مناقشات حول عمل المرأة والتوسّع فيه
إن التوسع في عمل المرأة في ظل وجود بطالة حقيقية واسعة الانتشار وخطيرة الآثار في أوساط الشباب أمرٌ مستهجنٌ وغير مقبولٍ، بل إن المنطق السليم يرفض حتى أن نساوي في الاهتمام بين الشباب والفتيات في توفير فرص التوظيف.
قضية عمل المرأة وتوسيع فرصه ومجالاته باتت مؤخراً مسألة تثير الكثير من النقاش والجدل في الساحة الفكرية في المجتمع السعودي، وذلك يعود بالدرجة الأولى لرمزية القضية، وما تحملها بين جنباتها من دلالات فكرية في حالة غلبة رأي على غيره في المشهد الفكري، وما يترتب على ذلك من آثار مستقبلية في واقع الأمر على مستوى صراع الأفكار.
ويتجاذب طرفي النقاش في قضية التوسّع في عمل المرأة صوتان:
أحدهما: صوتٌ محافظٌ واسع الانتشار، يقدم الحرص على ثوابت المجتمع الشرعية والاجتماعية، ويطالب باحترام نظامه العام، ويتخوف من بعض الخطوات التي تخاطر بقيم المجتمع ومبادئه، ويطالب بالتنمية والتطوير في المجتمع، مع ضرورة الاحتفاظ بالأصالة والهوية.
وصوت آخر: متحرر ينحو في أطروحاته المتعلقة بعمل المرأة اتجاه الطرح الليبرالي الوافد على المجتمع، ويُغلّب النظر إلى المصالح المادية ولو جاءت على حساب هوية البلد، متغافلاً عن مراعاة الاشتراطات الشرعية والنظامية وضرورة تطبيقها في الواقع، وتتقاطع بعض مطالبات هذا الصوت مع ما تنادي به وتتطلع إلى تحقيقه في المنطقة المنظمات والهيئات الغربية، ويسعى أولئك من خلال مطالباته إلى تحقيق مكاسب دعائية تساهم في تغيير صورة المجتمع السعودي لدى الآخر الغربي، وهذا الصوت لا يتمتع في الحقيقة بالقبول الاجتماعي الشعبي الذي يتمتع به الصوت المحافظ (1).
وما ألحظه من خلال متابعتي الإعلامية لتصريحات المسؤولين بوزارة العمل أن الوزارة تُولي ما تسميه بـ: "بطالة الإناث" أهمية خاصة، تُشعر المتابع أن المجتمع السعودي لا يعاني من بطالة واسعة في صفوف الذكور، وأنهم قد نالوا حقهم في العمل الكريم، وتوفرت لهم فرص كسب الرزق، وبقي أن تهتم الوزارة بتوظيف الإناث وتوفير فرص ومجالات عمل جديدة لهن، ولسان حال الوزارة أن توظيف المرأة السعودية، واستحداث فرص متنوعة لعملها في المجالات المختلفة أكثر أهمية وأشد إلحاحاً في المجتمع من توظيف شقيقها الرجل، أو على الأقل أنهما يتساويان في احتياجهما للعمل، وكل ذلك يتعارض مع الاحتياجات الفعلية للمجتمع، التي تتشكل وفق ثقافته وقيمه الاجتماعية.
ولو استمعنا إلى صوت العقل والمنطق السليم فسنجد أن التوسع في عمل المرأة في ظل وجود بطالة حقيقية واسعة الانتشار وخطيرة الآثار في أوساط الشباب أمرٌ مستهجنٌ وغير مقبولٍ، بل إن المنطق السليم يرفض حتى أن نساوي في الاهتمام بين الشباب والفتيات في توفير فرص التوظيف، وليس معنى ذلك رفض مبدأ توظيف النساء طالما أنه يحقق احتياجاً فعلياً في المجتمع لا يُسدّ إلاّ من خلال النساء، أو كان نتيجة لاحتياجات شخصية مادية أو معنوية، أو كان على سبيل التكميل والتحسين الذي لا يُوجد ما يمنع منه ما دام أنه منضبطٌ بالضوابط الشرعية والنظامية، فلا يعرِّض المرأة للاختلاط بالرجال أو التكشف المحرم، ويتوافق مع طبيعتها، ولا يوقعها في الضرر..
إنما الذي لا أرى له ما يسوّغه موضوعياً، بل أرى أنه يختلف مع الفطرة البشرية والمنطق السليم هو المساواة في الفرص الوظيفية بين الشباب والفتيات، في ظل شيوع البطالة بشكل واسع في صفوف الشباب، وأولى من ذلك بالرفض الاهتمام بتوظيف النساء على حساب الشباب، والتوسّع غير المنضبط في فرص ومجالات عمل النساء على حساب المستحقين من الشباب، كما أنه يتعارض مع القواعد الشرعية والنظامية، فإنه كذلك لا ينسجم مع المنظومة القيمية السائدة في المجتمع السعودي، وله تبعات سلبية على التركيبة الاجتماعية، ومن أبسط تلك التبعات أن التوسع في توظيف الفتيات على حساب الشباب، مع وجود معاناة واسعة في صفوف الشباب بسبب عدم توفر فرص وظيفية لهم يزيد من المشكلات والأزمات الأخلاقية، ويفاقم من ظاهرة العنوسة التي بدأت تدق ناقوس الخطر في مجتمعنا، وأخذت تنتشر وتتوسع، مع إلحاح متزايد لضغوط المغريات والمثيرات..
وتوظيف الفتاة -كما يشهد بذلك الواقع- يشغلها في كثيرٍ من الحالات عن الزواج وتكوين الأسرة، بل قد يكون سبباً في فوات قطار الزواج عليها، كما أن توظيف المرأة لا يمكِّنها من أن تفتح بيتاً زوجياً طالما أن زوجها عاطل عن العمل، ولكن على العكس من ذلك فتوظيف الشاب العاطل يسهل عليه الزواج، حتى وإن لم تُتح فرصة وظيفية لزوجته.
ومن ناحية اقتصادية فإن القول: بأن عمل المرأة يساهم على الإطلاق في إنعاش الاقتصاد وزيادة الناتج القومي قول غير دقيق، إلاّ في حالة وجود عجز في الأيدي العاملة الوطنية من الرجال، واقتضت المصلحة العامة سد الاحتياج التنموي بأعداد من النساء وفق الضوابط الشرعية والنظامية في البلد، أما في واقعنا المحلي المعاصر فإطلاق هذا القول مجانبةٌ للصواب؛ لأنه لا تزال نسبة البطالة من الرجال نسبة كبيرة، ولا يسوغ عندئذٍ أن يكون اهتمامنا بتوظيف الفتيات أكثر أو يساوي اهتمامنا بالشباب، وهنا نقول إن خروج المرأة للعمل من دون اضطرارٍ ولا حاجةٍ، وفي ظل وجود بطالة شبابية واسعة يحمل المجتمع أعباءً مالية واجتماعية وتربوية كبيرة، لا تساوي قدر المكاسب الحاصلة من عمل المرأة.
وعلى مستوى العائد المالي الشخصي للمرأة الموظفة: فإن الواقع يشهد بأن كثيراً منه يصرف في أغراض استهلاكية تُوجبها ظروف الوظيفة لا ظروف الاحتياج الشخصي للمرأة؛ فراتب الموظفة يذهب جزءٌ كبيرٌ منه في رواتب الخادمة والمربية والسائق، وفي تكاليف اللباس، وأدوات التجميل، والتي تحتاجها المرأة نظراً لخروجها اليومي، وهذه الاحتياجات لم تجب على المرأة إلاّ بسبب ظروف عملها، وما يعود على المرأة الموظفة حقيقةً قد لا يتجاوز في كثيرٍ من الحالات نصف الراتب أو أقل من ذلك، وقد لا يساوى ذلك المقابل الجهد المبذول والتضحيات التي قدمتها المرأة مقابل الوظيفة، إلاّ إن كان دفعها لذلك الاضطرار الشخصي أو المجتمعي.
إن المنطق الشرعي والعقلي يوجب أن يكون الاهتمام في التوظيف موجهاً بالدرجة الأولى إلى الشباب ثم إلى النساء بعد ذلك، كما أن منطق الحقوق يوجب أن تكون الحقوق الممنوحة متناسبة مع حجم المسؤوليات والالتزامات الواجبة على الفرد، ولا يسوّغ أن نطالب بالمساواة في الحقوق بين أفراد تختلف المسؤوليات الواجبة عليهم في بعض جوانبها اختلافاً جوهرياً، كما هو الحال في الواجبات الاجتماعية الواجبة على الرجل والمرأة؛ فالرجل في الشريعة الإسلامية، وفي العرف السائد في المجتمع السعودي هو المكلف في الأصل بالنفقة على من تحت يده من النساء وغيرهم، والمرأة لا يجب عليها شيء من ذلك حتى ولو كانت غنية، فكيف يسوغ والحالة هذه أن ينصرف اهتمام بعض مؤسسات المجتمع إلى توظيف المرأة على حساب الرجل أو يساوي بينهما؟!
فعمل المرأة كأجيرة في الأوضاع الطبيعية لا يُعدّ في الغالب من الاحتياجات الرئيسة للمرأة أو للمجتمع، باستثناء حالات محدودة كالحاجة إلى المرأة في القطاع الصحي والتعليمي، وفي القطاعات والمجالات الأخرى التي تحتاج المرأة أن تتعامل معها بنفسها، وفي حالات الاحتياج الشخصي، وإنما يأتي عملها في الغالب كاحتياج ثانوي، وهذا الأمر يجب أن يكون له أثره على أولويات الاهتمام والتوظيف من مؤسسات المجتمع الحكومية والأهلية.
وبناءً على ما سبق فلا يسوغ أن ننظر إلى بطالة الذكور والإناث، ونحدد حجمها من خلال نفس المعايير، دون مراعاة الاختلاف الجوهري في الواجبات والمسؤوليات المناطة بكلٍ منهما، محتجين بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، بل الواجب هنا هو مبدأ العدل لا المساواة، والذي يقتضي أن تتناسب الحقوق مع الواجبات، وما ألحظه أن وزارة العمل تنظر لبطالة الذكور والإناث، وتتعامل معها من خلال معايير موحدة، وهذه منهجية تفتقد للدقة والواقعية، وإذا انتقلنا إلى زاوية أخرى للقضية، ونظرنا إلى نوعية الوظائف والأعمال التي تُطرح ضمن تطبيقات توسيع فرص ومجالات عمل المرأة -لا سيما في القطاع الخاص- وتحظى بتسويق إعلامي واسع على الصعيد المحلي لرأينا أن هناك سعياً غريباً لتطبيع نوعيات معينة من الأعمال والوظائف، التي تتعارض مع ثقافة المجتمع ومنظومته القيمية، أو على أقل الأحوال لا تحظى بقبول اجتماعي، كالعمل في البيئات المختلطة من دون ضرورة فعلية لذلك.
والسؤال الذي يطرح نفسه:
لماذا يحاول البعض أن يفرض على المجتمع بعض الأعمال التي لا يُرحب بها غالبية الشعب (2 )، وتختلف مع نظام المجتمع العام؟! أَوَليس احترام النظام العام في المجتمع -بصفته مجموعة القيم والمبادئ، والعادات التي يؤمن بها ذلك المجتمع، ويستهجن الخروج عليها- أمراً توجبه النظم والأعراف القانونية على الجميع؟! لماذا يركز الخطاب الإعلامي على عمل المرأة المختلط بالرجال، وكأنه ليس هناك غيره من الأعمال التي يمكن للمرأة العمل فيها؟! وهل يعود ذلك إلى أن هناك من يهدف إلى كسر الحاجز النفسي، وتخفيف الرفض الاجتماعي تجاه العمل المختلط؟!
أين تفعيل وزارة العمل للأعمال المتوافقة مع الأحكام الشرعية والنظام العام للمجتمع، والتي تحظى بقبول اجتماعي؛ كصور العمل المختلفة في الأوساط النسائية؟ لماذا لم تُفعل وزارة العمل بشكل جدي إلى الآن التوصية الواردة في القرار الملكي القاضي بتوسيع عمل المرأة وفق الأحكام الشرعية، والتي تنص على تفعيل تطبيقات العمل عن بعد عبر الوسائط الإلكترونية، والذي يضمن للمرأة أن تقوم بواجباتها الأسرية بشكل أفضل في جو من الراحة والخصوصية والأمان؟!
إن الملاحظ أن هناك ممارسات حثيثة تدفع بالمرأة دفعاً لكي تخرج من المنزل، وتبحث عن الوظيفة، وتثبت قدراتها على منافسة الرجل في كثيرٍ من المجالات وتحقيق ذاتها، وكأن هناك صراعاً وخصومة بين الرجل والمرأة، وعلى المرأة أن تسعى لكسب الصراع لصالحها، وتحقيق الانتصار على الطرف الآخر، وفي خضم ذلك يلمّع الخطاب الإعلامي المرأة الموظفة، ويبرزها للرأي العام في المجتمع على أنها هي المرأة المنتجة التي تخدم الوطن، وتشارك بفعالية في عملية تنميته، ولو كان عملها على حساب واجباتها الأسرية، بينما المرأة غير الموظفة فإنها تصور على أنها امرأة ناقصة وعاطلة عن العمل، حتى ولو كانت تقوم بدورها الرائد في تربية أبنائها والاهتمام بشؤون أسرتها، في سعيٍ إلى التهوين والتقليل من الواجب الشرعي والوطني المناط بها تجاه أبنائها، وكأنه دورٌ هامشيٌ قليل الجدوى، ولا يقوم به إلاّ الأمهات محدودات الثقافة، وذلك خلطٌ وتلاعبٌ عجيبٌ بالمفاهيم والمصطلحات يجب التنبه إليه.
الشيخ: محمد بن عواد الأحمدي
____________________________
(1) ومن الشواهد الواقعية على شعبية الخطاب المحافظ في المملكة وضعف شعبية الخطاب الليبرالي، على سبيل المثال لا الحصر: نتائج الانتخابات البلدية وتفاعل كثير من شرائح المجتمع مع الشخصيات ذات التوجه الإسلامي، أو مع الأشخاص الذين أشاد بهم العلماء والدعاة، وانظر في ذلك إلى دراسة استقرائية قيمة أعدها مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام في جزأين تحت عنوان (تديّن السعوديين)، كما أن من الدراسات الدالة على ذلك دراسة ميدانية قام بها مؤخراً جهاز الإرشاد والتوجيه في الحرس الوطني على عينة عشوائية من النساء السعوديات، وعبر عدد من المتخصصين شملت مختلف الأعمار والفئات، وتوصلت الدراسة إلى أن كثيراً من الأفكار والمطالبات التي تشيع في الصحف، ويطالب بها الخطاب الليبرالي لا تحظى بالقبول والانتشار في الأوساط النسائية، بل إن غالب النساء يعارضن ذلك، فقد أوضحت الدراسة أن 88% من النساء يرفضن قيادة المرأة للسيارة، و92% يرفضن سفر المرأة إلى الخارج للدراسة من دون محرم، و90% منهن يرفضن العمل المختلط بالرجال الأجانب في المجمعات السكنية والفنادق ونحو ذلك، وحول ظلم المرأة كشفت الدراسة أن قطاعات كثيرة من النساء لا ترى ثمة فرقاً بينها وبين الرجال في نسبة احتمالات التعرض للظلم (صحيفة الجزيرة، العدد رقم:12337).
(2) انظر على سبيل المثال إلى نتائج الدراسة السابقة التي قام بها جهاز الإرشاد والتوجيه في الحرس الوطني، وإلى الدراسة الميدانية التي أجرها مركز مسبار للدراسات والبحوث والإعلام، والتي أظهرت أن 72% من المواطنين لا يؤيدون عضوية المرأة في المجلس البلدي، وعلل 69.5% منهم ذلك لوجود مخالفات شرعية تترتب على مشاركة المرأة في المجالس البلدية، في إشارة إلى العمل المختلط مع الرجال الجانب، والذي يحصل من جراء ذلك (صحيفة المدينة في العدد رقم 16633)، إلى غير ذلك من الدراسات والبحوث التي تؤكد أن العمل المختلط لا يحظى بالقبول والترحيب الاجتماعي، وإن مارسه البعض للحاجة أو بسبب التقصير، ولكنه يبقى أنه يفضل غيره لو أتيح له.
محمد بن عواد الأحمدي
- التصنيف: