زواج الأب بعد رحيل الأم ... المشكلة والحل
لا شك أن موت الأم حدث جلل ومصاب أليم وفاجع، يحدث ارتباكا كبيرا في البيت والأسرة، ويصيب الجميع بحالة من الذهول والحيرة في كيفية استيعاب الحدث أو قبوله، سواء بالنسبة للأب أو الأبناء على حد سواء.
أما الأب فقد افتقد بموت الأم زوجته وشريكة حياته ورفيقة دربه الطوي، إليها كان يفضي إذا اشتدت عليه الحوالك وادلهمت به الخطوب، وبها كان يستعين ويعول إذا انتابته مصيبة أو ألم به كرب أو حزن، فهي الأقرب إلى روحه ونفسه.
- التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -
لا شك أن موت الأم حدث جلل ومصاب أليم وفاجع، يحدث ارتباكا كبيرا في البيت والأسرة، ويصيب الجميع بحالة من الذهول والحيرة في كيفية استيعاب الحدث أو قبوله، سواء بالنسبة للأب أو الأبناء على حد سواء.
أما الأب فقد افتقد بموت الأم زوجته وشريكة حياته ورفيقة دربه الطوي، إليها كان يفضي إذا اشتدت عليه الحوالك وادلهمت به الخطوب، وبها كان يستعين ويعول إذا انتابته مصيبة أو ألم به كرب أو حزن، فهي الأقرب إلى روحه ونفسه بعد أن اقترن بها بذلك العقد والميثاق الزوجي الإلهي المعجز، الذي قال الله تعالى عنه في محكم تنزيله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21].
وأما الأولاد فموت الأم بالنسبة لهم فقد للعطف والحنان الذي كان يغذي نفوسهم وقلوبهم، وانحسار للرعاية والعناية التي كانت تلاحقهم حتى في غرفة نومهم وعلى سررهم، وافتقار لليد الحانية التي كانت تلامس شغاف قلوبهم قبل أن تقع على رؤوسهم وأبدانهم، تلك اليد التي طالما مسحت دموعهم وخففت آلامهم، وطالما رفعت متضرعة داعية لهم آناء الليل وأطراف النهار، إنه باختصار فقدان لكل شيء يمت إلى الحب والعطف والحنان والرعاية بصلة، فكلمة الأم هي الكلمة التي تجمع في طيات حروفها القليلة جميع تلك المعاني العظيمة والجليلة.
ولكن إيمان الأسرة بالقضاء والقدر، ويقينهم أن الله تعالى لا يمكن أن يقضي بشيء إلا ويكون بين ثناياه الخير كل الخير، يخفف من وقع الحدث ويقلل من هول الفاجعة، ويجعل الأسرة تفيق من هول الصدمة وتصحو من أثر المصيبة، وتعلم أن الحياة لا بد أن تستمر، وأن ركب الأسرة لا بد أن يتابع المشوار، فهذا هو قانون الله تعالى الذي جعله ساريا على بني البشر في هذه الحياة الدنيا.
وبعد مدة من الزمان حيث يأخذ الحزن مداه ليصطدم أخيرا بواقع الحياة وصعوباتها التي لا تنتهي، يجد الأب نفسه قد أصبح مسؤولا عن تأمين المال اللازم للأولاد بالإضافة إلى رعاية شؤونهم وتدبير أمورهم داخل البيت، أضف إلى ذلك أعمال المنزل التي تحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل لا يملكه ولا يحسنه الأب عادة، ولا يمكن أن يقوم به على كل حال كما لو كانت الأم أوالمرأة هي من تقوم به، فهي الأقدر على ذلك لا حسب مهارتها واتقانها فحسب، بل حسب الطبيعة البشرية التي جعل الله تعالى فيها المرأة أقدر من الرجل على رعاية أمور البيت وتدبير شؤون الأطفال، والتي على أساسها كان التفريق بين الرجل والمرأة تفريق اختصاص لا انتقاص كما يقول العلماء.
عند هذه النقطة يبدأ الأب بالتفكير جديا بالزواج لمواصلة الحياة، وعندها فقط يمكن أن تظهر بعض المشكلات الاجتماعية والنفسية التي لا بد من مواجهتها وحلها بشكل سليم وصحيح، يتفق مع الأحكام الشرعية وينسجم مع الحياة الاجتماعية ويراعي الحالة النفسية للأولاد.
بداية لا بد من القول: إن زواج الأب بعد وفاة الأم أمر شرعي دون أدنى شك، سواء كان الأولاد صغارا أم كبارا، بل ربما يكون واجبا إذا كان الأولاد صغارا ولا يمكن رعايتهم بشكل صحيح إلا بالزواج، وذلك طبعا بغض النظر عن السن الذي بلغه ذلك الأب الذي يريد الزواج، ودعك مما تبثه وسائل الإعلام على شاشات التلفاز، التي تظهر الأب الذي يريد الزواج بعد وفاة الأم – خاصة إن كان كبيرا في السن وأولاده قد بلغوا سن الشباب - كأنه يرتكب جريمة أو يقترف منكرا اجتماعيا كبيرا، بينما تظهر الرجل الذي يرتكب الفاحشة كل يوم دون أن يتزوج بمظهر المضطر الذي لم يرد جرح مشاعر أولاده بالزواج بعد أمهم، فالإعلام في معظم البلاد العربية والإسلامية علماني مسموم، لا يمت إلى الإسلام وقواعده وأحكامه بأي صلة.
ومن المؤكد أن المشكلات التي يمكن أن تظهر في زواج الأب بعد وفاة الأم تختلف بين حالة كون الأولاد ما زالوا صغارا لم يتجاوزوا السادسة أو السابعة من العمر، وبين كون الأولاد في سن المراهقة أو تجاوزوها.
أما في الحالة الأولى فلا بد للأب أن يحتضن الأولاد في المرحلة الأولى بعد وفاة الأم، وأن يقوم بدور الأب والأم معا، فيغمرهم بحنانه وعطفه ولو كان ذلك ليس بالأمر اليسير، لأن الأطفال في هذا السن كما يقول علماء النفس يتأثرون كثيرا بموت الأم خاصة في الأشهر الأولى، فإذا ما استطاع الأب تعويضهم عن ذلك الحنان في تلك المرحلة فإنها خطوة في غاية الأهمية للتمهيد للزواج بعد ذلك.
وبعد اجتياز هذه المرحلة لا بد للأب أن يختار الزوجة المقربة إلى نفوس الأولاد وقلوبهم، وذلك إما باختيار إحدى النساء القريبات اللواتي لهن محبة ومودة في نفوس أولاده، مما يعوضهم عن أمهم، أو بتقريب الزوجة المختارة إلى نفوس الأولاد بالتدريج ليكون الزواج بعد ذلك مقبولا ومباركا من الأولاد.
ولا شك أن الأب لا بد أن يتمتع بعد كل ذلك بقدر كبير من الحكمة والعقل للفصل في المنازعات التي يمكن أن تحدث بين زوجة الأب والأولاد، خاصة في بداية الزواج، فالطفل لا يقبل بسهولة أن تحتل امرأة مكان أمه، وكلما كان الطفل صغيرا كلما تسارعت عملية الانسجام مع الحالة الجديدة وزوجة الأب شيئا فشيئا، وفي كل الأحوال فما لا يدرك كله لا يترك جله، فإن لم تكن زوجة الأب مكان الأم، فلا أقل من المودة والمحبة والانجذاب إليها بما يحقق استقرار البيت وسكينته.
أما المشكلة الأكبر فتكمن فيما إذا كان الأولاد قد بلغوا سن المراهقة أو تجاوزوها، ففي هذه المرحلة الخطيرة من العمر، يصعب على الأب إقناع الأولاد بمسألة الزواج لعدة أسباب وعوامل أهمها:
1- العامل النفسي الذي يلعب دورا كبيرا في رفض الأولاد لوجود امرأة أخرى تحل مكان أمهم في البيت، على اعتبار أنهم المدافعين عن حقوق أمهم بعد موتها، بحكم أنهم لم يعودوا صغارا ولا يمكن الضحك عليهم ببعض الكلمات كالأولاد الصغار، فقد بلغوا من السن ما يكفي للتصدي لأي محاولة من هذا النوع من قبل الأب.
2- العامل الفكري المتمثل في الصورة النفسية والاجتماعية القاتمة والقبيحة لزوجة الأب التي رسمت في أذهان الأولاد بشكل عام، وذلك من خلال وصفها دائما بالقسوة والأنانية والاستحواذ على الأب وحرمان الأبناء منه وقد قامت جميع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بطبع هذه الصورة في أذهان الناس، حتى غدت كأنها كتاب منزل أو عقيدة مقدسة لا يمكن أن تتغير أو تتبدل.
وأمام هذه العوائق لا بد من اتباع خطوات فعالة ومتسلسلة للوصول بالزواج والبيت إلى بر الأمان، ولعل جميع هذه الخطوات تقع على الأب الذي ينبغي أن لا يتخذ قرار الزواج دون مراعاتها وتطبيقها، تجنبا من الوقوع في متاهات العراك مع الأولاد التي لا يمكن أن تأتي بنتيجة، حتى ولو تم الزواج، لأن الأولاد ببساطة شديدة يمكن أن يحولوا هذا الزواج إلى جحيم لا يطاق عبر اختلاق المشكلات مع زوجة الأب، والتي تجعل الأب في النهاية يقع في حيرة بين أولاده من جهة وزوجته من جهة أخرى، وبالتالي يعيش في دوامة المشاكل التي لا تنتهي، ويكون الجو الأسري سيئا وغير صحي، ولعل من أهم الخطوات التي تقي من ذلك:
1- مد جسور المودة والمحبة بل والصداقة بين الأب وأولاده، من خلال التقرب منهم أكثر، ومناقشتهم ومحاورتهم في كثير من القضايا الاجتماعية والحياتية، والتمهيد الممنهج والمتدرج لصعوبة الحياة دون امرأة ترعى شؤون البيت والمنزل، لتكوين أرضية سليمة لتقبل الزواج فيما بعد.
2- حسن الاختيار لزوجة الأب لا على مستوى الدين والأخلاق فحسب، بل على المستوى الاجتماعي المناسب للبيت والأولاد، فالمرأة القريبة المحببة للأولاد أفضل من البعيدة، والمرأة التي تستطيع استيعاب الأولاد وتربيتهم كأن تكون ثيبا مثلا، أفضل من البكر الصغيرة التي ربما لا تحسن التعامل مع زوجها فضلا من أن تستطيع التعامل مع أولاده.
ولنا في قصة زواج الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه خير مثال على ذلك فقد كان شابا في مقتبل العمر، ورث عن والده الشهيد سبعة من البنات، فاختار لهن امرأة ثيبا ترعاهن كما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده « ».
فإذا كان الشاب الأعزب حديث السن اختار لنفسه زوجة ثيبا تستطيع جمع أخواته السبع وتربيتهن، وقد صوب الرسول صلى الله عليه وسلم فعله، فمن باب أولى أن يقوم الرجل الذي ماتت زوجته وله أولاد باختيار الزوجة المناسبة التي ترعى أولاده وتحسن إليهم.
3- أن يتمتع الأب بكثير من الحكمة والصبر، ليكون بذلك حلقة الوصل بين زوجته وأولاده، فلا هو يهدر حقوق أولاده، ولا هو يهضم حقوق زوجته، ولا بد أن يدرك أن مهمة زوجة الأب في نسج علاقة طيبة حسنة مع أولاده الذين بلغوا قدرا من البلوغ والنضج ليس بالأمر السهل، فعادة ما تتقدم الزوجة ويتأخرالأولاد، وعادة ما يكون الوصول إلى مودتهم ومحبتهم ليس بالأمر اليسير كما لو كان الأولاد أصغر سنا، فإذا أضفنا لذلك واجبات الزوجة تجاه الزوج والبيت فإن الأمر يزداد صعوبة وتعقيدا، مما يحتم على الأب أن يدعم الجانب النفسي لدى الزوجة من خلال حثها على الصبر والمصابرة للوصول إلى الهدف المنشود.
أخيرا لا بد من التنويه إلى أمر في غاية الخطورة، ولعله السبب الذي اضطرنا إلى كتابة هذه الكلمات وخوض هذا الموضوع، ألا وهو موضوع البيئة الثقافة الدينية الصحيحة لدى الأولاد بشكل خاص ولدى المجتمع بشكل عام، وإبعادهم عن مصادر التشويش والتخريب التي يمكن أن تعبث بها، خاصة المسلسلات والأفلام على وسائل الإعلام كافة.
لقد كان الرجل في عصور خلت ليست بعيدة -حيث البيئة الإسلامية والتربية الصحيحة- إذا ماتت زوجته تزوج من غيرها دون كل هذا العناء مع الأولاد، ودون كل هذه المقدمات والتمهيدات، وما مرد ذلك إلا لتلك البيئة والثقافة الإسلامية التي كانت سائدة، والتي ترى في الزواج أمرا طبيعيا يحتاجه كل رجل يفققد زوجته بغض النظر عن سنه وعمره، فالزواج ليس للرغبة الجنسية فحسب، كما أراد الغرب أن يصوره في أذهان شباب الأمة اليوم، بل حاجة نفسية اجتماعية فطرية كما أرادها الله تعالى، ما دام هذا الزواج في حدود الشريعة والدين.
أما في عصرنا الحاضر فقد شوهت صورة الزواج وحصرت غايته بالمتعة والشهوة، وشوهت صورة زوجة الأب لتصبح المرأة صاحبة القلب القاسي التي تريد أن تظلم الأولاد، وتأخذ الأب منهم، ولقد لعبت وسائل الإعلام دورا كبيرا وخطيرا في هذا الامر، مما جعل من أمر الزواج بعد موت الأم أمرا في غاية الصعوبة والتعقيد، فهل يعي الأباء حجم التأثير الخطير والكبير لوسائل الإعلام على أبنائنا وبناتنا ؟!!!
د. عامر الهوشان