حوار النفس (خاطرة نثرية)

منذ 2014-03-13

أبي: تعال العب معي، فليلة أمسِ واعدتني باللهو، غير أنك أخلفتَ كعادتكَ هذا الوعد، هلم العب معي.

نظرتُ إلى طفلي الصغير ذي الأعوام الثلاثة واﻷنوار الملائكيَّة تَنبعِث من عينيه السمراوين، كأنما الشمس أطلقت أشِعَّتَها على ليلة ظلماء، فأشرق كلُّ ما في تلك الليلة، حتى تبدَّد ظلامُها بنور، حتى إن من فُرُط شَغَف تلك الليلة بالنور، خلعتْ عن كاهلها وشاحَها القاتم، واستبدلته بآخر أبيض بهيج، بل بلغت قمة سعادتها حين اتَّخذت اسمًا لها غير اسمها المألوف فأصبحت نهارًا.

انتبَه صغيري إلى التفاتي إليه، وأدرك بعقله البريء رُغْم صِغَره أني أُحِبه؛ فالحب لا يُوصَف بل يُذاق، ومن صفت فطرتُه ذاق معاني الشوق عن غير عمدِ إدراكٍ، لكنه فاجأني بالقول: أبي: تعال العب معي، فليلة أمسِ واعدتني باللهو، غير أنك أخلفتَ كعادتكَ هذا الوعد، هلم العب معي، هلم العب معي، يقولها وهو يَجذِبني بكلتا يديه، بأقصى قوة فيه؛ حتى أتزحزح عن مكاني، يجذبني وهو لا يُدرِك أنه جرحني ببراءته، حين أعلمني من نفسي صفة مُتأصِّلة في ذاتي، أُخفيها عن قصد وأتحاشى أن أُوصَف بها، إنها النفاق!

كم من خُلُق ذميم نواريه في كبد الوهم! وكم نحيا ونحن ندري أو لا ندري في رَهَج عادة مقيتة.
آه يا نفس! هل بلغت هذا المبلغ الذي تتعلَّمين فيه الحكمة من فم طفل، وأنت التي تُوصفين دومًا: نفس عالم حكيم.

آه يا نفس! كيف انحدرتِ إلى هذا المستنقع؟! ألم تكوني نفس طفل بريء؟!

آه يا نفس! لكم وددتُ أن نعود معًا إلى عهد الطفولة البريئة!

قالت لي النفس: ويحك! أتلومني وأنت عار؟! ألا تراني في كل مُنعطَف في الحياة أجذبك وأنت كالقطار المُنطلِق يتسعَّر مِرجَله؟! ألا تراني في كل يوم أناديك: أَقبِل هنا، إياك أن تذهب، فتضيع في تيه الحياة المريرة الكاذبة؟!

قلت لنفسي: ويحك! ألا تدفعينني أن أبلغ من الكمال قمَّتَه، فها أنا ذا أنطلِق حتى أُشبِع رغبتَك في الكمال! 
قالت لي النفس: وهل انخدعت يا مسكين بكيد الشيطان، الذي يُزيِّن لك الغفلةَ على أنها الكمال؟! استيقظ يا هذا، وإلا استيقظت وأنت محمول على الأعناق إلى ظُلْمة القبر أو على شفير النار تُنادي: ليتني قدَّمتُ لحياتي!

هزَّتني نفسي، حتى أفقتُ على بكاء صغيري: أبي أخلفني الوعدَ كعادته.

 

أحمد أبو اليزيد

  • 0
  • 0
  • 1,801

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً