دراسة التاريخ بمنهجية الإسلام حق...فأين المطالب؟
رحاب حسَّان
هناك فارق كبير بين دورنا الحالي تجاه دراسة التَّاريخ، وبين ما يجب عليْنا نحوه بالفعل؛ فالعلوم التاريخية ينبغي أن يُعاد تسطيرها، بحيثُ توضح أهداف الأمَّة الإسلاميَّة التي حدَّدها القرآن والسنَّة النبويَّة كرسالة حياة، وأداء أمانة أرادها الله تبارك وتعالى لهذه الأمَّة.
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسول الله، محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وبعد،
إنَّ تطبيق المنهج العلمي الإسلامي لدراسة التاريخ يعدُّ وقفة مصالحة مع التَّاريخ، وقد استخدمتُ كلمة مصالحة لما وجدت من فارقٍ كبير في طريقة فهْمنا وأسلوب دراستِنا لوقائع وأحداث التَّاريخ، وبين المنهج العلْمي الَّذي خطَّه لنا علماء التَّاريخ الإسلامي، والذي ينبغي أن تُدرَّس مادة التاريخ الإسلامي في ضوئه.
بل هناك فارق كبير بين دورنا الحالي تجاه هذا التَّاريخ، وبين ما يجب عليْنا نحوه بالفعل؛ فالعلوم التاريخية ينبغي أن يُعاد تسطيرها، بحيثُ توضح أهداف الأمَّة الإسلاميَّة التي حدَّدها القرآن والسنَّة النبويَّة كرسالة حياة، وأداء أمانة أرادها الله تبارك وتعالى لهذه الأمَّة.
وإن كان ضمير العالم الإسلامي ينبغي أن يَستفيق ويصحو في مختلف المناحي، فإنَّ من أهمِّ هذه المناحي صرخاتٍ لا بدَّ أن تنبعث من أعماق التَّاريخ، نوقظ بها ذلك الضَّمير، لكن هذه الصَّرخات إن لم نثق أنَّها كانت صيحات حقٍّ ونورٍ من أئمَّة وأعلام هدى، فلا خيرَ فينا ولا فيما ندعو من أجله.
ولن يحدث ذلك إلاَّ بمراجعات في قراءة التَّاريخ وفي الأسس العلميَّة التي يجب اتِّباعها لدراستِه، يقوم على إثرها تصالحٌ بين جيلنا المعذَّب بتزْوير تاريخه، والمخدَّر بفقْد هويَّته، وبين أسس وقواعد جهلها هذا الجيل في صياغة ومعرفة تاريخه.
ويحدث نتيجةَ ذلك التَّصالُح انسِجام وتوافق بين الواقع المعاش وبين الماضي العزيز؛ حتَّى نستطيع من خلالِه صياغة مستقبل أفضل.
"فالفصل بين الدراسات الشرعيَّة والدراسات التاريخيَّة المعاصرة أدَّى إلى أن تقوم هذه الدِّراسات على الأساس الَّذي وضعتْه المدرسة الاستِشْراقيَّة، فنشأ جيلٌ من خرِّيجي الجامعة لا يشعرون بأي صلة تربط هذا التَّاريخ بدراسة الشَّريعة وأحكام الإسلام". اهـ. (جمال عبد الهادي، أخطاء يجب أن تصحَّح.)
وما يحدث لنا من تشويه متعمَّد قد يجعل المرْء يفسِّر بيُسر وسهولة ما يحدث من انهِيار كيْنوني للأمَّة، وتصدُّع بنائها الذَّاتي والحضاري، وإجحاف في الاعتراف أو الاعتزاز بهويَّتنا، والذي يعجز المرْء نفسه عن تفسيره من دون أن يقْرأ عن منهجيَّة دراسة التاريخ الإسلاميَّة.
"فتاريخ الأمة المسلمة هو الواقع التَّطبيقي لهذا الدين، وهذه الصَّفحات البيض للتَّاريخ الإسلامي قد تعرَّضتْ مع تعرُّض بلاد الإسلام للغزْو العسكري لغزْو فكري، قام على أكْتاف المستشرقين، يُعاونهم الكثير من أبناء العرب والمسلمين، وقد ترتَّب على هذا الغزْو أنَّ الأمَّة المسلمة أصبحت تنظُر لنفسِها ولغيرها من خلال كتابات صنعتْها أيدٍ أجنبيَّة". اهـ. (جمال عبد الهادي، أخطاء يجب أن تصحَّح في التَّاريخ،ف1، ص15 – 21).
تلك الكتابات التي تعتمد في تفسير التاريخ على منهج مغاير لتعاليم ديننا الحنيف في العموم.
وقبل أن نستعرض أهم هذه المدارس باقتضاب، لنا سؤال هام، وهو:
ما المقصود بمنهج التَّفسير التاريخي؟
يعرِّف ذلك د/ محمَّد أمحزون قائلًا: "يُقْصَد بتفسير التَّاريخ: معرفة الرَّوابط التي تربط الأحداث والوقائع المختلفة، لتبيُّن دوافعها ومنطلقاتها ونتائجها، واستِخْلاص السُّنن من خلاله". اهـ. (محمد أمحزون، تحقيق مواقف الصَّحابة، ص 82- 99).
المنهج الغربي في تفسير التاريخ:
ومنهج تفسير التاريخ عند الغربيِّين له نظرياته المتعددة، والتي تعاني قصورًا شديدًا في فهم دور البشرية في الحياة، إذا ما تمت مقارنتها بالمنهج الإسلامي في التفسير، ولعل من أهم هذه النظريات نظريةَ التحليل المثالي للتاريخ، والذي يقسم حقب التاريخ على دوائر منفصلة عن بعضها البعض، كذلك التحليل المادي الجدلي الذي يتزعمه ماركس، والذي يقوم على التفسير المادي البحت، ويسقط أحداث التاريخ إلى تفسير واحد، هو الصراع من أجل الطعام؛ أي: زيادة الإنتاج والاقتصاد...إلخ.
ولو مكثنا نقرأ في مثل هذه النظريات، لوجدنا أنها تعاني خللاً في الرؤية، وتجاهلاً في عوامل عدة؛ حيث يتم التركيز على أحد العوامل وإهمال جوانب كثيرة أخرى، كما تتسم بالسطحية وتهميش دور الإنسان الفعلي، الذي خلقه الله تبارك وتعالى من أجله، وهذا على خلاف المنهج الشمولي الإسلامي.
المنهج الإسلامي لتفسير التاريخ:
"فمنهج كتابة التاريخ الإسلامي وتفسير حوادثه يعتمد في أصوله على التصوُّر الإسلامي، ويجعل العقيدة الإسلاميَّة ومقتَضياتها هي الأساس في منطلقاتِه المنهجيَّة وفي تفسير حوادثِه والحكم عليْه؛ لذا فإنَّ مصادر كتابة التاريخ الإسلامي هي المصادر الشَّرعيَّة: القُرآن والسنَّة، كما يُمكن الاستِعانة بالإجْماع والقياس، ويرجع ذلك إلى أنَّ التَّفسير الإسلامي للتَّاريخ منبثقٌ من تصوُّر الإسلام للكون والحياة والإنسان، فهو يقوم على الإيمان بالله وكتُبه ورسُله واليوم الآخر، والقدر خيرِه وشرِّه، فلا يخرج عن دائرة المعْتقدات الإسلاميَّة، كما أنَّه مبنيٌّ على دوافع السُّلوك في المجتمع الإسلامي الأوَّل؛ ممَّا جعل حركة التَّاريخ الإسلامي ذات طابع مميَّز عن حركة التَّاريخ العالمي؛ لأثر الوحي الإلهي، فيه غاية الحياة، والتَّفسير الإسلامي للتَّاريخ..". ا.هـ (المصدر السابق).
المنهج الإسلامي للدِّراسات التَّاريخيَّة ضرورة شرعيَّة:
ودراسة التاريخ الإسلامي لا ينبغي أن تنفصِل عن باقي الدِّراسات الإسلاميَّة والعلوم الشرعيَّة بحال، بل هو جزءٌ لا يتجزَّأ من هذه العلوم الشرعيَّة، فدراسة التَّاريخ تعدُّ دراسة لتاريخ هذا الدين، بل دراسة لتاريخ العقيدة الإسلاميَّة على مدار الدَّهر، إنَّها دراسة الصِّراع بين الحقِّ والباطل.
"فإذا كانت العلوم الشرعيَّة - الكتاب والسنَّة، وما يتفرَّع منْها من فقه وتوْحيد - تعلِّم الدَّارس كيف يزِن الأمور بميزان الإسلام، وينشئ لدى الباحثِ الخشْية لله، والفهْم والإدْراك لمعالم الحلال والحرام، والحقِّ والباطل؛ لذلك فإنَّ قاعدةً من العلوم الشَّرعيَّة ضروريَّة ولازمة لكل دارس وباحث؛ يقول تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الجاثية: الآية18]، ويتأكد الوجوب في حق التَّاريخ الإسلامي.
إنَّ التَّاريخ الإسلامي هو تاريخ هذا الدين الحق، وهو الإسلام، وهو تاريخ تطْبيق هذا الدين، و تاريخ تطبيق شريعة الله على البشر، تاريخ صراع بين الحقِّ والباطل، وبين حزب الله وحزْب الشيطان، تاريخ انتِصار الرسل والدُّعاة في دعوتهم واندِحار موجات الكفر.
من هنا تأتي العلاقة بين الدين والتَّاريخ، وهي علاقة وثيقة.
إنَّ التاريخ الإسلامي يرْوي لنا تاريخ العقيدة الصَّحيحة، وجزاءَ مَن يلتزم بها ويقاتل من أجلها، وجزاء مَن يُعْرض عنْها.
إنَّ الذين يدرسون التَّاريخ بمعزل عن العلوم الشرعية الإسلاميَّة يجرِّدون الدِّراسات التاريخيَّة من التصوُّر العقدي الإسلامي، ويقطعون الصِّلة الوثيقة بين التَّاريخ والدين، رغْم أنَّ التَّاريخ هو خادم للدين وعلوم الشريعة". اهـ. (جمال عبدالهادي، أخطاء يجب أن تصحَّح في التاريخ، منهج كتابة التَّاريخ الإسلامي لماذا؟، الفصل الأوَّل، ص15 – 21، بتصرف يسير).
ويقول أ. محمد قطب: "إنَّ التفسير الإسلامي للتَّاريخ يقوم على أنَّ للإنسان غايةً في هذه الحياة، وهي الاستخلاف؛ يقول تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [لبقرة: الآية 30].
والتَّاريخ البشَري من المنظور الإسلامي هو تحْقيق المشيئة الربَّانية من خلال الفاعليَّة المتاحة للإنسان في الأرض، بقدر الله وبسبب سنَن معيَّنة يُجري بها الله قدَرَه في الحياة.
والتَّاريخ من جهة أخرى هو سعْي الإنسان لتحقيق ذاتِه كلها، لا للبَحث عن الطعام فحسب مثل التَّفسير المادِّي للتاريخ، ولا للبحْث عن المتاع وحبِّ السيْطرة والاستحواذ مثل التَّفسير الليبرالي للتاريخ.
وإنَّما هو تفسير يقوم على تحقيق كل ما يحتاج إليه، من طاقات وقدراتٍ وضرورات وأشواق، إلى جانب الضَّرورات الملحَّة والرَّغبات القريبة، ومحاولة نقل المبادئ التي يعتقِدُها الإنسان والعقيدة التي يحملها بين جوانحه إلى واقع حياتي وسلوك إنساني، وأخلاق ومعاملات تَمشي على الأرض، ويراها النَّاس فيرون الإسلام". اهـ. (محمد قطب، حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 102، بتصرف يسير).
إذًا؛ فالمنهج الإسلامي في دراسة التَّاريخ وتفسيره يؤصِّل لنا قواعدَ ثابتة، تُساعدنا على صناعة التَّاريخ بصورة صادقة وشفَّافة في ضوء المنهج الربَّاني الَّذي أرادَه الله عزَّ وجلَّ للكوْن والإنسان، تلك القواعد المتوازنة الَّتي لم تقتصِر على المادَّة والحسِّ فقط، ولم تستقِ مصدرها من الخرافات والأساطير؛ ولكنَّها جمعت بين الواقع الحسِّي بصورة صادقة في ضوء الوحي الإلهي، كما أنه يَجعلُنا ندرك بجلاء وظيفةَ بني البشر ورسالتهم في الحياة؛ كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: الآية115]، ومسؤوليَّتهم في التَّأثير على مَن حولهم ونشْر الحقِّ والخير.
والمطلوب منَّا كأفراد: أن ندرك هذه العلاقة الوطيدة بين التَّاريخ والدين، والَّتي تجعلُنا نزداد يقينًا في بياض صفحات أجدادِنا، وفي مدى دورهم المميَّز في أداء الرسالة الخالدة إلى بني البشَر، ممَّا يَحدو بنا أن نفخر بهم ونعتزَّ بماضيهم، وأن نتعلم من مواقف وأخطاء سابقينا، فمن التاريخ نستمدُّ قوتنا على مواصلة الطريق بالنسج على منوال الصالحين، واستلهام مواقفهم المشرقة كزاد يدفعنا إلى الأمام، ومن التاريخ نعرف الأخطاء والتجاوزات التي كانت عواقبها غير محمودة، فنحذرها ونتقي الوقوع فيها؛ لئلا يصيبنا ما أصاب غيرنا ممن تجاوز حدَّه، أو خالف أمر ربه.
وبالجملة: ففي التاريخ عبرة لمن أراد الفلاح، وبصّره الله وهداه إلى الطريق المستقيم، ولذا أرشد المولى تبارك وتعالى عباده إلى السير فى الأرض لينظروا ويعتبروا ويتأملوا أخبار الأمم، وأنباء القرون قبلهم؛ فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة غافر: الآية82]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سورة الحج: الآية 46].
رحاب حسان