في التأني السلامة
في التأنِّي السلامة، وفي العجَلة الندامة؛ فالتأني يعطي الإنسان فرصة التفكير في الأمور، ووزْنها بميزان دقيقٍ على مَهَلٍ وتبصُّر، وتقدير ما يترتَّب على عمله من أثرٍ، عن رويّة وتدبُّرٍ؛ كيلا يقع في مآزِقَ مُحرجة، لا يستطيع التخلص منها أو يستطيع، ولكن بجُهدٍ ومَشقة.
في التأنِّي السلامة، وفي العجَلة الندامة؛ فالتأني يعطي الإنسان فرصة التفكير في الأمور، ووزْنها بميزان دقيقٍ على مَهَلٍ وتبصُّر، وتقدير ما يترتَّب على عمله من أثرٍ، عن رويّة وتدبُّرٍ؛ كيلا يقع في مآزِقَ مُحرجة، لا يستطيع التخلص منها أو يستطيع، ولكن بجُهدٍ ومَشقة.
والعجلة من الشيطان، والشيطان لا يقود المرء إلا إلى مواطن الشر والهلَكة؛ إذ هو العدو الألَدُّ لبني الإنسان؛ كما وصفه القرآن: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]. فكم للعجلة من نتائجَ سيِّئة! وكم لها من آثارٍ مُروعة! كم أزهَقت من أرواح، وبدَّدت من أموال! لولاها لسَلِمت الأرواح، ولولاها لبقِيَت الأموال.
هذا سائق السيارة مثلاً، يقودها بسرعة جنونية، في مدينة مزدحمة كمدينة القاهرة، يُسابق بها الريح، كأنه في واد فسيحٍ، فيَدهَم المارة، ويقتل السابلة، فيُرمِّل النساء، ويُيَتِّم الأطفال، ويقضي على نفسه بالسجن أو الموت، جزاء جَهله وتعجُّله، وعدم تبصُّره وتدبُّره، ولو تأنَّى، لمَلَك أمره، وسلِم الناس، وسلِمَت له نفسه، وكذلك المضارب في التجارة، يُقامر ويغامر، ويَندفع اندفاع السهم في المضاربة، دون وعي ودون رَويَّة، فيضيع منه ما جمَع، ويذهب ماله نتيجة العجلة والطمع، ولو تأنَّى، وتأنَّى، لسلِم عقاره، وبقِي له ماله، ولَما اتَّضَع، بعد ما علا وارتفَع.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلَق الإنسان من عجَلٍ، فإنه أيضًا قد أودَع فيه العقل والبصر؛ ليَميز الخبيث من الطيِّب، والضار من النافع، وليَأْمَن عاقبة الأمر وغائلته، وهذا رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم كان لا يُقدم على أمرٍ إلا بعد طول أَناةٍ وتفكيرٍ، مع أنه مكتمل العقل، مؤيَّد بالوحي، معصوم من الزَّلل.
وفي قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه ما يَجعلنا نُطيل التفكير، ونقلِّب الأمور على وجوهها؛ حتى يَتبيَّن وجه الصواب فيها قبل أن نُقدم عليها. أرسَل عليه الصلاة والسلام غالب بن عبد الله الليثي إلى أهل الحُرقة من جُهينة (مكان ناحيةَ نجدٍ) في مائة وثلاثين رجلاً، فساروا حتى دهَموهم وقتَلوا بعضًا، وأسَروا آخرين، وفي أثناء القتال طارَد أسامة رجلاً من المشركين، ولَمَّا رأى المُشرك أنه هالِك لا مَحالة، نطَق بالشهادتين، ولكن أسامة ظنَّ أنه ما نطَق بها إلا تخلُّصًا من القتل بدافع الإبقاء على النفس، فقتَله، ولَمَّا رجَع القوم وأُخبِر الرسول بما فعَل أسامة، قال: « »، قال أسامة يدافع عن فَعْلته: يا رسول الله، إنما قالها متعوِّذًا من القتل، قال عليه الصلاة والسلام: « ». فقال: يا رسول الله، استغفر لي، قال عليه الصلاة والسلام: « »، فما زال يُكرِّرها، حتى تمنَّى أسامة أن لم يُسلِم قبل اليوم من شِدة ما وجَد من غضب رسول الله، وأنزل الله في ذلك الآية الكريمة: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء: 94].
ثم أمَر رسول الله أسامة أن يعتق رَقبة؛ كفَّارة للقتل الخطأ، ولو لم يتعجَّل أسامة، لسلِمت للرجل نفسه، ولبقِي لأسامة ماله، ولكنها العجلة، ما أقبَحها! وما أخطرها! وما أبعَدَ آثارَها! وها هو كتاب الله بين أيدينا فيه من الآيات البيِّنات ما يُرشدنا إلى أن نتأنَّى في أمورنا كلها، وأن نَحذَر العجلة والطيش؛ يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
نزَلت في الوليد بن عقبة، بعثَه الرسول إلى بني المصطلق؛ ليَجمَع الصدقات منهم، فلما علِموا بقُرب وصوله، خرَجوا في زينتهم يستقبلونه؛ إعظامًا لشأن من أرسَله، ولكنه ظنَّ شرًّا، ظنَّ أنهم ما خرجوا إلا لقتاله، لثَأْرٍ كان لهم عنده في الجاهلية، فرجَع من حيث أتى، وأخبر الرسول بأنهم قد ارتدُّوا، ومنَعوا الزكاة، فبعث إليهم خالد بن الوليد؛ ليَستطلِع أمرهم سرًّا، فوجدهم على الإسلام باقين، ولشعائره مُقيمين، وأخبر الرسول بما رأى، فأرسل إليهم من جاء بالصَّدقات، ولو تعجَّل الرسول في أمرهم، وأخذ بقول الوليد في شأنهم، لأمَر بقتْلهم، ولكانت مأْساة، لا يُخفِّف من وقْع أَلَمها على نفسه وصَحبه، ندمٌ ولا حزنٌ ولا بكاءٌ.
ويقول عز من قائل في آية أخرى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ . ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9- 12].
أليس الله بقادرٍ على خلْق الأشياء جُملة وفي لَمح البصر؟! بلى قادرٌ، ولكنه الإرشاد والتعليم.
وما قصة موسى والخَضِر عليهما السلام إلا مثَلٌ رائعٌ من الهدى السماوي، والأدب الإلهي، بأسلوب أخَّاذ، يُنبِّه الذهن، ويَلفت العقل إلى ما في التريُّث والتدبُّر من كسْب ورِبحٍ، وما في التعجُّل والاندفاع من خَسارٍ وحِرمان، يُرشد إلى ذلك ما جرى في الحوار الذي وقع بين عبدين من عباد الله صالحين، فقد اتَّخذ موسى عليه السلام صفة المتعلِّم، والخَضِر صفة المعلِّم، موسى يتعجَّل السؤال عن تصرُّفات للخضر لا يَستسيغها عقله، ولا يُقرُّها شرْعه؛ ليَطمئنَّ قلبه، وتَهدَأ نفسه، والخضر يُطالبه بمراعاة شرط الصُّحبة، ويدعوه إلى الصبر والأَناة، ويَلفته إلى الآداب التي يجب أن يرعاها المتعلم مع معلِّمه، وأن يأخذ نفسه بالاحتمال، حتى يحدث له منه ذكرًا، يُفسِّر له ما غمَض عليه، وأُغلِق عليه فَهْمُه.
ولكن موسى لم يَستطع إلى ذلك سبيلاً، فسأله عن خرْق السفينة مع أن أصحابها قد أركبوهما بدون أجرٍ، وعن قتْل الغلام، مع أنه لم يأتِ ما يستحقُّ عليه القتل، وعن الجدار الذي أقامه، لِمَ لَم يأخذ عليه أجرًا، مع أن أهل القرية لم يُطعموهما ولم يُضيِّفوهما؟!
فكان نتيجة تعجُّله أن قطَع الخَضِر صُحبته وقال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]. وحُرِم من الاستزادة من العلم، وحُرِم مَن بعده كذلك، إلى هذا يشير عليه الصلاة والسلام بقوله: « ».
وبعد، فإن الحِلم والأَناة من مكارم الأخلاق، ومن صفات الرجل الكامل الرصين؛ وفَد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدُ عبد القيس، فلما كانوا عند المسجد، نزلوا عن رواحلهم، وترَكوها وأسرعوا إلى رسول الله يُسلِّمون عليه، إلا فتًى فيهم يقال له: عبد الله بن عوف الأشج، وكان أصغرَهم سنًّا، فإنه نزَل عن راحلته، وأنزَل ما عليها من متاعٍ وأبرَكها، ثم يغير من ثيابه وتجمَّل، ودخل المسجد يمشي على مَهَلٍ، تُزيِّنه المَهابة والوَقار، حتى سلَّم على رسول الله، وكان فتًى دميمَ الخِلقة، ففطِن إلى نظر الرسول لدَمامته، فقال: يا رسول الله، إنما الرجل بأصْغَريه: قلبه، ولسانه، فقال عليه الصلاة والسلام: « ».
بهذا وأمثاله يوجِّه الإسلام أتباعه إلى خير السُّبل، ويُرشدهم إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، ويَهديهم إلى أقوم طريق. {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10].
محمد عطية حسن
- التصنيف:
- المصدر: