فرنسة التعليم في المغرب
قُبيل أيام قليلة من "اليوم العالمي للفرنكفونية" الذي يصادف 20 مارس من كل عام؛ قدَّم وزير التربية والتعليم والتكوين المهني، رشيد بلمختار، هدية ثمينة للمُستعمر السابق للمغرب بعدما أقدم على توقيع اتفاقية تعاون تربوي مع نظيره الفرنسي تقضي بتعميم اعتماد اللغة الفرنسية في السنة الأخيرة من التعليم الثانوي التأهيلي"الباكالوريا" في جميع المواد...
قُبيل أيام قليلة من "اليوم العالمي للفرنكفونية" الذي يصادف 20 مارس من كل عام؛ قدَّم وزير التربية والتعليم والتكوين المهني، رشيد بلمختار، هدية ثمينة للمُستعمر السابق للمغرب بعدما أقدم على توقيع اتفاقية تعاون تربوي مع نظيره الفرنسي تقضي بتعميم اعتماد اللغة الفرنسية في السنة الأخيرة من التعليم الثانوي التأهيلي"الباكالوريا" في جميع المواد.
وفي الوقت الذي كانت الهيئات المدنية والفعاليات الجمعوية المدافعة عن اللغة العربية، تُسارع الخطى للضغط على الجهات الوصية على القطاع التعليمي من أجل الحسم في اعتماد العربية لغة للتدريس، فاجأ وزير التربية الوطنية الجميع بقراره الانفرادي وفتح الباب أمام تحد جديد يتمثل في مواجهة تغوُّل الفرنكفونية بالمغرب والتي يمثل الوزير المذكور أحد رموزها البارزين.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل إن سياق توقيع هذه الاتفاقية التي دخلت حيِّز تفعيلها هذا العام يحمل أكثر من دلالات، ذلك أنها تُنفذ في عهد يتولى فيه حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الاسلامية تدبير الشأن السياسي، ما جعله أمام تحد كبير لأن الآمال كانت معقودة عليه بشدة لإجراء تغييرات عميقة في الحقل التعليمي والتربوي، خصوصًا فيما يتعلق بإشكالية لغات التدريس وتدريس اللغة.
الفرنكفونية... استعمار جديد قديم
يعود تغلغل المخطط الفرنكفوني بالمغرب إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، فبعدما انسحب المستعمر الفرنسي على وقع فشل عسكري ذريع بفعل المقاومة الشرسة التي كانت تقودها ضده الحركة الوطنية المغربية، ترك خلفه خداما أوفياء للإبقاء على مصالحه الإستراتيجية في البلاد، وهم الذين سيحملون راية الفرانكفونية لاحقًا.
ومنذ ذلك الحين سعى المستعمر الفرنسي إلى ترسيخ استعمار ثقافي بديل يُعوِّض الانسحاب العسكري، فتوجهوا إلى إخضاع النفوس والعقول ثقافيًا، للتمكن من إخضاع الأجساد، وبعدما سلمت فرنسا السلطة لنخبة سياسية وثقافية متشبعة بالفرنكفونية، تحولت نحو التعليم باعتباره مجالًا خصبًا لزرع بذور الفرانكفونية، وكان التركيز هذه المرة على اللغة باعتبارها مسكن الكائن -كما يقول الفيلسوف الألماني هيدجر- وذلك من خلال محاربة اللغة العربية في المدارس وتعويضها باللغة الفرنسية.
ومن أبرز مظاهر المحاربة الاستعماريَّة الفرنسيَّة للغة العربيَّة بالمغرب، هي غرسُ المُستعمر في نفوس المتشبعين بالثَّقافة الفرنسيَّة معاداة مقيتة للغة العربية والثقافة الإسلامية، فأبعد اللغة العربية عن الساحة الفكرية والسياسية، وفرض لغته ورفعها على غيرها، وجُعل دارس اللغة الفرنسية في المراتب العُلا، بينما تم تهميش دارس اللغة العربية مهما بلغت رتبته العلمية والثقافية، وهكذا أُبعد المثقف المغربي باللغة العربية عن أية مشاركة في العمل الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلاده ومجتمعه.
بالمقابل؛ حظيت النخبة "المفَرْنَسَة" بوضع متقدِّم في كلّ المجالات السّياسيَّة والثَّقافية والاجتماعية والاقتصادية، لكنها بعيدة عن الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمجتمعاتها، موالية بإطلاق للثقافة والإديولوجية الفرنكفونية التي ينتمون إليها، بعدما رسخ في أذهانهم أن لا ثقافة ولا تاريخ خارج ثقافة فرنسا ولغتها.
معاهدة التسليم أو الاستعمار الجديد
شبه فؤاد بوعلي رئيس الإئتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بالمغرب، خُطوة وزير التربية الوطنية والتعليم بـ "معاهدة التسليم" للاستعمار الفرنسي، وبينما اعتبرها شيكًا على بياض قدَّمه الوزير المغربي لنظيره الفرنسي، أكد أن القرار لا قانوني ولا دستوري لأنه يعني تسليم عقول أبناء المغرب ومقدراته الوطنية ومستقبله إلى المستعمر القديم.
وكشف بوعلي أن الأمر يتعلق بغزو فرنكفوني للنظام التعليمي المغربي يشتغل على ثلاثة مسارات إقامة مؤسسات فرنسية للتعليم العالي بالمغرب، والتي بدأت تفتح منذ سنة 2013م في الرباط والبيضاء وفاس وطنجة، وتوسيع مجال التعبئة للنموذج الفرنسي خارج محور الرباط البيضاء، وتشجيع الطلبة المغاربة على الدراسة في فرنسا.
ويرى الباحث الأكاديمي والناشط المدني في الدفاع عن اللغة العربية والهوية الإسلامية بالمغرب، أن المنظومة الفرنكفونية، وبعد أن فشلت في فرض نماذجها في معقلها الرئيس اتجهت نحو خلق أتباع قُطريين تارةً باسم المصالح السياسية والاقتصادية، وأخرى باسم العلاقات التاريخية والثقافية، والغاية هي تنفيذ مخطط قديم اتخذ في الآونة الجديدة شكلًا أكثر فظاظة بعد أن تم إلهاء الناس بالنقاش اللغوي الداخلي لتيسير زحف اللغة الفرنسية بترسانتها القانونية والتعليمية.
فرنسة التعليم... حجر العثرة أمام تعريب ناجح
يستند دعاة الفرنكفونية اللغوية بالمغرب في تفضيلهم اللغة الفرنسية للتدريس، إلى كون سياسة التعريب التي أُفشلت في مراحلها الأولى أنها لم تحقق الأغراض المرجوة منها، والمتمثلة في الارتقاء بالمستوى التعليمي، وإلى أن اللغة الفرنسية ستقوي الملكات اللغوية للتلاميذ والمتعلمين وستساعدهم على "التفوق الدراسي"، بينما واقع الأمر يشير عكس ذلك تمامًا حيث أن وضعية التعليم من سيئ إلى أسوأ منذ تجميد سياسة التعريب كما يؤكد عدد من الخبراء والمتخصصين.
ويُفسِّر مهتمون هذه المفارقة الغريبة بكون أصحاب هذه القرارات يمثلون "النخبة الفرنكفونية" التي استفادت من فرنسا ماديًا ومعنويًا، وهي تمثل اليد التي تنفد مخططاتها الاستعمارية بالمغرب وتروِّج لذلك تحت يافطة الانفتاح اللغوي والتبادل الثقافي وترويج قيم الحداثة، بينما تهدف في الواقع تسويق نموذج استعماري من منظور استشراقي فج يعتبر أن الحضارة الفرنسية -من المنظور الفرانكفوني- هي منتهى ما وصل إليه الإنسان الحديث.
وفي الوقت الذي يسعى فيه أنصار الفرنكفونية بالمغرب ترسيخ في أذهان التلاميذ على أن الفرنسية لغة التحضر والتمدن ولغة التفوق والنجاح الدراسيين؛ تفيد المعطيات والأرقام أن "الفرنسية شهدت تراجعًا وتقهقرًا على المستوى العالمي، بل وداخل المجتمع الفرنسي نفسه أمام الغزو اللغوي الإنجليزي رغم ما تنفقه فرنسا من أموال ضخمة تُقدَّر بـ 65 مليار يورو سنويًا للتعليم".
ففي تحقيق أعدته جريدة لوموند تحت عنوان "التعليم: لماذا النموذج الفرنسي في عطب"، نُشِرَ في الرابع من فبراير شباط الماضي؛ حذَّرت فيه من انغلاق ومحدودية النموذج الفرنسي في تعميم المعرفة والمهنية والإبداع، فمتى تتخلص النخبة الفرنكفونية بالمغرب من عُقدة الاستيلاب الحضاري اتجاه اللغة الفرنسية والثقافة الفرنكوفونية وتستوعب الفرضية القائلة أن لا نهضة ولا تقدُّم ولا تنمية إلا باللغة الوطنية، يتسائل المُدافعون عن اللغة العربية بالمغرب.
عبدالرحيم بلشقار بنعلي
- التصنيف: