إلى دار الإسلام، فيصير النسل نصرانيًا قُحًّا مع تعاقب الأزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[4] السَّحْنَةُ، والسَّحْناءُ، بسُكُون الحاء، وتَحْرِيكها في كليهما: لينُ البَشَرَةِ، والنَّعْمَةُ، والهَيْئَةُ، واللَّوْنُ. (انظر: تاج العروس [35/173]).
[5] كان النصارى الأوروبيون في العصور الوسطى يطلقون هذه التسمية على المسلمين، وقد اختلف في سبب تسميتهم المسلمين بذلك، ولكن الكلمة على كل حال لا تعني هذا المعنى أصالة. قال شكيب أرسلان عن لفظة سارازين في (هامش. ص:[15]) من كتاب (تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط) قيل: إنها أطلقت على العرب؛ لكونهم غالبًا سمر الألوان أشبه بالحِنْطة التي يُقال لها: سارازين، وقيل: بل هي مُحَرَّفة عن سراكنو، التي هي المسلمون بلغة الروم، وهذه مُحَرَّفة عن scharaka أي شرقي، أو شراقة، أي شرقيين بالجمع، وقد ذكر ابن بطوطة في رحلته أن ملك القسطنطينية سأل عنه: هل هو سراكنو؟ أي مسلم.