صناعة الخاتمة
خالد أبو شادي
الطريق ممهد والسبيل واضح، يسيرة على من يسَّره الله عليه، شاقة على من بخل وأعرض ونام ف. وأنتم يا من لا زلتم رازحين تحت قيود المادة ..أيها المغترون ببريق الدنيا غافلين عن حرث آخرتكم ..هاكم الخاتمة التي يتبارى عليها الصالحون .. ارفعوها أمامكم عيونكم ..استحضروا هذه المكرمة في قلوبكم .. نقلت لكم خبرها لتغاروا فتقلِّدوا .. فينال الوالد الحبيب مزيد الثواب في قبره بعد أن انتفع الناس بموته كما انتفعوا بحياته.
- التصنيفات: الموت وما بعده -
قال رسول الله « ». (رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم)، عن أنس كما في صحيح الجامع رقم: 305 من الناس صنف كالهواء يملأ "الفراغ" من حولنا، و"ينتشر" بيننا موزِّعا نسماته وبركاته على كل من يمر به، سجية في النفس وطبعا لا تكلف فيه، وكما لا نستشعر أهمية الهواء حتى نفقده، وعندها يصيبنا الاختناق ونشعر بالألم، فكذلك هذا النوع الفريد من البشر نحس أن أرواحنا أصابها لون من ألوان الموت حين نفقده، فلا يعود هناك ما نستنشقه من عبير كلماته وعطر أفعاله، ولا أدري ما سبب عدم إحساسنا بقيمة هذا الجيل الذي يتوازن بهم الكون فلا يضطرب، ويرحم الله بهم عباده فلا ينزل بهم العذاب؟!!
أهي النفس الجحودة التي لا تدرك النعمة إلا بعد فقدها أم هو النسيان المغروس في طبيعة البشر أم هي أعباء الدنيا المتراكمة تلقي غشاوتها على القلوب والأبصار، أم هذه الثلاثة مجتمعة؟
أحسب من هؤلاء الأفذاذ والله حسيبه: الوالد الحبيب الحاج أحمد أبو شادي، وهو الذي أخذ بيدي لأدرج في مدارج الدعوة، وهو الذي كان سببا في حفظي لكتاب الله، وارتيادي ميدان الكتابة الإيمانية، وإن تعلمت منه الكثير في حياته ونهلت من مواقفه ثرية المعاني عميقة التأثير، فإن أبلغ دروسه وأوفاها عندي كانت عند وفاته.
واسمعوا، كم سمعت أبي يقول: أتمنى أن يتوفاني الله وأنا وسط إخواني في مهمة دعوية وأثناء خدمة الدعوة، وهذا أقصى ما أتمناه. وكان هذا سمته الذي صاغ طريقة حياته ورتَّب على أساسه أولوياته، حتى أن أحد إخوانه جاءه يوما ليصحبه في موعد دعوى اتفق عليه معه مسبقا، فإذا بالأخ يجد الوالد في حالة مرضية شديدة تحول بينه وبين الوفاء بوعده، فأشفق عليه الأخ وعرض عليه أن يستريح و"يعتذر"، فقال له: وماذا أفعل إذا جاءني ملك الموت!! هاتي العباءة يا أم أسامة!!
- بركة الدعوة: والعجيب أنه كان بمجرد انطلاقه مع إخوانه في الدعوة تغادره آلامه ولا يعود يشعر منها بشيء، حتى إذا انتهى من رحلته أو محاضرته وقفل راجعا عاودته الآلام بمجرد وصوله إلى البيت!! وقد رأيت هذا يتكرَّر معه أثناء مرضه فى السنوات الاخيرة، والآن أحبتاه مع قصة النهاية وختامة الرحلة وحلاوة العاقبة وروعة النقلة من دار إلى دار: ذهب مع إخوانه يوم الخميس 11 فبراير إلى بلدة تبعد عن القاهرة عشرات الكيلومترات مع ما كان يشكوه من تعب ومرض حيث ألقى ثلاث محاضرات يوم الخميس، وقد أخبرني وهو في المستشفى أنه تحامل فيها على نفسه وأحس بآلام الذبحة الصدرية مع آخر محاضرة له لكنه آثر إتمامها، وصاحبته الآلام طوال الليل، ليعرضه إخوانه على الطبيب يوم الجمعة الذي أوصى بضرورة نقله إلى العناية المركزة، واتصل بي وهو عائد إلى القاهرة بينا أنا في معرض القاهرة الدولي للكتاب، واتفق معي أن أقابله في المستشفى، ولقيته هناك حيث دخلها يوم الجمعة.
- خاتمة قرآنية: وقد أخبرتني أختي أن آخر ما كان منه أنه طلب إليها أن تقرأ عليه آخر ربع في سورة النساء حيث وصل ورده من التلاوة، فقرأت عليه وأخطأت فردَّها وهو في شبه غيبوبة، ثم قرأ عليه أخي أسامة نفس الربع فأخطأ فردَّه، ثم قرأ عليه ابن أخي عمار نفس الربع فردَّه، ورغم أن موته لم يكن يخطر ببال أحد منا، إذ كنا نظنها وعكة طارئة، إلا أن الله ألقى في روع أخي أسامة أن يلقِّنه الشهادة، ولا يزال أسامة حتى هذه اللحظة لا يعرف السبب الذي دعاه لتلقين أبي الشهادة!! وكأنه يُلقّى الكلام من ملك كريم!! فردَّدها أبي وراءه ثلاث مرات، ثم خرج أسامة من عنده بناء على إشارة الطبيب، ودخلت عليه أنا في الساعة السابعة لأجده في النزع الأخير، وتفيض روحه أمام عيني إلى بارئها مساء يوم الاثنين.
- أمنية الشهادة: وكان والدي قد أخبر أختي في مرض موته أنه إن مات فسيحتسب نفسه عند الله شهيدا لأنه خرج في خدمة الدعوة، ومات أثناء تصديه لهذا الشرف العظيم وحمله لهذه التركة الثقيلة، وحقق الله له أمنيته وتم له ما أراد، لأن الحقيقة المكرورة والقاعدة الراسخة في قانون الموت والحياة أنَّ من عاش على شيء مات عليه، وقد تشرَّب أبي حب الدعوة بكل ذرة في كيانه حتى ملك عليه كل شيء في حياته، لسان حاله: قد تسرَّبتِ في مسامات جلدي مثل ما قطرة الندى تتسرب.
ولأن من مات على شيء بُعِث عليه، فأحسبه يُبعث بإذن الله داعيا في عرصات القيامة، يتلو القرآن بين الناس على أرض المحشر، متما هناك ما ابتدأه هنا.
رحمك الله أبتاه.. يا حجة الله على الكسالى والمستخفين خلف رداء الغفلة.
يا أصحاب الأعذار .. هاكم قطع كل عذر زائف أو حتى غير زائف!! أيها الشباب الممتلئ حيوية ونشاطا .. انهلوا من معين العزيمة المتدفِّق وارتووا من نبع الإرادة الفياض .. يتفجَّر من قلب شيخ ضعيفٍ اشتعل الرأس منه شيبا وانحنى ظهره بمرور عمره رويدا رويدا.
- إخوتاه في الدعوة: :من أراد منكم خاتمة كهذه فليسلك نفس الطريق، وليفعل مثل ما فعل، والله ليس من طريق أخرى موصلة، قد اتضح الأمر وبان ولم يعد في حاجة إلى طول بيان!
من رغب في خاتمة حسنة يختصه الله بها فليصنعها بيده من الآن.
وتسألونني: كيف؟ أنا أقول لكم كيف.. ليضع كل واحد منكم نصب عينيه خاتمة خاصة يدعو الله أن يتوفاه عليها، ثم يبذل في سبيلها أكثر عمره، وتملك عليه عقله، وتتشرَّبها روحه، وأيقنوا إن فعلتم بالكرم الإلهي والجود الرباني، وترقَّبوا موتتكم كما خطَّطتم، فما هي غير مسألة وقت!! قد علمتم أن الموت ليس منكم ببعيد، بل أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد، فلك أن تتخير أخي من الخواتيم ما تشاء:
- تريد الموت داعيا وأن يبعثك داعيا فلتسلك نفس الطريق، ولتملك عليك الدعوة شغاف قلبه، وتحتل أولى أولوياته، ولتطلِّق في سبيلها كافة أعذارك.
- تأمل الموت ذاكرا فليلهج لسانك بالقرآن صباح مساء تاليا حافظا قائما.
- تود أن تقضي شهيدا فعش سيرة الشهداء واقرأ اخبارهم وحدِّث نفسك بالحور المنتظرة لك على شوق، وقدِّم المهر عاجلا لا تتوان!
أجل أبتاه...قد تعلمتُ الدرس وفهمت الرسالة وقرأت ما وراء الرحيل.
الطريق ممهد والسبيل واضح، يسيرة على من يسَّره الله عليه، شاقة على من بخل وأعرض ونام ف. وأنتم يا من لا زلتم رازحين تحت قيود المادة ..أيها المغترون ببريق الدنيا غافلين عن حرث آخرتكم ..هاكم الخاتمة التي يتبارى عليها الصالحون .. ارفعوها أمامكم عيونكم ..استحضروا هذه المكرمة في قلوبكم .. نقلت لكم خبرها لتغاروا فتقلِّدوا .. فينال الوالد الحبيب مزيد الثواب في قبره بعد أن انتفع الناس بموته كما انتفعوا بحياته.
- أما أنت يا أبتاه: فما عدت قلقا عليك.. فقد استرحت من عناء السفر وطول العناء، وآن لك أن تضع عصا الترحال عند رب كريم يجازي على الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة أو يزيد، وحان لك أن تتعوَّض عن الآلام التي كانت تضرب ساقيك طوال الليل فلا تنام، والأسفار التي كابدتها على مشقتها وكبر سنك ووهن جسمك وشدة مرضك، ولتتهيأ للغمسة الموعودة في الجنة التي يختفي معها أي بؤس أو شقاء أبدا.
- أبتاه .. غاية ما يؤلمني في موتك شيئان:
- الأول: الفراق وأنني لم أعد أراك، ولا أستقبل مكالماتك توقظني قبل الفجر لقيام الليل، ولن أتلقى كلماتك العذبة تبث السكينة في قلبي كلما اعتراني اضطراب أو داهمتني حيرة أو شدة، أواه يا أبتاه .. كم هي موحشة الدنيا من غيرك .. لكن سلواي التي أصبِّر بها نفسي المفجوعة وقلبي الموجوع أن الموعد الجنة والملتقى رسول الله وأحلى متعة تجمعنا غدا: نظرنا إلى وجه رب كريم.
- الثاني: أني أخاف أن لا ارزق نفس الخاتمة، أو أضطرب في سكرات الموت، أو أُحرم التوفيق الذي نلته عند موتك بفضل ربك، لكن حسبي أني قطعت العهد بيني وبين ربي أن أقتفي أثرك القرآني، وأقتدي بك في شغفك بدعوتك، وأنافسك في مودتك لكل من حولك، وأجاريك في تلبيتك كل من قصدك، لسان حالي ما حييت: لك عندي وإن تناسيت عهد في صميم القلب غير نكيث.
- أما أنتم أحباب الشيخ .. ويا من رأيتموه أو لم تروه لكن بلغكم خبره.
- السباق السباق قولا وفعلا حذِّروا المسبوق حسرة المسبوق.
- اللهم إن حُرِمنا بعد اليوم صحبته فلا تحرمنا في الجنة رؤيته.
- اللهم ارفع درجته في الجنة بينا هو في قبره باستغفار تلامذته له وسيرهم على خطاه.
- اللهم آنس وحشة قبره بطول قيامه بالليل وترنمه بآياتك آناء الليل وأطراف النهار.
- اللهم اجعل نصيبنا من سيرته حسن الاقتداء واقتفاء الأثر ومسابقته إلى أعالي الجنان.
- اللهم اختم لنا على الإسلام .. اقبضنا على الإيمان .. توفنا على أشرف القربات: الدعوة إليك والجهاد في سبيلك.
- أعطنا أجر الشهادة وبلِّغنا منازل الشهداء وإن حيل بيننا وبين قتال أعدائك.