التهنئة بالعام الهجري الجديد
إنَّ التهنئة بما يُسَرُّ به المسلم ممَّا يطرأ عليه من الأمور المباحة بكل ما فيه تجدُّد نعمة أو دفْع مصيبة، كالتهنئة بالنِّكاح، والتهنئة بالمولود الجديد، والتهنئة بالنجاح في عمل أو دراسة، أو ما شابه ذلك من المناسبات التي لا ارتباط لها بزمان معيَّن، فهذا من الأمور العادية التي لا حرج فيها..
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على خاتم الأنبياء والمرسَلين، أمَّا بعدُ..
فإنَّ التهنئة تكون على أحوال:
إمَّا أن تكون بما يُسَرُّ به المسلم ممَّا يطرأ عليه من الأمور المباحة بكل ما فيه تجدُّد نعمة أو دفْع مصيبة، كالتهنئة بالنِّكاح، والتهنئة بالمولود الجديد، والتهنئة بالنجاح في عمل أو دراسة، أو ما شابه ذلك من المناسبات التي لا ارتباط لها بزمان معيَّن؛ فهذا من الأمور العادية التي لا حرج فيها، ولعلَّ صاحبها يؤجر عليها لإدخاله السرور على أخيه المسلم فالمباح -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "بالنيَّة الحَسنة يكون خيرًا، وبالنية السيِّئة يكون شرًّا"، فهذا بين الإباحة والاستحباب.
وإمَّا أن تكون التهنئة في أزمان معيَّنة كالأعياد والأعوام والأشهر والأيَّام، وهذا يحتاج إلى بيان وتفصيل، وتفصيله كما يلي:
- أمَّا الأعياد (عيد الأضحى، وعيد الفطر) فهذا واضح لا إشكالَ فيه، وهو ثابت عن جمْع من الصحابة.
- وأمَّا الأعوام فكالتهنئة بالعام الهجري الجديد، أو ما يُسمَّى رأس السَّنة الهجرية.
- وأمَّا الأشهر فكالتهنئة بشهر رمضان، وهذا له أصلٌ، والخلاف فيه مشهور.
- وأمَّا الأيَّام، فكالتهنئة بيوم ميلاد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أو بيوم الإسراء والمعراج وما شابه ذلك، والحُكم فيه معروف، وهو من البدع لارتباطه بمناسبات دِينيَّة مُبتدَعة.
وكل هذه التهاني ما عدا الأوَّلَ منها لم يثبت فيها شيء عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا عن الصحابة الكرام، ولا عن أحدٍ من السَّلف، مع أن موجبها انعقد في زمن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والصحابة رضي الله عنهم، ولم يوجد المانع، ومع ذلك لم يُنقل عن أحدٍ منهم أنه فعَل ذلك، بل قصَروا التهنئة على العيدين فقط.
والتهنئة بالعام الجديد لم تكن معروفة عند السلف، لكنْ لمَّا شاعت في الأزمنة المتأخرة وسُئل العلماء المعاصِرون عنها اختلفوا على قولين:
الأول: الإباحة وأنَّها من العادات، ومن هؤلاء الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله حيث قال: "أرى أن بداية التهنئة في قدوم العام الجديد لا بأس بها، ولكنها ليست مشروعةً بمعنى: أننا لا نقول للناس: إنَّه يُسنُّ لكم أن يهنئ بعضكم بعضًا، لكن لو فعلوه فلا بأس، وإنما ينبغي له أيضًا إذا هنَّأه في العام الجديد أن يسأل الله له أن يكون عامَ خيرٍ وبركة؛ فالإنسان يردُّ التهنئة، هذا الذي نراه في هذه المسألة وهي من الأمور العادية، وليست من الأمور التعبديَّة" (لقاء الباب المفتوح)، وله رحمه الله كلامٌ آخَر ضبط فيه المسألة فقال في (اللقاء الشهري): "إن هنَّأكَ أحد فَرُدَّ عليه، ولا تبتدئ أحدًا بذلك، هذا هو الصواب في هذه المسألة، لو قال لك إنسان مثلًا: نهنِّئك بهذا العام الجديد، قل: هنَّأك الله بخير، وجعله عام خير وبركة، لكن لا تبتدئ الناس أنت؛ لأنَّني لا أعلم أنه جاء عن السلف أنهم كانوا يهنِّئون بالعام الجديد، بل اعلموا أنَّ السلف لم يتخذوا المحرَّم أول العام الجديد إلَّا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه"، وقال في (الضياء اللامع: ص:702): "ليس من السُّنة أن نُحدِث عيدًا لدخول السَّنة الهجرية، أو نعتاد التهاني ببلوغه" (انتهى). وقد نقل بعضُهم في إباحة هذا الفعل كلامًا غير محرَّر للقمولي والسيوطي من متأخِّري الشافعية، ولأبي الحسن المقدسي من الحنابلة، أُعرِض عن ذِكره؛ خشية الإطالة.
الثاني: القول بالمنع مطلقًا، وهو الراجح، وممَّن قال به الشيخ صالح الفوزان؛ حيث سُئل عن التهنئة بالعام الهجري الجديد، فأجاب: "لا نعرف لهذا أصلًا، والتأريخ الهجري ليس المقصود منه هذا أن يُجعل رأس السنة مناسبة وتُحيا، ويصير فيها كلام وعيد وتهانٍ، وإنما جُعل التأريخ الهجري من أجل تمييز العقود فقط، كما فعَل عمر رضي الله عنه لمَّا توسَّعت الخلافة في عهده، صارت تأتيه كتُب غير مؤرَّخة، احتاج إلى أنه يضع تأريخًا تُعرَف به الرسائل وكتابتها، استشار الصحابة، فأشاروا عليه أن يجعل الهجرة مبدأَ التأريخ الهجري، وعدَلوا عن التأريخ الميلادي، مع أنَّه كان موجودًا في وقتهم، وأخذوا الهجرة وجعلوها مبدأ تاريخ المسلمين؛ لأجل معرفة الوثائق والكتابة فقط، ليس من أجل أن تُتَّخذ مناسبة ويتكلَّم فيها، هذا يتدرَّج إلى البِدع.. سؤال: إذا قال لي شخص: كل عام وأنتم بخير؛ فهل هذه الكلمة مشروعة في هذه الأيَّام؟
جواب: لا، ليست بمشروعة، ولا يجوز هذا" (ا.هـ انظر:الإجابات المهمَّة في المشاكل الملمَّة:ص:229).
والناظر إلى هذه المسألة يجد أنَّ القول بالمنع يتأيَّد بعِدَّة وجوه؛ فمن ذلك:
1- أنَّها تهنئة بيوم معيَّن في السَّنة يعود كلَّ عام، فالتهنئة به تُلحِقه بالأعياد، وقد نُهينا أن يكون لنا عيد غير الفطر والأضحى؛ فتُمنع التهنئة من هذه الجِهة.
2- ومنها: أنَّ فيها تشبُّهًا باليهود والنصارى، وقد أُمرنا بمخالفتهم؛ أمَّا اليهود فيُهنِّئ بعضهم برأس السَّنة العبرية، والتي تبدأ بشهر (تشري) وهو أوَّل الشهور عند اليهود، ويحرُم العمل فيه كما يحرُم يوم السبت، وأمَّا النصارى فيُهنِّئ بعضهم البعض برأس السَّنة الميلادية.
3- أنَّ فيها تشبُّهًا بالمجوس ومشركي العرب؛ أمَّا المجوس فيُهنِّئ بعضهم في عيد النيروز، وهو أوَّل أيَّام السنة عندهم، ومعنى (نيروز): اليوم الجديد، وأمَّا العرب في الجاهليَّة، فقد كانوا يُهنِّئون ملوكهم في اليوم الأوَّل من محرَّم، كما ذكر ذلك القزويني في كتابه: (عجائب المخلوقات)، وانظر لذلك كتاب: (الأعياد وأثرها على المسلمين) للدكتور سليمان السحيمي.
4- ومنها: أنَّ جواز التهنئة بأوَّل العام الهجري الجديد يفتح الباب على مِصراعيه للتهنئة بأوَّل العام الدراسي، وبيوم الاستقلال، وباليوم الوطني، وما شابه ذلك ممَّا لا يقول به بعضُ مَن أجاز التهنئة بأوَّل العام، بل إنَّ جواز التهنئة بهذه أَوْلى؛ حيث لم يكن موجِبُها منعقدًا في زمن الصحابة رضي الله عنهم بخلاف رأس السَّنة.
5- ومنها: أنَّ القول بجواز التهنئة يُفضي إلى التوسُّع فيها؛ فتكثُر رسائل الجوَّال، وبطاقات المعايدة -وإن سمَّوْها بطاقات تهنئة- وعلى صفحات الجرائد ووسائل الإعلام، وربما صاحَبَ ذلك زياراتٌ للتهنئة، واحتفالات وعُطَل رسميَّة، كما هو حاصل في بعض الدول، وليس لمن أجاز التهنئة بأوَّل العام الهجري الجديد وعدَّها من العادات حُجَّة في مَنْع هذا إذا اعتاده الناس وأصبح عندهم من العادات؛ فسَدُّ هذا الباب أَوْلى.
6- ومنها: أنَّ التهنئة بالعام الهجري الجديد لا معنى لها أصلًا؛ إذ الأصل في معنى التهنئة: تجدُّد نِعمة أو دفْع نِقمة؛ فأيُّ نِعمة حصَلَت بانتهاء عام هجري؟! والأَوْلى هو الاعتبار بذَهاب الأعمار، ونقص الآجال.
وعليه: فالقول بالمنع أَوْلى وأحرى، وإنْ بدَأَك أحدٌ بالتهنئة فالأَوْلى نُصحُه وتعليمه؛ لأنَّ ردَّ التهنئة فيه نوع إقرار له، وقياسها على التحيَّة قياس مع الفارق!
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آلِه وصَحْبِه وسلَّم.
- التصنيف: