دخول المغول في الإسلام
راغب السرجاني
يتبادر إلى ذهن الكثير من الناس عند ذكر التتار أو المغول جميع الصفات التي لا تمت للإنسانية بصلة، من وحشية وقسوة وإبادة وقضاء على الأخضر واليابس؛ وذلك لما بدر منهم في البداية، عندما اجتاحوا العالم الإسلامي بجيوشهم الجرارة حتى ظن الكثير من الناس في ذلك الوقت أن نهاية المسلمين قد بدأت، وأن الفناء في انتظارهم، وكتب الكثير من علماء المسلمين ومؤرخيهم يرثون العالم الإسلامي عاجزين عن الوصف والتعبير عما يحدث
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
تاريخ المغول المسلمين
يتبادر إلى ذهن الكثير من الناس عند ذكر التتار أو المغول جميع الصفات التي لا تمت للإنسانية بصلة، من وحشية وقسوة وإبادة وقضاء على الأخضر واليابس؛ وذلك لما بدر منهم في البداية، عندما اجتاحوا العالم الإسلامي بجيوشهم الجرارة حتى ظن الكثير من الناس في ذلك الوقت أن نهاية المسلمين قد بدأت، وأن الفناء في انتظارهم، وكتب الكثير من علماء المسلمين ومؤرخيهم يرثون العالم الإسلامي عاجزين عن الوصف والتعبير عما يحدث (راجع وصف ابن كثير في نهاية الدولة العباسية).
أصل المغول
يعود أصلهم إلى صحراء غوبي بأطراف بلاد الصين الشمالية، وهم قبائل رعوية تعبد الأوثان والكواكب وتسجد للشمس عند شروقها، وتنتشر عندهم ديانة يطلق عليها الشامانية ويقدسون أرواح الأجداد ويقدمون القرابين للحيوانات المفترسة.
ويطلق لفظ التتار على قبائل المغول والترك والأويغور والسلاجقة وغيرهم من قاطنى هذه المناطق، فيعتبر لفظ التتار شاملاً لكل من قبائل المغول والترك اللذين سنتناولهما بشكل كبير في هذا الباب، وفي الباب الخاص بالدولة العثمانية، وقد شمل لفظ المغول أيضًا هذه القبائل؛ نظرًا لسيطرة جنكيز خان -الذي ينتمي لقبائل المغول- على القبائل الأخرى المحيطة به، بل أُطلِق لفظ الجنس المغولي ليشمل معظم قاطني قارة آسيا (الجنس الأصفر).
والسؤال الآن ما هو أثر المغول في تاريخ المسلمين غير القتل والإبادة؟ ماذا تعرف أخي المسلم عن المغول بعد تدميرهم لبغداد وهزيمتهم في عين جالوت؟
الإجابة -أخي المسلم- والتي تغيب عن أذهان الكثير من المسلمين هي أن المغول بدؤوا يدخلون في الإسلام بعد خمسة وثلاثين عامًا من دخولهم ديار المسلمين، بل لم يمض نصف قرن على دخولهم ديار المسلمين إلا وأصبحت الغالبية العظمى منهم مسلمين وأعز الله بالكثير منهم الإسلام، وفتحوا الكثير من البلاد وثبتوا بها أقدام المسلمين لفترة كبيرة من الزمن، بل حارب الكثير منهم أبناء جلدته في سبيل الإسلام.
ومما كرس عند كثير من المسلمين الصورة الأولى للمغول والتتار الاجتياح التتري بقيادة تيمورلنك لبلاد المسلمين، وفي هذه المرة يتم الاجتياح والتتار معتنقون الإسلام، ويتبعون وسائل فاقت في بشاعتها ما فعله سابقوهم قبل أن يدخلوا في الإسلام.
ولا ننكر أن الكثير من المغول والتتار لم يتخلصوا من بعض الصفات المتأصلة في الآباء والأجداد حتى بعد دخولهم الإسلام، وأن الجانب العقيدي والدعوي الإسلامي لم يكن مثلما كان في عهد المسلمين الأوائل، ولكن يجب ألا نغفل عن إبراز إيجابياتهم في تاريخ المسلمين، وإسهامهم في زيادة الرقعة الإسلامية بشكل لم يسبق له مثيل، ولم يتكرر حتى الآن، وفي إدخال الإسلام إلى الكثير من البلاد التي لم يطأها المسلمون قبلهم، وتأثيرهم فيها برغم المحاولات المستمرة من أعداء الإسلام لإبادتهم والقضاء عليهم، والتي ذاقوا فيها الأمرين وما زالوا حتى الآن يعيشون آلامها، ولكنهم يتحملون ويتمسكون بدينهم، وحينما يعود المسلمون إلى رشدهم سيكون لهؤلاء المسلمين بالغ الأثر في إعادة بسط سلطان المسلمين على هذه البلاد وعلى العالم أجمع بإذن الله.
ونستطيع أن نقول أن المغول ورثوا ديار الإسلام من أقصى الشرق إلى حدود المنطقة العربية وحدود وسط أوروبا. ومن أسباب التعتيم الكبير على تاريخهم أنهم ذابوا في المجتمعات الإسلامية التي حكموها وأصبحوا من أهلها، كما أن دولتهم الكبيرة تفتتت إلى دول (خانات) كثيرة، وكانت الحروب بينها لا تنقطع، فلم يظهروا بعد إسلامهم كيدٍ واحدة وحتى عندما استطاع تيمورلنك أن يضم أجزاء كثيرة من بلاد المغول ما زادها إلا تفتتًا وتمزيقًا.
تقسيم دولة المغول الكبرى
احتل جنكيز خان جزءًا كبيرًا من المعمورة وقسم إمبراطوريته بين أبنائه من زوجته الأولى كما كان ينص تشريع المغول (اليساق) فأعطى ابنه الأكبر جوجي بلاد روسيا وخوارزم والقوقاز وبلغار (مدينة قازان الحالية في روسيا) وما يمكن ضمه من غرب المعمورة، وأعطى ابنه جغطاي بلاد الأويغور (ولاية كانسو في الصين حاليًا) والتركستان الغربية وبلاد ما وراء النهر، وأعطى ابنه تولوي خراسان وفارس وما يمكن ضمه من آسيا الصغرى وبلاد العرب، وأعطى ابنه أوغطاي بلاد المغول (منغوليا الحالية) والصين والخطا (تركستان الشرقية) وما يمكن ضمه من شرق المعمورة.
وسنتناول في هذا الباب كل منطقة على حدة، ونتتبع تاريخها إلى ما آلت إليها الآن وسنضيف إليها فصلاً خاصًا بالهند نظرًا لأن المغول هم آخر من حكموا الهند من المسلمين، بل وبلغت الدولة الإسلامية في الهند أقصى اتساع لها في عهدهم، وبذلك سيكون ترتيب الفصول كالتالي:
الفصل الأول: منطقة شرقي أوربا وغربي سيبيريا.
الفصل الثاني: منطقة إيران.
الفصل الثالث: منطقة الصين ومنغوليا.
الفصل الرابع: منطقة تركستان الغربية.
الفصل الخامس: منطقة الهند.
وقبل أن نبدأ في سرد الأحداث ننقل كلام نفيس للعلامة أبو الحسن الندوي حول معجزة انتشار الإسلام في التتار.
انتشار الإسلام في التتار
وقبل أن ينجرف العالم الإسلامي مع هذا السيل الجارف العنيد، وينطمس معالمه وملامحه، كما كان المشاهد الملموس عند ذوي البصيرة والخبرة من المؤرخين المسلمين في ذلك الحين، بدأت دعوة الإسلام تنتشر فجأة في هذا الشعب، ويتحقق على أيدي دعاة الإسلام ما لم يتحقق بالأسنة والرماح، وبطش السلاطين والملوك، وبدأ الإسلام يتسرب في نفوس أعدائه، ويأخذ بمجامع قلوبهم، إن خضوع هذا الشعب الذي قهر المسلمين أمام الإسلام من أغرب الوقائع والأحداث في التاريخ، فإن هجوم التتر على العالم الإسلامي كالجراد المنتشر، وإخضاع العالم الإسلامي كله، ليس من الغريب المدهش كما يبدو في الظاهر، فإن عالم الإسلام في القرن السابع كان بدوره مصابًا بتلك الأمراض والأسقام، التي تلحق الأمم عامة في أوج حضارتها وشوكتها، وبالعكس من التتر، ذلك الشعب القوى الأبي الذي نشأ على حياة البداوة، والهمجية والضراوة، ولكن الغريب المدهش أن هذا الشعب خضع للمسلمين. المفتوحين المقهورين، واعتنق دينهم في أوج قوته، وذروة سلطانه، ذلك الدين الذي فقد كثيرًا من سلطانه السياسي والمادي آنذاك،" وكان أتباعه موضع سخرية واحتقار في نظر التتار.
وقد أبدى توماس أرنولد استغرابه في هذا الصدد في كتابه المشهور (الدعوة إلى الإسلام Preaching of Islam) حيث قال: "ولكن لم يكن بد من أن ينهض الإسلام من تحت أنقاض عظمته الأولى، وأطلال مجده الخالد، كما استطاع بواسطة دعاته أن يجذب أولئك الفاتحين المتبربرين ويحملهم على اعتناقه، ويرجع الفضل في ذلك إلى نشاط الدعاة من المسلمين الذين كانوا يلاقون من الصعاب أشدها لمناهضة منافسين قويين، كانا يحاولان إحراز قصب السبق في ذلك المضمار، وليس هناك في تاريخ العالم نظير لذلك المشهد الغريب، وتلك المعركة الحامية التي قامت بين البوذية والمسيحية والإسلام، كل ديانة تنافس الأخرى، لتكسب قلوب أولئك الفاتحين القساة، الذين داسوا بأقدامهم رقاب أهل تلك الديانات العظيمة ذات الدعاة والمبشرين في جميع الأقطار والأقاليم".
"ويظهر أنه لم يكن من اليسير منافسة الإسلام في مستهل الحكم المغولي لغيره من الديانات القوية، كالبوذية والمسيحية كانت عملاً بعيد المنال؛ إذ إن المسلمين كانوا قد قاسوا أكثر من غيرهم من ذلك الاضطراب الذي صحب غارات المغول، وإن معظم هذه المدن التي كانت حتى ذلك الحين مجمع السلطة الدينية وكعبة العلم في الإسلام في القارة الآسيوية، قد أصبح معظمها أطلالاً دارسة، حتى أن الفقهاء وأئمة الدين الأتقياء، كان نصيبهم القتل أو الأسر، وكان من بين حكام المغول -الذين عرفوا عادة بتسامحهم نحو الأديان كافة- من يظهر الكراهية للدين الإسلامي على درجات متفاوتة، فقد أمر جنكيز خان بقتل كل من يذبح الحيوانات على النحو الذي قرره الإسلام، ثم سار على نهجه قوبيلائي، فعين مكافآت لكل من دل على من يذبح بهذه الطريقة، واضطهد المسلمين اضطهادًا عنيفًا دام سبع سنين، حتى أن كثيرًا من المعدمين وجدوا في سن ذلك القانون فرصة لجمع الثروة، واتهم الأرقاء مواليهم بهذه التهمة لكى يحصلوا على حريتهم، وقد عانى المسلمون أقسى ضروب العسف والشدة في عهد كيوك (1246- 1248م) الذي ألقى بزمام أمور الدولة إلى وزيريه المسيحيين، والذي امتلأ بلاطه بالرهبان من المسيحيين".
"وقد اضطهد أرغون (1284 - 1291 م) رابع إيلخانات المغول في فارس، المسلمين في بلاده، وصرفهم عن كافة المناصب التي كانوا يشغلونها في القضاء والمالية، كما حرم عليهم الظهور في بلاطه، وعلى الرغم من جميع المصاعب، أذعن هؤلاء المغول والقبائل المتبربرة آخر الأمر لدين هذه الشعوب التي ساموها العسف وجعلوها في مواطئ أقدامهم".
إن هذا الحدث مثار دهشة وعجب، ولكن استغرابنا يشتد، حينما لا نجد تفاصيله وافية في بطون التاريخ، إننا لا نكاد نعثر على أسماء هؤلاء الأعلام والأبطال الذين حققوا هذه المآثر، وأدخلوا هذا الشعب الهمجي في حظيرة الإسلام، مع أن هذه المآثر لا تقل أهمية عن أي مأثرة إسلامية في التاريخ، ولهم فضل لا ينكر لا على رقاب المسلمين فحسب، بل على الإنسانية كلها، إلى أن يأذن الله لها بالفناء، فإنهم أنقذوا العالم من دمار محتوم، ووضعوه تحت رعاية شعب يؤمن بالله وحده، ويدعو إلى دين محمد.