الصناعة المالية الإسلامية والربح الأخلاقي
من المدهش أن تنبعث أصوات شتى تستنجد بالاقتصاد الإسلامي، وقد قرأنا الكثير منها، وكان من أعجبها المقال الذي نُشر في السابع من مارس 2009م، في صحيفة الفاتيكان الرسمية، داعياً البنوك في مختلف أنحاء العالم إلى أن تتبنى مبادئ المصرفية الإسلامية، لاستعادة الثقة بالاقتصاد العالمي.
هناك تحديات كبيرة تقف أمام الفقه الإسلامي المعاصر، والمؤسسات المنتسبة إلى هذه المرجعية، كالمؤسسات المالية الإسلامية، وغيرها من المؤسسات الربحية المستندة إلى مرجعية إسلامية، ويتمثل هذا التحدي في مدى قدرة هذه المؤسسات على الصمود في السوق، مع الاحتفاظ بالقواعد الأخلاقية التي ترفع شعارها، وذلك بعد أن تحوّلت الصناعة المالية الإسلامية إلى صناعة صاعدة مدفوعة بالانكماش الكبير، الذي لا يزال يخنق الاقتصاد الليبرالي..
وهذا يتطلب من مؤسسات المال الإسلامية تقديم خدمات نوعية قابلة للحياة، تجمع بين: (الاحترافية المهنية، والمعيارية الشرعية)، وتتسم بقدر من المخاطرة العاقلة، فلا هي مضمونة الفائدة كـ(أدوات الربا)، ولا هي عالية المخاطرة كـ(أدوات المقامرة)، وهذا ممكن لو توفّر لهذه المؤسسات الإدارة الجادة في تبني الحلول الإسلامية، والهيئة الشرعية الواعية بفقه الشريعة، والرقابة الشرعية الحثيثة، التي تتابع تنفيذ ما تقره تلك الهيئات..
ولا يقلل من شأن هذه التحديات أن العالم اليوم يرمق تلك المؤسسات، وهو مثخن بجراح الانكماش الائتماني، ويتوقع أن تقوم صناعة المال الإسلامية بدور ما لإصلاح الأعطاب التي أحدثتها المؤسسات الليبرالية، على صعيد الاقتصاد، ومن المدهش أن تنبعث أصوات شتى تستنجد بالاقتصاد الإسلامي، وقد قرأنا الكثير منها، وكان من أعجبها المقال الذي نُشر في السابع من مارس 2009م، في صحيفة الفاتيكان الرسمية، داعياً البنوك في مختلف أنحاء العالم إلى أن تتبنى مبادئ المصرفية الإسلامية، لاستعادة الثقة بالاقتصاد العالمي.
ومما نشرته (لوريتا نابوليوني) وهي اقتصادية إيطالية، و(كلوديا سيجري) وهي محللة إستراتيجية لاستثمارات الدخل الثابت في البنك الاستثماري الإيطالي (أباكس بانك): "أن المبادئ الأخلاقية التي تقوم عليها المصرفية الإسلامية ربما تعمق العلاقة بين البنوك وعملائها، وتجعلها أقرب إلى الروح الحقيقية التي ينبغي أن تكون شعار كل خدمة مالية" (اهـ)، نقلاً عن جريدة: (الاقتصادية العدد:5699)، ومما يزيد المتابع عجباً: أن هذه الفتاوى الكاثوليكية جاءت في الوقت المناسب؛ لترد بطريق غير مباشر على مطالبات بعض المحافظين واليمينيين في الولايات المتحدة الأمريكية بالحد من انتشار الصناعة المالية الإسلامية.
إن الفقه الإسلامي أكثر رحابة ومتسعاً مما يظنه بعض أبنائه المعجبين بتجارب أعدائه، لكن إحدى المشكلات تكمن في توجه مؤسسات الصناعة المالية الإسلامية إلى الأدوات المشبوهة، ويبدو أن من أسباب المشكلة العقلية النفعية التي يفكر بها بعض القائمين على تلك المؤسسات، فليس كل من يرفع شعار الإسلام يكون مقتنعاً به مؤمناً بمبادئه دائماً، هناك رواد مؤمنون بالنموذج الإسلامي، ويتبنون النهج الإسلامي بوصفه ديناً، قبل أن يكون طريقة لجمع المال، وثمة شريحة أخرى تؤمن إيماناً براجماتياً، فالفكرة التي تدرّ ربحاً أكثر هي الفكرة الأصح، الأجدر بالتعاطي دائماً، بغض النظر عن مدى أخلاقيتها وانسجامها مع قواعد الشريعة.
فإذا كان الاستثمار في الأدوات الإسلامية مجدياً فهم على هذا ملتزمون بالمعايير الإسلامية، وإذا تغير المؤشر تغيروا، وسرعان ما يتحولون من مجال استثماري إلى آخر لمجرد كونه أجدى نفعاً، وأوفر ربحاً، وهذا لا يعني أن المعايير الشرعية والأخلاقية أقل جدوى؛ فالعالم اليوم اكتشف أن هذه المعايير أكثر واقعية في نظرتها إلى الاقتصاد الكلي والجزئي، وأعلى ضماناً من أدوات الاقتصاد الليبرالي ذاته؛ فالأدوات الاستثمارية الإسلامية تتعامل مع الموجودات الحقيقية، لا الأصول الوهمية كـ(الديون، وخدمات الديون، والنقود المتولدة عنها)، كما أن الأزمة قد كشفت لهم أن النموذج الإسلامي يكافح الأورام الربوية المسببة للعديد من المشكلات، ومنها: (التضخم)، وأن النداءات المتكررة من قبل فقهاء الشريعة بأن يكون سعر الفائدة (صفراً)، كما نادى به عدد من علماء الاقتصاد من الليبراليين أيضاً، هو أحد مفاتيح الحل لهذه الاضطرابات التي تضرب في كل مكان.
إن مما يحزن المسلم أن تظل مجالس الإدارة في بعض المؤسسات المالية الإسلامية تسلك مسلك التلفيق غير المقبول، وتطرح منتجات مشوّهة، فلا هي تقليدية -ربوية- محضة، ولا هي شرعية محضة، ولما كانت تلك المنتجات التقليدية لا تتوافق مع النموذج الشرعي، صاروا يطالبون بفتاوى البدائل القريبة من النموذج التقليدي، وبما أن المستشار الشرعي يفتقر أحياناً إلى المؤهلات المطلوبة كـ(الملكة الفقهية في فن المعاملات)، وإلى الحصانة التامة إزاء ضغوط الإدارة، أو أنه مشغول بأعمال أخرى عديدة، فقد ظهرت نماذج شائهه من الأوراق المالية الموصوفة بأنها إسلامية، ممهورة بتوقيعه، ولو أنه لم يحسن الظن كثيراً بمجلس الإدارة، وأصر على الالتزام بالمعايير الشرعية المعتمدة من الجهات الموثوقة، لكانت المؤسسات المالية أكثر موثوقية لدى الأقرباء والبعداء.
لقد ظلت المنتجات الإسلامية زماناً طويلاً تسلك الطريق الأسهل، وهو محاكاة المنتجات التقليدية، وقد تواطأت معها بعض الفتاوى، تأليفاً للقلوب ومراعاة للظروف الصعبة التي نشأت فيها الصناعة، وهذا الطريق مع سهولته إلاّ أنه لا يمنح الصناعة المالية الإسلامية تميزاً حقيقياً، ولا يقنع الآخرين بتفرد التجربة الإسلامية، بل إنه يؤدي في مآلاته ومستقبلاته إلى ذات النتيجة التي تفضي إليها الصناعة المالية التقليدية، ما بين تضخم وانكماش.
فالمنتجات التقليدية تضمن للتاجر رأس المال مضافاً إليه الفائدة، وتلغي المخاطرة كما في (السندات، والتوريق التقليدي)، وهذا مخالف للنموذج الشرعي الذي يشترط تحمل التاجر جزءاً من المخاطرة، فالربح غير مضمون شرعاً، بيد أن بعض الفتاوى اتجهت إلى ما يشبه إلغاء المخاطرة لكن بأسماء أخرى، كـ(التعويض عن نقص الربح الفعلي) باسم الهبة أو التبرع أو القرض أو غيره، وهو ما لا يجوز فقهاً، سواء نص عليه صراحة في العقد، أو كان معروفاً عرفاً، وقد أكد على ذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الأخيرة (جمادى الأولى:1430هـ ).
وقد أحسن المجمع المذكور إذ دعا السلطات التشريعية في الدول الإسلامية إلى إيجاد الإطار القانوني المناسب، والبيئة القانونية الملائمة والحاكمة لعملية التصكيك، من خلال إصدار تشريعات قانونية ترعى عمليات التصكيك بمختلف جوانبها، وتحقق الكفاءة الاقتصادية والمصداقية الشرعية بشكل عملي، ذلك أن الدعم السياسي والتأطير القانوني لعملية التصكيك من أهم المقومات التي تؤدي دوراً حيوياً في نجاح هذه الصناعة.
إن الفقه الإسلامي ليس (جعجعة في الهواء)، بل هو معايير أخلاقية وجدوى مادية تدر ربحاً، لكنه ربح عادل نزيه يفي بمتطلبات أصحاب رؤوس الأموال، ولا يجحف بأموال العملاء، وإن اعتراف الفاتيكان ليؤكد ما يوقن به كل مؤمن من أن هذا الدين قد جاء رحمة للعالمين، ولكن! هل يعترف بذلك النفعيون من أثريائنا؟!
هذا ما ننتظره.
خالد المزيني
- التصنيف: