بين الحلم والغضب

منذ 2014-03-26

أيُّها النَّاس: قلَّة الحِلْم وكَثْرَةُ الغضب آفتان عظيمتان، إذا انتشرتا في مجتمعٍ ما قَوَّضتا بُنيانه، وهدمتا أركانه، وقادتا المجتمع إلى هوَّة سحيقة، ونخرتا كما السُّوس في جسر المجتمع المسلم حتى يؤدِّي به إلى الهلاك والعياذ بالله.

ملخَّص الخطبة:

1- فضل الحِلْم في الإسلام.

2- سيد الحلماء محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.

3- القوي مَنْ يملك نفسه عند الغضب.

4- الحِلْم فطريٌّ ومُكتسبٌ.

5- الآثار الخبيثة للغضب.

6- أحوال الغضب.

7- إنما الحِلمُ بالتَحَلُّم.

 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.

ها هو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدخل مكة فاتحًا، فيجد فيها أعداءه الذين آذوه وقاتلوه، وعذَّبوا أصحابه، وأخرجوه من بلده التي هي أحبُّ أرض الله إلى الله وأحبُّها إليه، لكنه ما لبث بعد ثمانية أعوامٍ أن عاد إليهم وقلبه مُفْعَم بشكر الله على نصره وإنجاز وعده له، كان ممتطيًا ناقته القَصْواء وسار بها حتى بلغ الكعبة فطاف بالبيت سبعًا، وجلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في المسجد والنَّاس من حوله والعيون شاخصةٌ إليه، ينتظرون ما هو فاعلٌ بأهل مكَّة، في تلك اللحظات تَطََّلعَ القوم إلى معرفة صنيعه بأعدائه. فخطبهم ثم سألهم: «يا معشر قريش، ما تظنُّون أنِّي فاعلٌ بكم». قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم. قال: «فإنِّي أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}، اذهبوا فأنتم الطُّلقاء».

ما أجمل العفو عند المقدرة، وما أجمل الحِلْم والصَّفْح بدلاً من الغضب والثأر! إنَّ إيذاء أو مقاتلة أولئك الجهَّال لم يَطيش له حِلْم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأنَّ الشُّقََّة بعيدةٌ بين رجل اصطفاه الله رسولاً خاتمًا وبين قوم سفَّهوا أنفسهم وتهاووا على عبادة الأصنام.

إنَّها جاهليةٌ عالج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مَحْوَها، كانت تقوم على نوعَيْن من الجهالة: جهالة ضدّ العلم وأخرى ضدّ الحِلْم، فأمَّا الأولى: فتقطيع ظلامها يتمُّ بأنواع المعرفة وفنون الإرشاد، وأمَّا الأخرى: فكفُّ ظُلْمُها يعتمد على كَبْح الهوى ومنع الفساد والجهل الذي كان العرب يفتخرون بأنَّهم يلقونه بجهلٍ أشدّ.

أَلا لا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا *** فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا

فجاء الإسلام يكفكف من هذا النزوات، ويقيم أركان المجتمع على الفضل، فإن تعذَّر فالعدل، ولن تتحقَّق هذه الغاية إلا إذا هَيْمَن العقل الرَّاشد على غريزة الجهل والغضب.

أيُّها الإخوة المؤمنون: كثيرٌ من النَّصائح التي أسداها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم للنَّاس كافَّةً كانت تتَّجه إلى تشجيع الحِلْم علاجًا لغريزة الغضب، ولذلك عدَّ المسلمون مظاهر الطَّيْش والتَّصدِّي، والعنف والأذى، شرودًا من القيود التي ربط بها الإسلام الجماعة المسلمة لئلاَّ تميد ولا تضطرب؛ يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: «سباب المسلم فسوقٌ وقتاله كُفرٌ» (رواه البخاريُّ).

إنَّ من النَّاس مَنْ لا يسكت عن الغضب؛ فهو في ثورةٌ دائمةٌ، وتغيُّظٌ يطبع على وجهه العبوس، إذا مسَّه أحدٌ بأذى ارتعش كالمحموم، وأنشأ يرغي يزبد، ويلعن ويطعن، والإسلام بريءٌ من هذه الخِلال الكَدِرَة؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ليس المؤمن بالطَّعان ولا اللعَّان، ولا الفاحش البذيء» (رواه التِّرمذيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ).

ولقد حرم الإسلام المهاترات وتبادل السِّباب، وكم من معاركَ ضاريةٍ تُبتَذَل فيها الأعراض وتُنتَهك فيها الحُرُمات، وما لهذه الآثام من علَّة إلا تسلُّط الغضب، وضياع الأدب، وأوزارها تعود على المُوقِد الأوَّل لجمرتها، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: «المُسْتبَّان ما قالا، فعلى البادئ منهما، حتى يعتدي المظلوم» (رواه مسلمٌ).

أيُّها الأخُ المسلم: إنَّ المسلَك الأمثل في ذلك كلِّه، والذي يدلُّ على العظمة والمروءة دائمًا: هو أن يبلغ المرء غضبه فلا يَفْجُر، وأن يقبض يده فلا يَقْتَصّ، وأن يجعل عَفْوَه عن المُسيء نوعًا من شكر الله الذي أَقْدَرَهُ على أن يأخذ حقَّه إذا شاء، قال الأحنف بن قيس: "احذروا رأيَ الأوغاد". قالوا: وما هم؟ قال: "الذين يرون الصَّفْح والعفو عارًا".

إنَّ كمال العِلْم في الحِلْم، ولين الكلام مِفتاح القلوب، يستطيع المسلم من خلاله أن يعالِج أمراض النُّفوس وهو هادئ النَّفس مطمئن القلب، لا يستفزُّه الغضب، ولا يستثيره الحَمَق، فلو كان الدَّاعي سيِّء الخُلُق، جافيَ النَّفس، قاسيَ القلب لانفضَّ من حوله الناس، وانصرفوا عنه فحُرموا الهداية بأنوار دينهم، فعاشوا ضُلاَّلاً وماتوا جهَّالاً، وذلك هو الشقاء، وهو سببه وعلَّته.

وتتفاوت درجات النَّاس في الثَّبات أمام المُثيرات، فمنهم مَنْ تستخفُّه التَّوافه فيَسْتَحْمِقُ على عجلٍ، ومنهم مَنْ تستفزُّه الشَّدائد فيبقى على وقعها الأليم، محتفظًا برجاحة فكره، وسَجَاحة خُلُقه. وأمَّا الرَّجل الحليم حقًّا: هو مَنْ إذا حلَّق في آفاق دنيا النَّاس اتَّسع صدره وامتدَّ حِلْمُه، وعذر النَّاس والتمس المبرِّرات لأغلاطهم، فإذا ما عدا غرٌّ يريد تجريحه، نظر إليه من علوٍّ، وفعل ما كان قال الأحنف بن قيس رحمه الله: "ما آذاني أحدٌ إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاثٍ: إن كان فوقي عَرَفْتُ له فضلَه، وإن كان مثلي تفضلَّتُ عليه، وإن كان دوني أكرمتُ نفسي عنه". انتهى كلامه رحمه الله، وهو المشهور بالحِلْم، وبذلك ساد عشيرته.

عباد الله: اعلموا: أنَّ الحليم إمَّا أن يكون حليمًا مفطورًا على الخير مجبولاً عليه، وهذا كأَشَجِّ عبد القيس، الذي قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ فيك خَصْلَتْين يحبُّهما الله ورسوله، الحِلْم والأناة». فقال: أشيءٌ تخلَّقْتُ به أم جُبِلْتُ عليه يا رسول الله؟ فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا؛ بل جُبِلْتَ عليه». فقال: الحمد لله، جَبَلَنِي على خَصْلَتَيْن يحبُّهما الله ورسوله (رواه مسلمٌ).

وإمَّا أن يكون الحليم ثائرَ النَّفس، أزعجه مَنْ ظَلَمَه؛ فيصبر محتسبًا ويصفح قادرًا، ويأمره إيمانه بالعُرْف والعَفْو عن الجاهلين، وهذا هو المُثاب في الدُّنيا والآخِرة، والمشكور عند الله وعند خَلْقِه، وهو الموصوف بالشدَّة والقوَّة، كما في قول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: «ليس الشَّديد بالصُّرَعَة، ولكنَّ الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (رواه البخاريُّ ومسلمٌ)، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام فيما رواه أحمد وغيره بسندٍ صحيح: «مَنْ كَتَمَ غيظًا وهو قادرٌ أن يُنْفِذَه؛ دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيِّره من الحُور العِين، يزوِّجه منها ما شاء».

أيُّها النَّاس: قلَّة الحِلْم وكَثْرَةُ الغضب آفتان عظيمتان، إذا انتشرتا في مجتمعٍ ما قَوَّضتا بُنيانه، وهدمتا أركانه، وقادتا المجتمع إلى هوَّة سحيقة، ونخرتا كما السُّوس في جسر المجتمع المسلم حتى يؤدِّي به إلى الهلاك والعياذ بالله، ألسنا نرى ضياع المجتمعات الإسلامية واندثار آدابها، وكثرة الخلافات بين دولها وشعوبها، فساعد ذلك على تقطيع الأواصر والرَّوابط، وإشاعة أجواء التَّباغض والتَّدابر والتَّحاسد، وإظهار الشَّماتة على الأمَّة المسلمة من قِبَل أعدائها؛ يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: «إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، ويعطي على الرِّفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه» (رواه مسلمٌ).

انظروا مثلاً إلى الحالات المتعدِّدة والمنتشرة للطَّلاق أو ما يكون بين الزَّوجين من شقاق، مما أدَّى إلى التفريق، وهدم البيوت، وتقويض الأُسَر، أليس ذلك في الغالب نتيجةً للغضب وقلَّة الحِلْم؟ حيث ترى الزَّوج بعد ذهاب غضبه يندم ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ ويتأسَّف على ما مضى، ويرى أنَّه قد جنى على نفسه بالحرمان وعلى زوجته بالعقوبة ولا ذنب لها، ويتَّم أولاده وهو لم يزل حيًّا، ثم يبحث لنفسه عن المعاذير، ويقلِّب في الفتاوى لدى المُفْتِين لمحو غلطة ارتكبها دون تفكير أو رويَّة، أو تدُّرجٍ في التَّأديب، مما تسبَّب في هدمٍ كان بإمكانه علاجه لو ملك عقله، وأشهر حِلْمَه، وكفَّ غضبه.

من نتائج الغضب وثمراته: أنَّك ترى إخوةً من أبٍ واحدٍ يختلفون فيما بينهم لأتفه الأسباب، فيعمل الغضب فيهم عمله فيتعادون ويتقاطعون، فيتبدَّد بذلك شَمْل الأُسَر، وتراهم يتسابُّون ويتشاتمون وقد أخذهم الغضب كلَّ مَأْخَذ.

هذا هو الغضب -إخوتي- الذي ينبغي علينا تجنُّبه والحذر منه، أعاذنا الله وإيَّاكم من الغضب، ومن سوءه وآثاره، ورزقنا وإيَّاكم الحِلْم والتحلُّم، إنَّه سميعٌ مجيبٌ. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133- 134]. بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم..

 

الخطبة الثَّانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام... اتَّقوا الله تعالى واعلموا أنه يجب علينا جميعًا أن نعمل بتعاليم ديننا الحنيف، وأن نأخذ بإرشادات نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه كما يجب علينا أن نَقْصر أنفسنا عن الغضب، ولا نتسرَّع فيما يعود علينا بالحسرة والندامة، والمرء المسلم مطالبٌ بكتمان غَيْظه وإطفاء غضبه بما استطاع من تحلُّم وتصبُّر، واستعاذة بالله من النَّفس والهوى والشَّيطان، وعليه أن يترفق أوَّلاً: في أهله، وثانيًا: برعيته وجيرانه، وعملائه ومواطنيه، فلا يكون بغضبه عونًا لزوجته على النُّشوز، ولأبنائه على العقوق، ولأقاربه على القطيعة، ولجيرانه على الإساءة، ولرعيَّته على التمرُّد، وللنَّاس كافةً على هجره ومجانبته، وهذا ما نراه دائمًا في حال مَنِ اشتهروا بالغضب والحرارة الزَّائدة.

أيها الإخوة المؤمنون: إنَّ الغضب يختلف في دنيا النَّاس باختلاف الأحوال والظُّروف، لكنه غالبًا لا يخرج عن ثلاثة أحوال:

الأوَّل: حال الاعتدال، بأن يغضب ليدافع عن نفسه أو دِينه أو عِرْضه أو ماله، ولولا ذلك لفسرت الأرض بانتشار الفوضى وتقويض نظام المجتمع، لكن غضبه هذا ينبغي أن يكون مقترنًا بالحكمة والمعرفة والعقل الرَّشيد.

الحالة الثَّانية: أن يخطوَ الغضب عن الاعتدال، بأن يضعف في الإنسان أو يفقد الحِلْم بالكليَّة، وهذه الحال مذمومةٌ شرعًا، لا سيَّما إن تعلَّقت بانتهاك حرمات الله؛ تقول عائشة رضيَ الله عنها: «ما ضرب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شيئًا قطُّ بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما نِيْل منه قطُّ فينتقم من صاحبه، إلاَّ أن يُنْتَهَكَ شيءٌ من محارم الله فينتقم لله تعالى» (رواه مسلمٌ).

الحالة الثَّالثة: أن يطغى الغضب على العقل والدِّين، وربَّما جرَّ صاحبه إلى ارتكاب جرائم كبيرة، وموبقات كثيرة.

ولا يمكن التخلُّص من هذه العقبة إلا بفعل ما أرشد إليه عليه الصَّلاة والسَّلام: «إذا غضب أحدكم فليسكت» (رواه أحمد). واستبَّ رجلان عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فاحمرَّ وجه أحدهما غضبًا؛ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنِّي لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم لذهب عنه ما يجد» (رواه البخاريُّ).

وقد ثبت عنه أنه أمر الغضبان بالوضوء؛ لأنَّه يطفئ الغضب كما يطفئ الماءُ الناَر. نسأل الله جلَّ وعلا أن يُلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرَّ نفوسنا، وأن يهدينا سُبُلَ السَّلام، وصلُّوا وسلِّموا يا عباد الله على مَنْ أمركم الله.

المصدر: ألقيت في جامع السلام بعنيزة يوم 1/8/1419هـ
  • 6
  • 3
  • 17,055

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً