سيدة من سيدات العرب

منذ 2014-03-15

القصة تُظهر حكمة فتاة لم تتجاوز العشرين، وكيف أنها -باهتمامها- استطاعت أن تُوقِف حربًا ضروسًا عضَّت بنواجذِها قبيلتين من قبائل العرب دامت هذه الحرب عقودًا عديدة...

قرأت القصة مرارًا وتَكرارًا؛ لأني أردت أن تصلَ إلى كل فتاة وإلى كل فتى؛ فالفِعل الطيب لا يتم إلا باهتمام صاحبه، فأين اهتمامات الشباب والشابات؟!

هل في اللباس؟ في الثياب والموضات والموديلات أم في الجوّالات؟ أم إنها ترقى لتعمَّ المجتمع الذي يعيشون فيه؟

فالقصة تُظهر حكمة فتاة لم تتجاوز العشرين، وكيف أنها -باهتمامها- استطاعت أن تُوقِف حربًا ضروسًا عضَّت بنواجذِها قبيلتين من قبائل العرب دامت هذه الحرب عقودًا عديدة.

في القصة الكثير والكثير؛ فهي تظهر ديموقراطية يحسبها البعضُ غائبة في الجاهلية.

وتُظهِرُ حِكمةً وجُودًا لرجلٍ أظهرَ من الجود ما لا يحتمله حتى أمثاله من الرجال ذوي النَّخوة والكرامة، وإليكم القصةَ تفصيلاً.

الزمن: في الجاهلية، وقبل البعثة؛ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

بلَغ الرجل من السؤدد والسمعة في عشيرته وباقي العشائر حدًّا قلَّما بلَغه ذوو المجد، فأصبح يُنادَى بـ: سيد العرب!

وفي منادمةٍ مع صديقه خارجةَ بن سنان قال: أتراني أخطب إلى أحدٍ من العرب فيردني، أيأنف أحدٌ أن يزوجني؟!

ماذا كان الجواب من خارجة: ما أدري؟

ذكر سيد العرب (أوس بن حارثة)، فعنده بنات ثلاث.

توجَّه إليه برفقة خارجة بن سنان، رحَّب أوسٌ بالضيفين، وبادر الحارث بن عوف:
جئتك خاطبًا، أجاب أوس بكلماتٍ قليلةٍ: ليست هناك.

دخَل الرجل على زوجته فقالت:
ماذا هناك؟ ما الأمر؟

وانظروا إلى حِكمة زوجته وجوابها، وكيف تدخلت في الحديث:
مَن الرجلان؟

إنه الحارث بن عوف سيدٌ من سادات العرب جاءني خاطبًا.

قالت المرأة: أتريد أن تزوج بناتِك؟

• نعم يا امرأة!

• إذا لم تزوِّجْهم من سيدٍ من سادات العرب، فممَّن تزوجهم!

عاد الرجل إلى صوابه، تابعت المرأة، فلتلحق بضيفيك ولتُعِدْهما، ولتقل للرجل: إنه جاءك وأنت مُغضبٌ، وأن عندك ما يريد.

لحق أوس بالرجلين، ناداهما فلم يجيبا، تمهلْ أيها الحارث، فلك عندي ما تُحِب، وقد جئتَني وأنا مُغضَب!

عاد الرجل برفقة ضيفه إلى منزله، دعا بناته الثلاث، وبدأ الحوار مع الكبرى:

هذا الحارث بن عوف سيدٌ من سادات العرب، جاءني خاطبًا، فما ترين وما تقولين؟

لا تفعل، في وجهي ردة، وفي خُلقي حِدَّة، ولستُ بابنة عمه فيرعى رحمي، وليس بجارِك في البلد فيستحيي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيُطلِقَني، فيكون عليَّ وصمة.

جوابٌ غيرُ متوقعٍ لوالدٍ وعَد أن يُلبي حاجة الحارث! لم يزد أن قال: قومي بارك الله فيكِ.

ثم نادى الوسطى فأجابت بمثل ما أجابت به أختها، وتكرَّر جواب أوس: قومي بارك الله فيكِ.

فدعا الصغرى: هذا الحارث بن عوف جاءني خاطبًا.

فقالت: أنت وما تريد!

إني عرضتُ ذلك على أختيكِ فأبتاه.

لكنني الجميلةُ ذاتُ الحسب والصنعة، فإن طلَّقني فلا أخاف.

خرج الرجل إلى الحارث بن عوف وقال: قد زوجتُك بهنسة بنت أوس، فقال الحارث: قبِلتُ.

توجه أوس إلى امرأته قائلًا: أصلحي شأنَ ابنتكِ، وبنى للرجل بيتًا، وقال للحارث: دونَك زوجَك.

دخل الحارث على بهنسة فأنكرَتْ عليه؛ وقالت: هذا لا يكون، لا يمكن؟ مَهْ! هنا بين إخوتي وأهلي!

رحل الحارث برفقة زوجه وصديقه، وبنى في الطريق بيتًا، ودخل على زوجه.

قالت: تتزوجُ في الطريق كما يُفعَل بالأمَة الجليبة والسيدة الأخيذة.

لا والله! لا يكون ذلك حتى تنحر الجزور، وتذبح الغنم، وتدعوَ العرب، وتعمل ما يُعمل لمثلي.

قال خارجة لصديقه الحارث: والله إني لأرى هيئةَ عقل، وإني لأرجو أن تكون هذه المرأة النجيبة.

دخل الرجل بلاده، وأولَم، ونحر، ودعا، واسمعوا إلى الحوار بينه وبين بهنسة:

والله لقد ذُكِر لي من الشرف ما لا أراه فيك؟

وكيف ذلك يا امرأة؟

قالت: أتتفرغ لنكاح النساء والعربُ يَقتُل بعضها بعضًا؟
تعني عبسًا وذُبيان.

قلت: فماذا تقولين؟

جاء الجواب من الصغيرة الكبيرة العاقلة:
اخرجْ إلى هؤلاء القومِ، فأصلِحْ بينهم، ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتَك.

قلت: والله إني لأرى عقلًا وهِمَّة.

فخرجنا إليهم؛ حتى أتينا القوم ومشَيْنا بالصلح، فاصطلحوا على أن يحسُبوا القتلى من الفريقين، ثم يُؤخَذ الفضل ممن هو عليه.

فحملنا عنهم الدِّياتِ، وكانت ثلاثة آلاف بعير، وفي هذا الصلح يقول زهير يمدحُهما:                                      

تدارَكْتُما عبسًا وذُبيانَ بعدما *** تفانَوا ودقُّوا بينهم عطرَ مَنشِمِ

بقي أن أسأل: لو أردنا أن نقول: هل بهنسةُ سيدةُ قومها؟

والجواب: قليلٌ عليها ذلك.

ولكننا نقول: إنها سيدةٌ من سادات العرب... بل سيدة العرب.

تقول كتب الأدب: إن الحارثَ عاش حتى أدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلم رحمه الله، هو جدُّ الأفوه الأودي، أبي فارس الشوهاء عمرو بن مالك.

الحارث بن عوف وخارجة بن سنان:

يمينًا لَنِعْمَ السَّيدانِ وُجِدتُما *** على كل حالٍ مِن سَحيلٍ ومُبْرَمِ

بقي أن نذكر موقفًا لخارجة بن سنان يُظهر مكانة الرجل: "فبعد أن اتفق الطرفانِ عَبْس وذُبيان؛ كفل الاتفاقَ الحارثُ بن عوف وخارجة بن سنان، ولَنِعْمَ السيدان هما، تحمَّلا فَرْق الدِّيَات، وقد بلغت ثلاثة آلاف بعير، في هذه الأثناء وبعد الاتفاق قام حُصين بن ضمضم فقتل تيحان أحد بني مخزوم بن مالك ثأرًا لأبيه، جاء ذوو القتيل إلى خارجة: أين كفالتك؟ دفع خارجة بن سنان ابنه إلى أبي تيحان وقال: في هذا وفاءٌ من ابنك، وقال: إن كنتم تريدون الدَّمَ، فهذا ابني، فاقتلوه، وإن كنتم ترضَون الدِّيةَ فهي لكم، كفُّوا عن ابنه ورضوا بالدية" (انظر: العقد الفريد، لابن عبد ربه: [5/137] وما بعدها).

في القصة تفاصيل أخرى يُرجع إليها في كتب الأدب، إنها قصة لفتاةٍ أرادت وتمنَّت، فكان لها ما أرادت، وارتقت بفعلها مكانًا ومكانةً.

وأصلحتْ بين حيَّين من العرب دامت الحربُ بينهما عقودًا، وأفنت الكثير من الشباب!

إنها هِمَّةُ فتاة، فأين هِمَم الشباب والشابات اليوم من قضايا الأمة؟!

مصطفى شيخ مصطفى

 

 

  • 65
  • 0
  • 3,887

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً