مقدسات المسلمين تُسرق أو تهان
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
لا وجه للمقارنة بين الحضارة الإسلامية التي تستمد خصائصها وسماتها من الوحي الإلهي الذي نزل على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبين المدنية الغربية التي انسلخت من كل مبدأ أو خلق أو دين، بعد أن تم تحريف الدين النصراني فيها وحلت المادية والنفعية الملحدة محله.
ومهما بلغت المدنية الغربية من التقدم التقني والعلمي فإنها لا يمكن أن ترقى إلى مستوى لقب اسم (حضارة), نظرًا لخلوها من الجانب الروحي والإنساني والأخلاقي الذي لا بد من وجوده لاستكمال استحقاق ذلك اللقب, وهو ما تفتقده المدنية الغربية بكل المقاييس في وقتها الحالي, تماما كما افتقدته عبر تاريخ مدنيتها القصير.
لقد كان الهوان والإساءة والسرقة نصيب جميع المقدسات والآثار الحضارية الدينية والإنسانية التي خلفها المسلمون, وكان آخرها ما حصل لجامع قرطبة الحضاري الأثري الإسلامي المعروف, الذي يشغل مسطحًا طوله 180 مترًا وعرضه 135 مترًا، وتبلغ مساحته 24.300 متر مربع.
لقد استغلت أسقفية قرطبة وجود قانون يسمح بتسجيل ملكية المعابد بأثمان رمزية، وقامت في صمت بتسجيل الجامع الشهير في ملكيتها بـ 30 يورو في عام 2006 أي ما يعادل 36 دولارًا، وينتظر أن يتحول هذا المعلم التاريخي بشكل رسمي إلى ملكية الأسقفية في عام 2016 إذا لم يجر منع ذلك قانونًا.
وقد سارعت العديد من الهيئات المدنية والثقافية والإنسانية في إسبانيا- وفي مقدمتهم مسلمو إسبانيا- بالعمل على منع انتقال ملكية المسجد الشهير إلى الكنيسة الإسبانية بشكل نهائي، حيث يعتبرون أنفسهم أهلًا لاستعادة مآثر الأندلس ويطالبون بحق الصلاة في هذا المسجد التاريخي أسوة بحق المسيحيين بالصلاة فيه.
ورغم توجيه الهيئات المدنية المذكورة رسائل معززة بتوقيعات لأزيد من 80 ألفًا من مواطني الأندلس إلى كل من مؤسسة اليونسكو وإلى حكومة الأندلس؛ من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف محاولة تملك الكنيسة لمسجد قرطبة، محذرين من أنه إذا لم يجر التدخل قبل سنتين لمنع ذلك فسيصبح المسجد بشكل أبدي في ملكية الكنيسة, إلا أنه لم تقم أي دولة إسلامية بالتدخل جديًا لمنع حدوث ذلك.
لم تكن هذه السرقة أولى سرقات الغرب لمقدسات ومآثر المسلمين الحضارية، فقد تم سرقة الكثير من المعالم الحضارية الإسلامية منذ سقوط دولة بني الأحمر في غرناطة سنة 1492م، وخروج آخر ملوكهم أبو عبد الله الصغير منها نهائيًا وحتى الآن.
ولعل ما يفعله اليهود في فلسطين المحتلة لا يخرج عن هذا الإطار، فقد تمت سرقة الكثير من آثار القدس المحتلة والمسجد الأقصى، إضافة للحملة الشرسة التي يشنها الاحتلال الصهيوني في محاولة لتغيير معالم المدينة والمسجد الإسلاميين وصبغهمها بالصبغة اليهودية.
أما عن الإهانة والتدنيس فحدث ولا حرج، فلا ينسى التاريخ ما فعله أجداد الغرب الرومان في المسجد الأقصى حين كان تحت سيطرتهم قبل الفتح الإسلامي الأول له، حيث حولوه إلى إسطبل لخيولهم ومكانًا لإلقاء القمامة والقاذورات، حتى شمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن يديه لتنظيفه وإعادة قدسيته ومكانته التي يستحقها.
ولم يختلف حاضر أوربا الحديث عن ماضيهم المخزي في هذا الجانب، فكثير من المساجد في أوربا- التي ترفع شعارات حربة ممارسة الشعائر الدينية وحمايتها لجميع مواطنيها- يعتدى عليها وتهان، ناهيك عن سرقة مئات المخطوطات والآثار الإسلامية ذات الطابع الحضاري الإنساني.
وإذا كانت الفعاليات المدافعة عن مسجد قرطبة تسعى في الطعن في ملكية الكنيسة لمسجد قرطبة قبل متم عام 2016 م ليكون للجميع حسب القانون الدولي لأمثال هذه المقدسات والآثار، فإن آمال تحقق ذلك تبدو ضئيلة في ظل الاستهتار بتلك القوانين الوضعية وسيطرة الغرب عليها وانتهاكها المستمر لها.
ومن المعلوم أن تأسيس وبناء مسجد قرطبة- الذي كان يسمى قديمًا بجامع الحضرة أي جامع الخليفة- كان سنة 92 للهجرة بعد أن طوت خيل المسلمين أرض الأندلس مع القائد موسى بن نصير في خلافة عبد الملك بن مروان، حيث جعل الأمويون من قرطبة عاصمة لهم بالأندلس، وليس كما يظن البعض من أن بناءه لأول مرة كان في عهد عبد الرحمن الداخل، ويعد الجامع واحدًا من أروع ما أنشأ المسلمون من الأعمال المعمارية، ويقع هذا المسجد بالقرب من نهر الوادي الكبير، وتحيط به ومن جوانبه الأربعة أزقة ضيقة، وهو باعتراف مؤرخي العمارة الأوروبية قمة من قمم الفن المعماري العالمي على مر العصور، ودليل قاطع على براعة الأمويين في فن الهندسة والمعمار.
وبينما شاطر المسلمون المسيحيين كنيستهم العظمى بقرطبة، فبنوا في شطرهم مسجدًا وبقي الشطر الآخر للروم، إلى أن اشترى عبد الرحمن الداخل شطر الكنيسة العائد للروم سنة 170هـ بعدما ازدحمت المدينة بالمسلمين وجيوشهم، ليقوم الخلفاء من بعده بالعناية والاهتمام بهذا الصرح الحضاري الإسلامي الفريد حتى أضحى على شكله الأخير قبل سقوط غرناطة بيد الصليبيين، نجد ظلم النصارى للمسلمين ومقابلتهم الإحسان بالإساءة والجحود والطغيان، من خلال سرقة مسجد قرطبة.
والحقيقة أن الشكوى والاحتجاج لدى الجهات الدولية- رغم ضرورتها شكليًا- لا يعيد حقًا مغتصبًا ولا يمكن من خلالها استرداد ما ضاع من المقدسات، وإنما رجوع المسلمين إلى التمسك بدينهم، وامتلاك القوة بكافة أنواعها الاقتصادية والمادية ,هي الطريقة المجدية لذلك في هذا العصر الذي لا يفهم إلا هذه اللغة، فهل يدرك المسلمون ذلك؟!
عامر الهوشان