عقوبة القتل بين زجر القصاص ومواساة الدية
ومن أكثر ما شغب الغرب به على الإسلام، ومن ثمَّ تبعهم عليه أفراخهم الليبراليون (قضية الحدود): التي زعم هؤلاء قسوتها وإخلالها بحقوق الإنسان؛ وذلك لأن كلمة حقوق الإنسان عندهم إذا أطلقت فأول ما ينصرف إليه الذهن (الإنسان الزاني السكير) الذي يريدون حمايته من الحدود الرادعة في دين الله زاعمين أنه حر في جسده!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعندما يدور الحديث على أية قضية من قضايا الشريعة الإسلامية، ومدى تحقيقها لمصلحة العباد يختلط الحابل بالنابل، وتكثر الأقوال وتضطرب العقول؛ رغم بداهة المسألة فالخائضون في هذه المسألة:
- إما أن يكون مسلمًا يؤمن بالله ربًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، وبالقرآن هاديًا.
- وإما أن يكون كافرًا بدين الله.
أما الأول: فمقتضى إيمانه الجازم بصدق الرسالة والرسول والكتاب أن يوقن تمام اليقين بحسن الشرع وكماله، ووفائه بكل حاجات الناس؛ لأنه من عند الحكيم الخبير الذي وصفه قائلاً: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
وأما الكافر: فموقفه من قضايا تشريعية دقيقة يفتقر الناظر فيها إلى كثير من المعارف والتجارب الاجتماعية لا يقدم ولا يؤخر؛ لأن الخطاب إنما يتوجه إليه بداية فيما يتعلق بأمر الإلهية والرسالة؛ ليؤمن بالرب الواحد والإله الواحد؛ وليصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكل هذا عليه من الآيات البينات، والتي قد يكون منها حسن الشرع وكماله إلا أنه لا يلزم من ذلك تتبع آحاد القضايا التشريعية مع وجود الأدلة الفطرية والعقلية في أبواب الإلهية والرسالة.
ولكن نتيجة لإصرار الكفار على الحيدة عن مناقشة مسائل الاعتقاد التي يشعرون بعورهم الشديد فيها، ابتداءً من الملاحدة الذين يعجزون عن الإجابة عن سؤال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]؟!
وانتهاءً باليهود والنصارى الذين يعجزون عن الرد على ما وصفوا الله به من صفات النقص: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]، وما نسبوه إليه من الصاحبة والولد: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91].
ويزيد الطين بلة دخول أفراخ المستشرقين في الحلبة تحت مسميات مختلفة من (التنوير)، و(العلمانية) و(الليبرالية) وغيرها من المسميات الخلابة، وليجمعوا بين تكذيب القرآن والسنة، وبين الإصرار على ادعاء الإيمان حتى إن بعضهم كـ (نصر أبو زيد) واجهه علماء الأمة بكفره، وواجهه به القضاء وهو مازال مصرًا على الطعن في القرآن في ذات الوقت الذي يزعم فيه أنه مسلم!
وهذا (القمني) يتسول من المجتمع اعترافا بإسلامه دون أن يتوب من طعنه الصريح في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي نبوة عيسى عليه السلام واتهام مريم عليها السلام بالزنا، ومن عجيب الأمر أن تقف رموز نصرانية خلفه مع كل ذلك، وكأنهم من أجل سب الإسلام يتحملون سب المسيح وأمه عليهما السلام، كفانا الله شر الحقد إذا أعمى القلوب.
وهذا ما يحدث من كثير من الليبراليين الذين يطعنون على تشريعات الإسلام لا سيما الحدود باعتبارها وحشية، وغير آدمية، ومع هذا الكفر الصريح يصرون على الانتساب إلى الإسلام!!
وكان يكفي في المناظرة مع هؤلاء أن نسألهم: هل يؤمنون بالله ربًا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً؟!
فإن أجابوا: بنعم. قلنا لهم: فقد قال الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وإن قالوا: لا. قلنا: أولاً ينبغي عليكم أن تعلنوا ذلك للناس، ولا تغشوهم وتخدعوهم، ثم فالسبيل في مناقشتكم هو السبيل في مناقشة غيركم من الكفار فننظر في عقيدتكم في الله والرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، ونصحح لكم ما يحتاج إلى التصحيح من ذلك؛ عسى الله أن يفتح قلوبكم للإسلام.
ولما كان القوم يصرون على أنهم مسلمون علمانيون أي: مسلمون رافضون لشرع الإسلام، وربما طاعنين عليه مستهزئين به.
ومن باب إقامة الحجة ورد الشبهة وحفظ دين الأمة؛ فإننا نضطر في كثير من الأحيان إلى التنزل في مناقشة هؤلاء في قضايا من المفترض أن تكون بديهية بالنسبة للمسلم.
ومن أكثر ما شغب الغرب به على الإسلام، ومن ثمَّ تبعهم عليه أفراخهم الليبراليون (قضية الحدود): التي زعم هؤلاء قسوتها وإخلالها بحقوق الإنسان؛ وذلك لأن كلمة حقوق الإنسان عندهم إذا أطلقت فأول ما ينصرف إليه الذهن (الإنسان الزاني السكير) الذي يريدون حمايته من الحدود الرادعة في دين الله زاعمين أنه حر في جسده!
وهذا سيعود بنا إلى أصل القضية، وهي أنهم طالما لم يسلموا أنهم عبيد لله فلا يمكن أن نتفق على ما وراء ذلك، بيد أن القضية حتى على أصولهم تقتضي عقوبة رادعة؛ لأن شارب الخمر مصدر ضرر بالغ على الآخرين، ولذلك تجدهم يحاولون فرض العقوبة الزاجرة في حالات السكر (البين)، ومع ذلك لا تجدي هذه العقوبات، ومازالت قيادة السيارات تحت تأثير الخمر هي السبب الأول من أسباب الوفاة في أوروبا وأمريكا، وهم لا يدرون أن السكر البين لا يمكن الاحتراز منه إلا بتحريم جميع أنواع السكر.
والقوم يبالغون في الشفقة على السارق، ولا يرثون لحال من سرقهم! وربما ترك غنيهم فقيرًا، ومريضهم بلا دواء، وطفلهم بلا طعام! فالمهم يده المقطوعة؛ التي لا تقطع في دين الله إلا من معتدٍ على أموال الناس شريطة ألا يكون الناس قد ساعدوه على السرقة بالتقصير في حفظ الأموال، وإلا فلو قصر صاحب الشيء المسروق في حفظه لا تقطع يد السارق، وإنما يعزر بعقوبة تعزيرية.
ثم طرد هؤلاء قاعدتهم حتى في حالات القصاص مع أن القاتل هو الذي أزهق روح غيره، ولو تأمل هؤلاء في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، تلك الآية التي سحرت لب خصوم القرآن أنفسهم فأخجلتهم من الطعن عليها بطعنهم المعهود (القسوة)، فحاولوا نزع فضيلتها بادعاء أن القرآن قد سُبق بما هو أفصح منها، وهو قول العرب: "القتل أنفى للقتل"! مع أن هذه الكلمة لو ذكرت بعيدًا عن الآية لما أمكن فهمهما إلا على ما كانت العرب تفهمها من أن القتل سواء كان عدوانًا ابتداءً أم إسرافًا في رد العدوان أنه يحميهم من أن يقتلهم الآخرون.
والعبارة بهذه الصورة عبارة عصبية تهيج بها حماسة القبيلة على العدوان على القبائل الأخرى، بينما العبارة القرآنية تخاطب المجتمع ككل: أن العقاب المخصوص الذي يكون بحق، وهو ما كان قصاصًا "قص فيه المعاقِب أثر الجاني حذو القذة بالقذة" يوفر حياة كريمة للمجتمع ككل، وليست مجرد حمايته من القتل؛ فشملت رد العدوان بمثله في القتل وما دونه دون تعدي، وبيَّنت أن حياة الناس لا تستقيم بغير هذا.
وأمام هذه الروعة في المعنى، والإيجاز في اللفظ لم يملك القوم إلا التعلق بهذه الكلمة التي كانت ملقاة في (مزبلة قيم الجاهلية)، حتى إذا ما قرنت بالآية شفعت لها الآية في حمل كلمة (القتل) الأولى فيها على القصاص؛ لتكسبها شرفا لم يكن لها منه نصيب.
فلو تأمل القوم أن (القصاص حياة) ثم جالوا ببصرهم في مشارق الأرض ومغاربها، ووجدوا القتل، والهرج والمرج، الذي يكون عندما يغيب القصاص؛ لأيقنوا بخسارة قضيتيهم.
بيد أن بيت العنكبوت الذي يتمسك به هؤلاء هو زعمهم أن الاحتياط يقتضي عدم معاقبة الجاني بعقوبة يستحيل التراجع فيها إذا ثبتت براءته لاحقًا منها، وزعموا أن الأدلة قد تبدو مقنعة للقاضي، ثم يتبين فيها عورًا فيما بعد، حتى الاعتراف ذاته لم يقنعوا به، وقالوا: قد يتبين كذبه فيما بعد.
ومع أن هذه حالة نادرة جدًا إلا أن حلها في دين الله يتمثل في الإيمان باليوم الآخر حيث يستوفي في الآخرة كل ما كان في الدنيا، وأما أن تعطل مصالح العباد، وتهدد حياتهم، ويتلاعب بأمنهم من أجل هذه الحجة الواهية فهذا مما لا يصدر إلا من خبل في العقول، وحتى عند من لا يؤمن بالآخرة من هؤلاء فكان ينبغي عليه عقلاً أن يتحمل هذه المفسدة المتوهمة، ولا يفوِّت من أجلها مصالح العباد.
ومما يدل على تناقضهم أنهم كلما عظم الخطب اضطروا لأكل أصنام العجوة التي يصنعون؛ وإلا فحتى الدول التي ألغت عقوبة الإعدام ما زال عندها عقوبة الإعدام باقية في الخيانة العظمى، ولمجرمي الحرب، ولا ننسى طبعًا في هذا المجال المسلمين الذين يقتلون قتلاً جماعيًا رجالاً ونساءً وأطفالاً؛ لتقارير استخباراتية كاذبة عن أسلحة دمار شامل وهمية، وليس باعتراف تفصيلي أمام القاضي أو شهادة شهود.
ثم هل العقوبة البديلة التي يقترحونها في القتل وغيره تحل الإشكال؟! إن العقوبة المفضلة عند القوم هي السجن الذي تتناسب فترته في قوانينهم طرديًا مع عظم الجريمة.
فهل السجن يحقق لهم المصلحة ويدرأ ما توهموه من مفسدة؟!
السجن في كل بلاد العالم أصبح هو (جامعة الإجرام) حيث يجتمع فيه المجرمون من كل حدب وصوب يتبادلون فيه الخبرات، ويلقن السابق منهم اللاحق فنون الإجرام وسبله، وكم ممن دخل السجن وليس له إلا سابقة فخرج ليضيف إليها أخوات؟! وكم من انتقل بفضل السجن من هواة الإجرام إلى محترفيه؟!
ثم إن الأنظمة في طريقة إدارتها للسجون نوعان: نوع يبالغ في تدليل المسجونين حتى يصبح السجن أشبه لديهم بالمنتجع السياحي؛ فهؤلاء انتقلوا من تخفيف العقوبة إلى المكافأة على الجرائم؛ مما يزيد المجرم حرصًا عليه واشتهاء له.
ومنها: من يعامل المساجين بطريقة غير آدمية تملأ المسجون حقدًا على المجتمع بأسره؛ فيخرج بعاهة أكبر بكثير من التي دخل بها.
وإذا كانت فترة السجن طويلة فضلاً أن تكون مدى الحياة كما هي العقوبة التي يقترحونها بديلاً عن الإعدام في قضايا القتل العمد؛ فإن الإنسان الذي ما زال يشعر أنه إنسان يفضل الموت على حياة كهذه حتى تلك التي تكون في السجون ذوات الخمس نجوم.
إذن فالقصاص في جرائم الاعتداء على الآخرين هو العقوبة الوحيدة التي تمنع العدوان، وتزجر الجاني في ذات الوقت، وتحفظ له أدميته إذا لم تكن عقوبة جريمته القتل، كما أنها تعطيه فرصة كبيرة للتوبة إذا كانت عقوبته القتل؛ ليستريح من عذاب الآخرة، ومرة أخرى سيكون للإيمان باليوم الأخر من عدمه أثره البالغ في تقييم الأمور.
ثم إن الشرع قد أتى بجانب القصاص بـ (الدية)، وهي عقوبة أصلية في القتل الخطأ، وعقوبة بديلة في القتل العمد عند سقوط القصاص، ومن ذلك أن يسقطه أولياء الدم، ويرضوا بالدية أو بدونها، والأصل في مشروعية الدية في القتل الخطأ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92].
وتشريع الدية في القتل الخطأ يمثل الجمع بين مصلحتين:
1- تعظيم حرمة الدماء، وتغليظ شأن الاعتداء عليها ولو خطأ.
2 - العفو المقرر شرعًا عن غير المتعمد.
وقد أتت السنة بإلزام عاقلة الجاني (قبيلته) بالتضامن في دفع الدية معه على سبيل المواساة الواجبة، وذلك صيانة لدم المقتول أن يذهب هدرًا، ولدم الجاني أن يذهب قصاصًا، مع أن جنايته كانت خطأ فكان تحميلها لقبيلته الذين يستفيدون من وجوده عزة ومنعة؛ بالإضافة لما له عليهم من حق القرابة، ولا يتعارض ذلك مع قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام من الآية:164]؛ لأن تلك المبالغ التي ستغرمها العاقلة تكليف شرعي جعل الله له سببًا، وهو جناية وليهم، كما جعل إعسار القريب سببًا لوجوب نفقته على قريبه، وأما إذا كان القاتل لا عاقلة له فديته على بيت المال على الصحيح.
ثم إن الشرع قد جعل الدية عقوبة بديلة في حالة القتل العمد إذا فضَّل أولياء المقتول ذلك، قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَة} [البقرة:178].
وفي هذه الحالة تكون على القاتل دون العاقلة إلا أن يطوعوا بذلك؛ لأن أولياء الدم عندهم البديل الآخر، وهو القصاص.
ومن الجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن قانون العقوبات وإن كان قد نص على عقوبة القصاص وسط مطالب غربية بإلغائه إلا أنه خالف الشريعة في عدة أمور:
الأول: أنه اشترط لتطبيق هذه العقوبة في جرائم القتل العمد شرطًا آخر ما أنزل الله به من سلطان وهو: (سبق الإصرار والترصد)، وهو شرط لا يمكن إثباته بسهولة مما ترتب عليه أن يكون الحكم في معظم قضايا القتل العمد بالسجن فيكون الجاني في سجنه في حراسة سجانه، فلا يجد أولياء المقتول إلا القتل العشوائي، وهم وإن كانوا في ذلك ظالمين إلا أن الذي منعهم من حقهم الشرعي في القصاص مشارك لهم في الظلم إن لم يكن أظلم.
الثاني: وإذا كان القانون قد جار على حق أولياء الدم لما اشترط شرط: (سبق الإصرار والترصد)؛ فإنه قد عاد وجار على المتهم لما منعه من فرصة وصفها الله بأنها تخفيف، وهي دفع الدية إن رضي بها أولياؤه؛ وذلك لأن القانون قد غلب حق المجتمع (يقابله في الاصطلاح الإسلامي حق الله) على حق أولياء الدم في قضايا القتل العمد.
ومن عجيب تناقضات هذا القانون اعتباره الزنا الذي يحطم المجتمعات لا يكون جريمة إلا في حق المتزوجة، ويكون جريمة في حق الزوج له أن يسقطها، في الوقت الذي يغلب جانب المجتمع في جريمة القتل، والفرق بين الأمرين ظاهر؛ ذلك أن الزنا جريمة فيها شهوة وهوى، والزنا متى استعلن به صاحبه حتى شهد به الشهود فقد صار وباء لابد من اجتثاثه.
وأما القتل فلا يتحول إلى شهوة إلا في حالات شاذة، وهذه تأخذ في الشرع حكمًا مغلظًا؛ لأنها غالبًا ما تؤول بصاحبها إلى أن ينطبق عليه شروط الحرابة التي تعتبر جريمة في حق المجتمع، وأما في حالة قيام شخص بقتل آخر ولا يكون هذا إلا لخصومة ولجاجة؛ فإن الشرع قد خير المتضرر الأكبر من الجريمة بين أن يقتص، وبين أن يأخذ دية من الممكن أن تزيد على الدية المقررة في حالة القتل الخطأ حسب اتفاق الطرفين.
الثالث: إن القانون في حالة القتل الخطأ لم يعط الدية لأولياء المقتول، ولكن حكم لهم بتعويض مدني غالبًا ما تكون قيمته أقل بكثير من الدية الشرعية مما دعا الكثيرين إلى المناداة بتقرير مبدأ: (الدية الشرعية)، وغني عن الذكر وجوب تطبيق شرع الله كاملاً.
الرابع: إن القانون عندما شرع (التعويض) في قضايا القتل الخطأ استعمل القاعدة القانونية الشهيرة: "الدفع أو الحبس"، وهي كما ترى حل لا يفيد أولياء القتيل، ويضر القاتل قتلاً خطأ في دينه وعرضه؛ لا سيما إذا ضممنا إلى هذا الضيق البالغ الذي يواجه من سبق له السجن من المجتمع ككل.
ومن الجدير بالذكر أيضًا: أن منظمات حقوق الإنسان وجدت في حل الدية في جرائم القتل العمد حلاً لجهودها لإلغاء عقوبة الإعدام كما حدث في "اليمن" الشهر الماضي عندما تدخلت "منظمة العفو الدولية" و"منظمة هيومان رايتس ووتش"، ومؤسسة "علاو للمحاماة"؛ لمنع تنفيذ القصاص في امرأة يمنية قتلت زوجها، وناشدت المسئولين إقناع أبناءها بقبول الدية إلا أن أبناءها تمسكوا بإعدامها كما تناقلت ذلك وكالات الأنباء [1].
ومع أن تشريع الدية لا يسلم من طعنهم وإن لجأوا إليه من باب أنه أهون من الإعدام إلا أنهم لا يرضون إلا باتباع ملتهم بحذافيرها، فهم يريدون إلغاء القصاص والدية جميعًا؛ ليشرع بدلاً منهما السجن في حالة القتل العمد، والتعويض أو السجن في حالة القتل الخطأ.
وقد يتنزل هؤلاء فيقبلون تشريع الدية في حالة القتل العمد على مضض شريطة أن يلغى القصاص نهائيًا، وهذا من الجور على حق أولياء الدم الذي أعطاه الله لهم وإن كان قد رغبهم في العفو، ولم يلزمهم به فسواء كان عفوًا شاملاً أم عفوًا مع قبول الدية فكيف يتسنى لأحد أن ينزع منهم حقًا جعله الله لهم شفاءً لصدورهم من قتل وليهم واستبداله بخيار آخر به لم يشرعه الله إلا بإذنهم؟!
الذي نخلص به من ذلك: أن خيار الدية في حالة القتل العمد بالنسبة للغرب وأفراخه خيارًا قد لا يكون مقبولاً، ولكنه ليس مرفوضًا بنسبة مائة بالمائة.
وقد تركزت اعتراضاتهم على الدية في النقاط الآتية:
1- زعمهم أن هذا يشجع على انتشار القتل، وعلى حد تعبير أحد رجال القضاء: "نخاف أن نعود إلى عصر: اللي تعرف ديته اقتله واستريح منه".
2- زعمهم أن تشريع الدية يؤدي إلى الفرق بين الغني والفقير في العقوبة، فيسلم الغني من القتل بدفع الدية، ولا يبقى أمام الفقير إلا القصاص.
وللإجابة على شبهتهم الأولى:
نسألهم ابتداءً: وهل سلمت قوانينكم من ذلك؟! أليس السجن "دية" معلومة تدفع، فيأتي من يبيت النية لقتل آخر، ويفتعل مشاجرة مع خصمه؛ لينتفي عنه شرط: "سبق الإصرار والترصد"؛ ليأخذ حكمًا بالسجن يمكن إذا عرف مفاتيح "السجن" أن يكون أشبه بنزهة؟!
ثم ألا تخرج السجون محترفي سجن يُستأجرون للمشاجرات مع المراد قتله دون أدنى صلة بين الطرفين لتنتهي بقتل البريء، والحكم على "الأجير" بالسجن الذي احترفه؟!
أما مسألة الفرق بين الغني والفقير: فلا يكاد يوجد غني يضطر إلى القيام بجرائمه بنفسه، وكم من محترف للقتل بالوكالة لا سيما مع وجود شرط: "سبق الإصرار والترصد" في القتل العمد، ومع ضآلة التعويض الذي يحكم به في قضايا القتل الخطأ.
ثم إن المعترض على تشريع الدية في حالة القتل العمد ينسى أو يتناسى أنه لا يكون إلا عن رضى من أولياء الدم، وهم أدرى بالأحوال التي أدت إلى حادثة القتل، ولو كان السبب خلافًا على مال أو نحوه فإنهم غالبًا ما لا يرضون بدونه مضاعفًا مما يبقي جانب العقوبة والزجر باقيًا في حق المتهم، ويبقي له فرصة في الحياة طالما رضي أولياء الدم، وذهب حر قلوبهم بقبولهم للدية.
وقد قدمنا حادثة المرأة التي رفض أبنائها العفو عنها في قتلها لأبيهم مع أن عائلتها كانت على استعداد تام لدفع الدية، ومع أنها أمهم! لعلهم شعروا منها بالغدر والخيانة.
كما يتناسى هؤلاء أن إدمان القتل يدخل صاحبه في نطاق الحرابة، وتبقى الدية خيار مطروح لأولياء الدم في حالات القتل الفردية؛ ليأخذوا بخير النظرين، فلا يمكن أن تكون الدية وسيلة لانتشار القتل، بل غالبًا ما يطلب أولياء المقتول دية تمثل أكثر مما يطيقه القاتل فيبقى طوال عمره عبرة لمن تسول له نفسه أن يحل خلافاته عن طريق القتل؛ بينما ينتفع بها أولياء المقتول.
وما ذكرناه عن شبهتهم الأولى نذكره عن الشبهة الثانية وهي: "شبهة التفريق بين الغني والفقير"، والسؤال: ألا يوجد عندهم فرق بين الغني والفقير؟! بل إنهم يعرِّضون الفقير الذي وقع منه القتل الخطأ إلى السجن مع المجرمين لعجزه عن دفع التعويض، ولا يدفعونه عنه من الميزانية العامة!!
ففي قضايا القتل الخطأ عندهم يملك الغني أن يدفع بينما لا يجد الفقير "وهو في قضية القتل الخطأ غير مجرم" غير الحبس، ذلك أنهم يرون أن ترك الفعل وإن كان خطأ بلا عقاب قد يؤدي إلى التساهل به، وهو أمر صحيح في ذاته، ولكنهم لم يأخذوا بالهدي الشرعي في جعل الدية على العاقلة.
وفي الشرع في قضايا القتل العمد يملك "الجاني" الغني أمرين قابلين للاقتصاص منهما: "نفسه، وماله"، وقد خير الشرع أولياء الدم بين هذا وذاك مع العلم بأن عقوبة الغني في ماله تكون مؤلمة؛ فإن الغني قلما يقتل إلا من أجل المال [2]، وأما "الجاني" الفقير فلا يملك إلا نفسه، ولابد من عقوبة فلم يبقى إلا هي.
إن المعترض على هذا الأمر فكأنه يعترض على وجود الفقر والغنى كمبدأ؛ فإن الغني يملك فرصة استثمار ماله وتوظيفه، وهي فرصة لا يملكها الفقير، وكذلك في حالة تعدي كل منهما على الغير فتوجد لدى الغني فرصة عقوبة غير موجودة لدى الفقير، ولكن هذا لا يخرجها عن حد العقوبة، لا سيما وأنها تجمع إلى معنى عقوبة الجاني مواساة المجني عليه.
وأما الظلم فهو ألا يعاقب الجاني إذا كان شريفًا أو تخفف عنه العقوبة مراعاة لغناه أو شرفه، وأما الدية فهي عدول عن عقوبة إلى أخرى هي أنفع للمجني عليه فهي تحقق العدل والرحمة معًا؛ لذلك قال تعالى: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَة، وجاءت الرحمة هنا نكرة لتدل على أنها رحمة بالمجتمع كله، فهل هؤلاء أرحم بنا من ربنا؟!
بيد أن القضية عند وضعها على محكها الحقيقي سنجد أن الأمر أهون بكثير مما يتصورون؛ لأن حجر الزاوية ليس غنى الجاني من عدمه، ولكن حجر الزاوية في أمرين:
الأول: عدم وجود مانع شرعي من قبول الدية؛ كأن يكون القتل تم بصورة تدخله تحت طائلة الحرابة.
الثاني: رضا أولياء المقتول بالدية.
وفي البلاد التي تطبق الشرع في باب العقوبات لا يكاد يقتص من أحد لعدم قدرته على دفع الدية، وإنما يكون القصاص لرفض أولياء المقتول، وأما إذا وافقوا مع فقر الجاني فغالبًا ما تقوم بذلك جمعيات خيرية لا سيما إذا غلب على ظنهم توبة الجاني وصلاحيته لمواصلة دوره في المجتمع.
فيجب أن يحذر كل من تسول له نفسه الاعتراض على حكم الشرع من مغبة ذلك، وإلا فالاعتراض على أحكام الله هو النفاق الأكبر والعياذ بالله؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء:60].
وقد قدمنا لك أن الخائض في هذه القضايا: إن كان مؤمنًا فينبغي أن يحمله إيمانه على التسليم لشرع الله، وإن كان كافرًا فعليه أن يكف عنا لسانه، ويكف عن الخوض فيما لا يعنيه، وأما حالة المؤمن المعترض على الشرع التي يصر عليها كثير من دعاة الليبرالية؛ فهؤلاء ممن قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104].
1- جريدة الوطن السعودية عدد 2042009:
http://www.alwatan.com.sa/news/newsdetail....1&groupID=0
2- ثارت هذه الزوبعة حول القصاص والدية بسبب قضية شهيرة اتهم فيها رجل أعمال بالتحريض على قتل فنانة، وعلى ما ذكر في وقائع القضية أن دافع القتل كان الانتقام من المجني عليها؛ لكونها أخذت أموال الجاني على وعد بالزواج منه ثم فرت.
ودار كلام حول استعداده لدفع الدية، وثار جدل واسع؛ فأنصاره أثاروا الكلام حول إلغاء عقوبة الإعدام، وأنصارها طعنوا على تشريع الدية.
وقد كتبنا هذا المقال؛ لتوضيح الحقائق الشرعية، وليس للخوض في هذه القضية بعينها؛ لأنه ليس من شأننا، ولو في مقدورنا التحقيق في هذه القضية ومعرفة الصادق من الكاذب إلا أننا نود أن نشير إلى أن القدر المتفق عليه بين أطراف هذه القضية يدينهم جميعًا بمخالفة شرع الله، وعدم الالتزام به في جوانب متعددة، وكانت الثمرة الخبيثة هي تلك الحادثة التي يتقاذف جميع الأطراف التهمة بها.
وهذه النقطة تنبهنا إلى أحد أهم ما تتميز به الشريعة وهي أنها من عند الله، وأنها ثابتة لا يملك أحد تغييرها، فعند تطبيقها لا يملك أحد أن يوجه الرأي العام أو مجالس تشريع لتعديل القوانين؛ لتلائم فرد على حساب آخر في قضية جزئية.
"عندما يحكم الشرع يشعر الجميع أن هناك سيد واحد في الكون، وليس أسياد متنازعون بين سلطة، ومال، وجمال"! ولعل هذا بعض ما أومأ إليه قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ الأعراف:54، وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [يوسف:40].
عبد المنعم الشحات
أحد المشايخ البارزين بمسجد أولياء الرحمن بالاسكندرية للدعوة السلفية و منهجه منهج أهل السنة و الجماعه و سلف الأمة من الصحابة و التابعين لهم باحسان
- التصنيف:
- المصدر: