مهارات الكلام

منذ 2014-03-24

إن الصوت المتزن الذي يتسم بالهدوء ويعبر عن الثقة في النفس والتحكم في العبارات، ووضوح النبرات ومرونة الآداء ودقة المعاني، فإن الناس تقبل عليه وتُصغي له، لا يشغلهم شاعل ولا يطاردهم وقت.

الاعتدال وضبط مستوى الصوت:
يترك مستوى الصوت أول انطباع لدى المستمع تجاه المتحدث، وهو ما يسمى في علم النفس (بتكنيك الحديث)، فإن كان منخفضاً إلى درجة استماع المخاطب دل ذلك على ضعف ثقة المتحدث بنفسه، وقلة السيطرة وضعف اليقين، مما يدفع المخاطب إلى الضجر، وانعدام الرغبة في المتابعة، فإن كان مضطراً إلى الاستماع تغشاه النعاس.

أما إذا كان الصوت مرتفعاً صاخباً أوحى بالريبة والقلق وعدم الثقة بالنفس، فمن الصعب أن يقنع المستمع ببراعة وتوفيق صاحب الصوت الصاخب المرتفع، مما حدا ببعض المشاهير مثل الرئيس الأمريكي (جورج بوش) إلى تلقي تدريبات صوتية بعد أن باء بالفشل في انتخابات الرئاسة عام 1988، فقد كان صوته يتسم بالحدة والعنف، وبالمثل فعلت رئيسة الوزراء البريطانية (مارجريت تاتشر) فقد تلقت تدريبات لتخفيض حدة صوتها، رغبة في فرض نفوذها بشكل فعال.

وقد شبه سبحانه وتعالى الصوت المرتفع بأبشع الصور وأقبح الأصوات بصوت الحمير، تأكيداً للنهي وتوبيخاً للفعل، حثاً على الإقلاع عنه ودفعاً للاتزان والاعتدال، حيث أن أصوات الحمير محط سخريه ونفور لبشاعة أصواتها، قال تعالى على لسان لقمان: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، ومدح القرآن المؤمنون الذين يغضون ولا يرفعون أصواتهم في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3].

ويشير علماء النفس إلى أن علو الصوت يدل على بطلان حُجة صاحبه، وأن الصوت الهادئ المعتدل يدل على صدق صاحبه، وقوة حجته، وثقته بنفسه، في حين أن الصوت المتزن الذي يتسم بالهدوء ويعبر عن الثقة في النفس والتحكم في العبارات، ووضوح النبرات ومرونة الأداء ودقة المعاني، فإن الناس تقبل عليه وتُصغي له، لا يشغلهم شاعل ولا يطاردهم وقت، فضلاً عن أن الصوت المعتدل يزيد من الألفة والطمأنينة، وكذلك الاحترام المتبادل، مما يعمل على زيادة العلاقات الاجتماعية، وتوسيع دائرتها.

وذلك هو الثابت من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ يقول ابن القيم: "كان إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد، ليس بهذ مسرع، لا يحفظ ولا منقطع، تخلله السكتات بين أفراد الكلام، بل هديه فيه أكمل الهدي، وكان صلى الله عليه وسلم يوجه صحابته ويوصيهم بالتوازن والاعتدال في مستوى الصوت وإن كانوا يقرؤون القرآن، عن أبي قتادة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض من صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته قال: فلما اجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك، قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله وقال لعمر: مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك، فقال: يا رسول الله أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئا» (رواه أبو داود، الترمذي، وأحمد، وصححه الألباني في المشكاة:1204).

إيضاح الكلام (الفصاحة والبيان):
البيان هو اسم جامع لكل ما يكشف عن المعنى ويدل على المقصود، أما الفصاحة فهي تعني خلو الكلام من التعقيد، وبعدة عن التداخل في الألفاظ والمعاني، ومن هنا ينبغي استخدام الكلمات الواضحة، والعبارات الفصيحة، والألفاظ المستحسنة التي يفهمها المخاطب، والحروف المتمكنة في مخارجها غير قلقة ولا مكدوده، لأن ذلك يدل على البراعة في الأداء ويعبر عن الثقة في النفس، ويحفز المستمع على المتابعة والإصغاء، أما استخدام الكلمات الضعيفة والألفاظ الهزيلة والعبارات الغامضة، فإنها تدل على ضحولة الثقافة وقلة المعرفة والدراية بموضوع الحديث، كما تعكس مشاعر الخمول والكسل والتوتر والانفعال، ومن ثم عدم الرغبة في المتابعة.

وقالت عائشة رضي الله عنها في صفة كلام نبينا صلى الله عليه وسلم: "كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من يسمعه" (رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود:4051)، وقال الله تعالى في معرض المن وذكر النعم: {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآَنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ..} [الرحمن:1-4]، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم البيان بالسحر الذي يأسر القلوب ويملك العقول، حيث قال في حديث عبد الله بن عمرو: "إن من البيان لسحرا" (رواه البخاري:5767).

وقال ابن المعتز: "البيان ترجمان القلوب وصيقل العقول"، وسأل معاوية عمرو بن العاص: "من أبلغ الناس؟ قال: أقلهم لفظاً، وأسهلهم معنى، وأحسنهم بديهة"، وهناك بعض الكلمات التي قد يستخدمها المتحدث ولا يفهمها المستمع من أول وهلة، لذلك ينبغي التكرار حتى يحصل المقصود وهو الفهم والاستيعاب، فعن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً" (رواه البخاري:95). ومن الخطأ الزيادة على الثلاث، لأنه ينافي المقصود ويبعث على الرتابة والملل، فضلاً عن أنه الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

النهي عن الثرثرة:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثرثرة، وهي كثرة الكلام تكلفاً، لأنها تبعث على الملل والخمول، وتثير الضجر والازدراء، فضلاٍ عن كثرة الوقوع في الهفوات وارتكاب الأخطاء، إضافة إلى أنها تعبيراً عن الأنانية والأثرة والاكتراث بالذات، وعدم المبالاة بالأخرين، مما يؤدي إلى النفور والقطيعة، وذلك يتنافى مع مبادئ الإسلام، لذلك فقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم قبح هذه الخصلة، وأعلن أن صاحبها هو أبغض وأبعد الناس منه يوم القيامة..

عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون، قال: المتكبرون» (رواه الترمذي، وصححه الألباني في الصحيحة:791)، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم قصر الخطبة مع البيان، فعن عمار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خـطبته مئنة مـن فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرا» (رواه مسلم:869، وأحمد)، لذلك ينبغي الابتعاد عن التطويل الممل أو الاقتضاب المخل لأن الاكتفاء بعبارات مبتورة تثير استياء المخاطبين وتشعرهم بالاستخفاف بهم.
 

وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن *** ثرثارة في كل ناد تخطب


التواضع والبعد عن التشدق:
قد حث الإسلام على التواضع في الحديث ولين الكلام، ودعى إلى استخدام الكلمات المألوفة والعبارات الدارجة المفهومة، ونهى عن التقعر والتشدق في الكلام باستخدام الكلمات الغريبة والعبارات المعقدة، وقد حذر كل الحذر من هذه الصفة الذميمة التي لا تؤدي إلى بغض الناس فحسب، بل بغض الله عز وجل أيضاً، وذلك هو الخسران المبين، قال الله تعالى موصياً نبيه بالتواضع: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، وقال تعالى مبيناً جزاء التواضع: {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون، قال: المتكبرون»، وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها» (أخرجه أبو داود، والترمذي وأحمد، وصححه الألباني في الصحيحة:880)، أي الذي يظهر التفصح ويتعمد التشدق، فيتقعر ويتعمق في الكلام ويتكلفه، استعلاء على الغير، ورغبة في التقدير والوجاهة، وحباً في الظهور، وهذه صفات المتكبرون الذين يمقتهم الله عز وجل، لذلك شبههم بالبقرة، ووجه الشبه في إدارة لسانه حول أسنانه وفمه حال التكلم، كما تفعل البقرة بلسانها حال الأكل، وخص البقرة من بين البهائم لأن سائرها تأخذ النبات بأسنانها، والبقرة لا تحتش إلا بلسانها!

ومن صور التشدق: التكلم بلغة المثقفين في حضرة أنصاف المتعلمن والعامة، واستخدام المصطلحات والعبارات التي يقتصر فهمها على فئة معينة بحضرة من لا يدركونها، كأن يستخدم الطبيب المصطلحات الطبية في خطابه مع عامل بسيط استعلاءً عليه، ومن ذلك أيضاً استخدام الألفاظ الأجنبية ادعائاً للثقافة والمعرفة، فكلها أمور تثير الغضب والنفور، فمن غير المعقول أن يقبل الإنسان على من يتعالى ويتشدق عليه، وأن يأنس به ويطمئن إليه، فمن تواضع لله رفعه وأحبه، ومن أحبه وضع محبته في قلوب الخلق فما زاد الله عبداً بالتواضع إلا عزا.
 

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر *** على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه *** على طبقات الجوّ وهو وضيع


فمن أراد أن يأسر القلوب ويجذب العقول وتصغي له الآذان، فعليه أن يكون التواضع منهجه والبساطة قبلته والرفق بغيته، وأن يكون التكبر مرذول لديه والتشدق ممقوت عنده، إذا هابه أحد هون عليه أمره، وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له: «هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد» (رواه ابن ماجة، وابن سعد في الطبقات، وصححه الألباني في الصحيحة:1786)، فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء المخاطب، سواء بكثرة الكلام حتى لا يدع له فرصة يبدي فيها المخاطب رأيه، وكذلك بأن يتكبر على جلسائه ويتشدق عليهم بالألفاظ والكلام، فهؤلاء هم أبعد المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.

ترك ما لا يعنيه:
ينبغي للمتحدث ألا يتحدث في أمور الناس الخاصة، التي لا تعنيه، بحيث لا يضره السكوت عنها ولا ينفعه الكلام فيها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الترمذي:2317)، يعد المحدثين هذا الحديث من الأربعة أحاديث التي جمعت فأوعت، فهو يدعوا إلى عدم تتبع العورات، وحفظ الخصوصيات، والاقتصار على الذات، فهو منشأ الاحترام والتوقير، ومصدر الهيبة والكرامة، وهو مكمن العزة.
 

ازهد فيما عند الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسان إحسان


كل إنسان له عالمه الخاص الذي لا يريد من أحد أن يتدخل فيه، وإذا بادر شخص ما واقتحم عالمه بغير رضاه فسوف يحاول التصدي له بكل ما يستطيع، فيقع ما يبغضه الإسلام من الكراهية والبغضاء، ناهيك عن إهدار الوقت، والتعب والتنغيص الذي يحصل له، في حين أنه بإعراضه عن التدخل في أمور الناس واقتحام أسرارهم تحصل له الطمأنينة وراحة البال، وكما قيل: "من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه"، وذكر مالك: "أنه بلغه أنه قيل للقمان: ما بلغ بك ما نرى؟"، يريدون الفضل فقال: "صدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني" (ذكره ابن دقيق العيد في شرحه للأربعون النووية، ص126)، وروي عن الحسن أنه قال: "من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه"، قال الإمام الشافعي لصاحبه الربيع: "يا ربيع لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها"، وقيل: "من عرف شأنه وحفظ لسانه، وأعرض عما لا يعنيه، وكف عن عرض أخيه، دامت سلامته، وقلت ندامته، وإياك وفضول الكلام فإنه يظهر من عيوبك ما بطن، ويحرك من عدوك ما سكن".
 

احفظ لسانك لا تقول فتبتلى *** إن البلاء مُوكلُ بالمنطق


التؤدة والاطمئنان في الكلام:
المتحدث اللبق هو الذي يتسم كلامه بالترتيل والترسيل، فضلاً عن التؤدة والتمهل، ليفهم متحدثه مقصوده من الكلام، لا سيما ونحن نعيش في عصر اختلطت فيه الجنسيات وتنوعت فيه اللهجات، وتعددت فيه اللغات، وتعقدت أمور الحياة مع كثرة مطالبها، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يزين كلامه ويترسل فيه ليترك الفرصة لمستمعه عن التفكر والتدبر، بحيث يمكنه التعليق على فحوى الكلام إذا أراد، لا سيما وقد أكد العلم الحديث على أن الإنسان لا يمكنه التركيز وإستيعاب الكلام السريع الذي لا يتخلله السكون والتؤدة والتمهل..

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم، كان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه"، أي لو أراد المستمع عد كلماته وحروفه لأمكنه ذلك، لذلك استوعب الصحابة كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحفظوه (رواه البخاري:3567، ومسلم:2493)، عن عائشة قالت" "ألا يعجبك أبو هريرة جاء فجلس إلى جنب حجرتي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، يسمعني ذلك وكنت أسبح فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم" (رواه البخاري:3568، ومسلم:2493)، ولكن هناك بين الترسل والتأني والبطء الشديد المصاحب للحذلقة، فالأخير يؤدي إلى نفور السامع وضجره، لأن كلام متحدثه يسير الملل.

يبدأ الكلام الأكبر والأعلم:
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في الحديث عدم تصدر حديثي السن للكلام، وإبداء الرأي في حضرة من هم أكبر سناً وأكثر علماً، وهذا أمر ترتضيه الفطرة وتكاد تتـفق عليه المجتمعات على اختلافها، فبئس القوم الذين لا يبغون تحصيل خبرات من سبقوهم علماً أو سناً، ويرتضون خوض التجارب وتحمل النتائج، وقد أفرد الإمام البخاري في صحيحه باباً أسماه إكرام الكبير، وقال فيه: "ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال".

وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأنكر على من خالف، ففي حديث سهل بن أبي حثمة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا فأتى محيصـة إلى عبد الله بن سـهل وهو يتشمط في دمه قتيـلا فدفنه، ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسـعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال «كبر كبر» وهو أحدث القوم، فسكت فتكلما فقال: «تحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم»، قالوا وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: «فتبريكم يهود بخمسين» فقالوا كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟! فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده" (رواه البخاري:3173، ومسلم:1669)، والشاهد قوله: «كبر كبر»، وقال بعض أهل العلم فيه دلالة على اعتبار الكبر، وجمعوا بينه وبين أحاديث اليمين بأن القوم إذا كانوا في المواجهة يقدم الأكبر، أما إن كانوا عن اليمين والشمال قدم الأيمن تبركاً، وهنا يتضح مدى حرص الإسلام على شيوع الاحترم والتوقير بين أفراد المجتمع المسلم، ومراعاة النظام ونبذ والعشوائية والهمجية.
 

تعظيمك الناس تعظيم لنفسك في *** قلوب الأعداء طراً والأدواء
من عظّم الناس يعظُم في النفوس بلا *** مؤونة وينل عز الأعزاء


التأكد من صحة الكلام وعدم ترويج الشائعات:
ينبغي على المتحدث أن يراعي صحة ما يقوله ويحكيه، فيتثبت من كلامه ويرد الأمور إلى مصادرها الصحيحة، فلا يتلفظ إلا بما هو ثابت عنده، لأن الكلمة ربما تخرج من لسانه فلا يدري بها، فيأخذها غيره فيبني عليها أموراً لا حد لخطورتها، فترويج الإشاعات يؤدي غالباً إلى حدوث النكبات والأزمات التي تلحق بالأفراد والجماعات.

وقد تضاعفت خطورة الإشاعات مع التقدم التكنولوجي والثورة الهائلة في عالم الاتصالات، فقد ساهم ذلك أيما إسهام في سرعة وسهولة انتقال المعلومات عن ذي قبل، لذلك فقد أضحى تصديقها أكثر شراً وأسوء مصيراً، وقد عاين العالم كله الأزمة الاقتصادية التي شاهدتها البورصات الأمريكية التي نتجت عن إشاعة، لذلك قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، وقال تعالى أيضاً: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل سمع» (رواه مسلم:25)، فقد اعتبره الرسول صلى الله عليه وسلم كذاب.

تجنب الحلف بغير الله:
القسم تعظيم للمقسم به، ولا يجوز للمسلم أن يعظم غير الله تبارك وتعالى، لذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله، عن إبن عمر رضي الله عنهما: "أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله وإلا فليصمت» (رواه البخاري:6108، ومسلم:1646).

البعد عن التملق والمداهنة:   
من الناس من يتلون، فيأتي هؤلاء بوجه ولسان، وهؤلاء بوجه ولسان آخران، فهو سلوك بغيض وخلق كريه مذموم صاحبه عند الله ورسوله والناس أجمعين، لأنه يمتثل بسلوك يتنافى مع الأمانة والصدق والإخلاص، أي صفات المؤمنين الربانيين، ففي مثلهم قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجدون الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» (رواه البخاري:3494، 7179، ومسلم:2526).

قال القرطبي: "إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل وبالكذب مدخل للفساد بين الناس"، وقال النووي: "هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع، وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة"، قال: "فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود"، وقال غيره: "الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى، ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليه ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح.." (تحفة الأحواذي ج:6 ص:145)، وعن محمد بن زيد: "أن ناساً قالوا لجده عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلاطيننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعد هذا نفاقاً" (رواه البخاري:7178، وابن ماجة).

  

قل للذي لست أدري مـن تلونه *** أنا صـح أم على غش يناجيـني
   إنـي لأكثر مما سمتني عــجباً *** يد تشجع وأخرى منك تأسونـي
   تغتـابنـي عند أقوام وتمدحني *** في آخرين وكل عنك يأتـيـنـي
   هذان شيئان قـد نافيت بينهما *** فاكفف لسانك عن شتمي وتزينـي


ما يفعله من اشتمل كلامه على منهي عنه:
يتعامل الإسلام مع البشر من منطلق عدم العصمة، واحتمال الخطأ ومن ثم فقد وجه المخطأ إلى ما يصلحه حتى لا يتمادى في خطئه، ويصعب معه التغاضي عن الخطأ، ومن هنا إذا تكلم شخص بحرام، فليستعذ بالله من الشيطان، فإنما هو نزغ منه، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]، وبعد الاستعاذه يبادر بالتوبه والإكثار من الأعمال والأقوال الصالحه، قال تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق» (رواه البخاري:4860، ومسلم:1647)، وقال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، وللتوبه أركان: أن يقلع عن المعصيه، وأن يندم عليها، وأن يعزم على ألا يعود إليها، ولو تعلق الذنب بحق آدمي فلا بد من البراءة منه.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

محمد سلامة الغنيمي

باحث بالأزهر الشريف

  • 3
  • 3
  • 22,670

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً