"إسرائيل" تستنفر في الفضاء الإلكتروني
لقد وصل الاهتمام بالحرب الإلكترونية في إسرائيل لدرجة إن هناك دعوات داخل المؤسسة الأمنية ولجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست إلى إعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي بلورت في مطلع خمسينات القرن الماضي لكي تتلائم مع الحرب في الفضاء الإلكتروني. وفيما يعتبر تطوراً هو الأول من نوعه في العالم، قررت "إسرائيل" تشدين تجمعاً يضم مؤسسات صناعية وبحثية تعنى بالفضاء الإلكتروني.
- التصنيفات: وسائل التكنولوجيا الحديثة -
لقد كان من اللافت أن قادة المستوى السياسي والنخب الأمنية في الكيان الصهيوني الذين تحدثوا أمام "مؤتمر أبحاث الأمن القومي"، الذي نظمه الأسبوع الماضي "مركز أبحاث الأمن القومي" التابع لجامعة "تل أبيب"، قد شددوا على أن الفضاء الإلكتروني بات يمثل أحد أهم مجالات القتال، التي يمكن أن تسهم في حسم المواجهات بين "إسرائيل" وأعدائها مستقبلاً. وابتداء من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ومروراً بأفيف كوخافي، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية وانتهاءاً برؤساء الشركات الاقتصادية، ركز قادة الكيان وجنرالاته وأرباب المرافق الاقتصادية على أن "إسرائيل" مطالبة من ناحية بتوظيف تفوقها على محيطها العربي في مجال الفضاء الإلكتروني لتعزيز قدراتها الهجومية وتحقيق إصابات تفضي إلى شلل الأطراف التي تواجهها في ساحة المعركة، وفي الوقت ذاته بناء إستراتيجيات دفاعية لتأمين الفضاء الإلكتروني الصهيوني وتحصينه في مواجهة هجمات محتملة. إن ما يثير الذعر في إسرائيل هو إن تتعرض لهجمة إلكترونية تستهدف بشكل مباشر مرافقها الإستراتيجية المرتبطة بالفضاء الإلكتروني، مثل البنى التحتية (الكهرباء والمياه والمواصلات، القطاع المصرفي)، وهيئات القيادة وشبكات التحكم العسكرية، والأقمار الصناعية، وكذلك مجمل التقنيات المتقدمة المرتبطة بهذا الفضاء.
- الفضاء الإلكتروني كساحة قتال
لقد تبين إن "إسرائيل" توظف الفضاء الإلكتروني في جهدها الحربي بشكل واضح وجلي لتحقيق أهداف إستراتيجية وتكتيكية. فلم يعد سراً إن إسرائيل تمكنت بالتعاون مع الولايات المتحدة من إعطاب أجهزة الطرد المركزي التي تعتمد عليها إيران في تخصيب اليورانيوم، وذلك عام 2009؛ وذلك عبر استخدام فيروس "Stuxnet". ولم يتردد وزير الحرب الإسرائيلي الحالي موشيه يعلون في الاعتراف بأن إسرائيل هي المسؤولة عن الهجمة الإلكترونية التي تعرضت لها منظومات حواسيب إيرانية حساسة في يونيو 2012، وذلك عبر استخدام فيروس (Flame). في الوقت ذاته، فقد أقدمت إسرائيل على التسلل إلكترونياً إلى منظومات التحكم المسؤولة عن توجيه الدفاعات الجوية السورية عشية الغارة التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية على المنشأة النووية السورية بالقرب من "دير الزور"، شمال شرق سوريا في أيلول 2006، وأبطلت عمل هذه المنظومات حتى تقلص فرص تعرض الطائرات المغيرة لنيران الدفاعات الجوية السورية. وبالإضافة إلى هذا النوع العنيف من الاستخدام، فإن هناك توظيف "ناعم" للحرب الإلكترونية تعكف عليه إسرائيل منذ سنين. فعناصر المخابرات الإسرائيلية يوظفون مواقع التواصل الاجتماعي في محاولاتهم لتجنيد عملاء عبر استخدام هويات مزيفة. وتؤكد المعطيات التي تقدمها الأجهزة الأمنية الفلسطينية إنه بالاستناد إلى التحقيقات التي أجريت مع أشخاص اعترفوا بالتعاون مع إسرائيل يتبين إن نسبة كبيرة من هؤلاء أسقطوا في براثن العمالة لصالح إسرائيل بعد إقامة علاقات افتراضية مع رجال مخابرات قدموا أنفسهم على إنهم فلسطينيون عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
- نقاط الضعف الصهيونية في الفضاء الإلكتروني
إن إسرائيل تنطلق من افتراض مفاده إنه كلما تعاظمت درجة توظيف التقنيات المتقدمة في تشغيل مرافق البنى التحتية والمؤسسات العسكرية والمدنية الحساسة، كلما زادت فرص انكشافها أمام الهجمات الإلكترونية "المعادية" التي قد لا تؤدي فقط إلى توقف عمل هذه المرافق وتلك المؤسسات مما ينتج عنه شلل الحياة في الكيان الصهيوني؛ بل يمكن أن تؤدي أيضاً إلى سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف المدنيين والعسكريين. ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى مثال بسيط يوضح حجم الأضرار التي تخشى إسرائيل تكبدها جراء هجوم إلكتروني يستهدف مرافق البنى التحتية لديها، ألا وهي الأضرار الناجمة عن مهاجمة هيئة التحكم المحوسبة التي تشغل نظام الإشارات المرورية فيها. فقد حذر أكثر من مسؤول إسرائيلي إن أي طرف معادي بإمكانه الولوج إلى وحدات التحكم الإلكتروني في نظام الإشارات المرورية يمكنه أن يتسبب في موت مئات الإسرائيليين في دقائق، حيث بإمكان هذا الطرف تغيير إعدادات هذه الوحدات، بحيث يتم تشغيل الأضواء الخضراء في نظام الإشارات المرورية في الاتجاهات المتعاكسة في الوقت نفسه، مما يعني سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى في حوادث طرق مؤكدة. إن الأضرار الناجمة عن مهاجمة هيئة التحكم المحوسبة التي تشغل نظام الإشارات المرورية تعتبر بسيطة مقارنة بالأضرار الناجمة عن استهداف مرافق أكثر حيوية. فعلى سبيل المثال تخشى إسرائيل أن تتمكن أطراف "معادية" من الولوج إلى هيئات التحكم المحوسبة في مطار بن غوريون والتسبب في حوادث تصادم بين الطائرات المقلعة أو الهابطة، أو التشويش على النظم التي تتحكم في مستوى ارتفاع الطائرات أثناء اقتلاعها أو طيرانها حتى تصطدم ببعضها البعض، أو جعلها تصطدم بعوائق طبيعية. وبوساطة الآلية ذاتها، بالإمكان المس بشكل جدي بتزويد الإسرائيليين بالكهرباء والماء وخدمات الاتصال المختلفة. وما ينطبق على المرافق المدنية يمكن أن ينطبق على المرافق العسكرية المختلفة التي توجه عبر هيئات تحكم محوسبة، وتحديداً مجمعات الصناعة العسكرية المختلفة. فعلى سبيل المثال تخشى إسرائيل أن يتم التشويش على نظام رقابة وتحكم في مصنع ينتج وسائل قتالية بشكل يؤدي إلى تفجيره، علاوة على التأثير على هيئات التحكم المرتبطة بوسائل الدفاع الجوي لكي تستهدف طائرات عسكرية أو مدنية تعود لإسرائيل نفسها. ويبلغ الفزع الصهيوني من النتائج "الكارثية" لحرب إلكترونية إلى حد الخوف من إمكانية أن تتمكن "الأطراف المعادية" من الوصول إلى النظم المحوسبة التي تشغل مصانع البتركيماويات، والتي يمكن أن تؤدي إلى حدوث تفاعلات غير مرغوب فيها ينتج عنها سحب من الغازات السامة التي تؤدي إلى عدد كبير من القتلى، فضلاً عن الكوارث البيئة التي يمكن أن تنتج عن ذلك. وقد كشف رئيس مجلس إدارة شركات الكهرباء القطرية الصهيونية الجنرال يفتاح رون طال النقاب عن أن محطة توليد الكهرباء التابعة للشركة تتعرض يومياً لهجمات إلكترونية يعادل تأثيرها تأثير صاروخين. وأوضح طال أن الهجمات الإلكترونية تمثل مصدر الخطر الرئيس على الشركة، منوهاً إلى أن قطاع إنتاج الطاقة في الشركة هو القطاع الأكثر عرضة للضرر جراء الهجمات الإلكترونية. وأكد طال أنه كلما زادت جودة التقنيات المتقدمة التي تعتمد عليها الشركة في إنتاج الطاقة كلما زادت فرصت إصابتها في الهجمات الإلكترونية.
- الأولوية للمقاتلين الإلكترونيين
حتى وقت قصير، كان الطيارون هم "رأس الحربة" للصهاينة، حيث كان الشعار الذي رفعه الإسرائيليون يقول: "الممتازون للطيران". لكن الأمور تغيرت الآن بشكل واضح، بعد اكتشاف الطاقة الهائلة الكامنة في الفضاء الإلكتروني، بحيث أن مؤسسات الكيان تحاول البحث عن ذوي الكفاءات في مجال الفضاء الإلكتروني. وقد وصل الأمر إلى حد أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية شرعت في الإشراف على تدريس مسافات تعليمية تعنى بالفضاء الإلكتروني في المدارس الإسرائيلية بغية تأهيل الطلاب للإسهام في الحرب الإلكترونية مستقبلاً سواء في المجال الهجومي أو الدفاعي. وكشفت قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة النقاب عن أن المساقات، التي تدرس في عشرات المدارس الإسرائيلية، أعدها ويشرف على تدريسها خبراء في مجال الفضاء الإلكتروني من الجيش والمخابرات الداخلية "الشاباك"، بالتعاون مع وزارة التعليم. وعرضت القناة تقريراً مصوراً تظهر فيه مهندسة من وحدة الحرب الإلكترونية في "الشاباك" وهي تقوم بمراقبة أنشطة طلاب يعكفون على التعامل مع برامج إلكترونية. وقالت المهندسة إن تدريس المساقات لا يهدف فقط إلى رفع وعي الطلاب الإلكتروني، بل أيضاً يمثل محاولة للعثور على الطلاب المتميزين في المجال الإلكتروني والاعتناء بهم وإعدادهم ليكونوا "مقاتلين إلكترونيين" في المستقبل. ويذكر أن كلاً من الجيش والمخابرات والشرطة الإسرائيلية قد دشنت وحدات للقتال الإلكتروني في غضون الأعوام الثلاثة الماضية.
- تحصين الفضاء الإلكتروني
إن إسرائيل التي تولي كل هذا الاهتمام في توظيف الحرب الإلكترونية في جهدها الحربي، تعي إنه من الممكن أن يتم استهدافها في يوم من الأيام بنفس الآليات التي تتبعها في الفضاء الإلكتروني. ولتلافي سيناريو الرعب، الذي تخشاه إسرائيل، والذي تمت الإشارة إليه سابقاً، فقد بلور الكيان الصهيوني إستراتيجية دفاعية شاملة في الفضاء الإلكتروني. ففي 18 مايو 2011 أعن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن تدشين ما يعرف بـ "الهيئة القومية للحرب الإلكترونية"، وهدفها الأساس اتخاذ الاستعدادات الدفاعية التي تمكن من حماية الفضاء الإلكتروني وحماية البنى التحتية والمرافق المدنية والعسكرية المرتبطة به. وحسب الإعلان، فإن الهدف من إقامة هذه الهيئة هو توسيع قدرات الدفاع في مواجهة حرب إلكترونية سواء التي تشن من قبل دول، أو منظمات. وتعتبر الهيئة مسؤولة عن جميع الأذرع العسكرية والمدنية المشاركة في هذا الجهد، وتعمل بتنسيق مع "السلطة الرسمية لحماية المعلومات"، التابعة لجهاز المخابرات الداخلية "الشاباك"، وشركة "تهيلا"، التي يوفر خدمة تصفح للوزارات والمؤسسات التابعة لها. إن القائمين على الهيئة يدركون إن التحدي الأبرز أمامهم يتمثل في تصميم منظومة دفاع إلكترونية متكاملة؛ مع العلم إن بلورة مثل هذه المنظومة يتطلب تنسيق وتعاون كامل بين المؤسسات المدنية والعسكرية، وذلك بخلاف ما يتعلق بالمجال الحربي التقليدي، الذي تنفرد بإدارته المؤسسة الأمنية. وتنطلق الهيئة الجديدة من افتراض مفاده إن التنسيق والتعاون بين المؤسسات الأمنية والمدنية أمر بالغ الأهمية لأنه من الصعب التمييز والتفريق في الفضاء الإلكتروني بين البنى التحتية العسكرية والمدنية. في الوقت ذاته، فإنه على الرغم من أن المؤسسة الأمنية هي التي توجه الحرب الإلكترونية ضد الأطراف الخارجية، إلا إنها تدرك إن تحسين القدرات الدفاعية يتطلب تعاون وتنسيق مع القطاع الخاص، سيما شركات التقنية المتقدمة، على اعتبار إن لديها قدرات وكفاءات كبيرة في مجال التعامل مع الفضاء الإلكتروني.
لقد وصل الاهتمام بالحرب الإلكترونية في إسرائيل لدرجة إن هناك دعوات داخل المؤسسة الأمنية ولجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست إلى إعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي بلورت في مطلع خمسينات القرن الماضي لكي تتلائم مع الحرب في الفضاء الإلكتروني. وفيما يعتبر تطوراً هو الأول من نوعه في العالم، قررت "إسرائيل" تشدين تجمعاً يضم مؤسسات صناعية وبحثية تعنى بالفضاء الإلكتروني، حيث سيضم مؤسسات صناعية تقوم على توظيف الفضاء الإلكترونية ومؤسسات بحثية، وهيئات أمنية تعنى بهذا المجال، علاوة على مؤسسات تعليمية لتأهيل خبراء وفنيين في مجال الفضاء الإلكتروني.
من أسف، في الوقت الذي تتداعي فيه "إسرائيل" لتوظيف الفضاء الإلكتروني لتحسين قدراتها على العدوان، تنشغل الأنظمة العربية في مواجهة شعوبها وقواها الحية وتقطع الليل بالنهار لإبقاء عوامل التخلف والانحطاط.
صالح النعامي