نماذج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده , فهذا مقتطف من كتاب حتى لا تغرق السفينة للشيخ الدكتور سلمان العودة حفظه الله :
نماذج حية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه نماذج أخرى،
لعلنا نعي موطن القدوة والعبرة منها:
الأول: شيخ الإسلام ابن تيمية الذي استطاع أن يكسب قلوب الناس، بصدقه،
ونصحه، وبذله الجهد حتى في مصالح الناس الدنيوية. فقد كان-كما ذكر
الذهبي-يتعب في خدمة الناس ليلاً ونهارًا، سرا وجهارًا، بلسانه،
وقلمه، وذلك ببذل جاهه في دفع الظلم، ونفع الناس، وتحصيل مصالحهم، وما
شابه ذلك من وجوه الخدمة والنصح للمسلمين، بقدر ما يستطيع.
ومكانته الكبيرة في نفوس الناس جعلت له كلمة مسموعة، ولذلك كان يأمر
بالمعروف، وينهى عن المنكر، على المستوى الرفيع.
ومما يذكر في ذلك أنه ذهب إلى السلطان المملوكي في مصر، لما جاء التتر
إلى بلاد المسلمين، وقد رأى أن سلطان مصر أبطأ في المجيء إلى الشام،
فقال له، إن كنتم أعرضتم عن الشام وتركتموه، فإننا نجعل له من يحوطه
ويحنيه في زمن الخوف، ويستغله في زمن الأمن، ثم تلا قول الله تعالى:
{ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }
[محمد: 38]
وكان مما قاله له أيضاً: إنه لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه،
واستنصركم أهله، لوجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وملوكه، لا يسعكم
إلا الخروج!! فخرج السلطان إلى الشام، وخرج معه الناس.
وكان شيخ الإسلام يخرج مع الناس في المعارك، يثبت قلوبهم بالوعظ
والتذكير، حتى إنه كان يقول لهم: " إنكم منصورون.
فيقولون له: قل: إن شاء الله
فيقول: إن شاء الله تحقيقًا، لا تعليقاً.
وهكذا كان، فقد انتصر المسلمون بعون الله على التتر، وعلى هذا النحو
كان رحمه الله يعيش هموم الأمة على مستوى الأفراد، وعلى المستوى
الجماعي، فيؤثر في مسيرة الأمة، ويشاركها في جهادها وأفراحها
وأتراحها.
الثاني: العز بن عبد السلام، المعروف بسلطان العلماء، وله عدة مواقف
جليلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك موقفه مع سلطان
الديار المصرية، فقد خرج ذلك السلطان في يوم العيد في موكب عظيم،
والشرطة مصطفون على جوانب الطريق، وحاشيته يحيطون به، والأمراء يقبلون
الأرض بين يديه، والعز رحمه الله يرى ذلك، فنادى السلطان قائلاً: يا
أيوب! ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر تبيح
الخمور؟
فقال: أو يحدث هذا؟
فقال: نعم، في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر.
فقال السلطان: يا سيدي هذا أنا ما عملته، هذا من عهد أبي.
فهز العز بن عبد السلام رأسه وقال: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا
آباءنا على أمة؟!
فأصدر السلطان أمرًا بإبطال الحانة، ومنع بيع الخمور. وانتشر الخبر
بين الناس. ورجع العز إلى مجلس درسه، فجاءه أحد تلاميذه يقال له
(الباجي)، فسأله قائلاً: يا سيدي كيف الحال؟
فقال: يا بني رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه لئلا تكبر نفسه
فتؤذيه.
فقال: يا سيدي! أما خفته؟
فقال: والله يا بني لقد استحضرت عظمة الله تعالى، فصار السلطان أمامي
كالقط.
الثالث: المنذر بن سعيد البلوطي (سلطان الأندلس)، وله مواقف عجيبة،
منها الموقف التالي:
كان الخليفة عبد الرحمن الناصر كلف بالعمارة، وإقامة المعالم، وتشييد
الدور، ومن ذلك أنه بنى مدينة الزهراء، واستفرغ جهده في تنميقها،
وإتقان قصورها، وزخرفة مصانعها، حتى لقد ترتب على اهتمامه بذلك الأمر
وإشرافه عليه بنفسه أن تأخر عن صلاة الجمعة ثلاثة أسابيع متوالية، فلم
يصلها مع المنذر بن سعيد-وكان يتولى الخطابة والقضاء-فأراد المنذر أن
يعظ الخليفة، ويكسر من غروره، ويحاسبه على إنفاقه الأموال الطائلة في
التشييد والعمارة، وعلى انشغاله بذلك عن الإقبال على الله.
فلما كان يوم الجمعة، وحضر الخليفة، صعد المنذر المنبر، فبدأ الخطبة
بقول الله تعالى: { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ
رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا
تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
[الشعراء128-135].
واسترسل يقول: ولا تقولوا: { سَوَاء
عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ وَمَا
نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [الشعراء: 136-138].
{ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ
وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
}[النساء: 77]
ومضى يذم الإسراف في تشديد البناء، والعناية بالزخرف، بلهجة شديدة، ثم
تلى قول الله عزوجل: { أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ
أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي
نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لاَ
يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ
إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
[التوبة: 109-110]
وأتى بما يشاكل هذا المعنى، من التخويف بالموت وفجاءته، والتزهيد في
الدنيا والترغيب في الآخرة، وأسهب في ذلك، وأضاف إليه ما حضره من
الآيات القرآنية، والأحاديث، وآثار السلف، وأقوال الحكماء والشعراء
وغير ذلك، حتى بلغ التأثر بالناس مبلغه، وضجوا بالبكاء، وكان للخليفة
من ذلك نصيب كبير. إلا أنه وجد في نفسه على المنذر، وشكا إلى ولده
الحكم ما لقية من الشيخ، وقال: والله لقد تعمدني بالكلام، وقد أسرف
علي، وبالغ في تقريعي. وأقسم ألا يصلي وراءه مرة أخرى، وصار يصلي وراء
أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة.
هذه هي أقصى عقوبة كان بإمكانه أن ينزلها بالمنذرين سعيد، لأنه يعرف
له مكانته وقدره.
فرحم الله أولئك العلماء العاملين، الآمرين بالمعروف، الناهين عن
المنكر، غير خائفين في الله لومة لائم، أو جبروت حاكم.
إنهم قوم شعروا بثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم، فشمروا
لحملها.
وأيقنوا بحفظ الله لهم وتأييده إياهم، فيذلوا في سبيل إظهار دينه كل
ما يملكون، ونصحوا للأمة حق النصح، فلا عدمت أمثالهم الأمة، إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها.
من كتاب حتى لا تغرق السفينة
- التصنيف:
أبوحمزة الدمشقي
منذزين الدين
منذmobarez
منذ