الشيخ عبد الرحمن البغدادي في بلاد السامبا (الجزء الثاني)
مخطوطة الشيخ عبد الرحمن البغدادي "مسلية الغريب بكلِّ أمر عجيب"، تأصيل تاريخي ووصْف متميِّز لعالِم جليل، وداعية مِن الطراز الأول، وصَل قدَرًا إلى أرض البرازيل بداية عام 1866م،
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي - قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
مخطوطة الشيخ عبد الرحمن البغدادي "مسلية الغريب بكلِّ أمر عجيب"، تأصيل تاريخي ووصْف متميِّز لعالِم جليل، وداعية مِن الطراز الأول، وصَل قدَرًا إلى أرض البرازيل بداية عام 1866م، بعدَ أن حملتِ الرياحُ سفينتَه لترسوَ على ساحل مدينة "ريو دي جانيرو" البرازيليَّة، حيث التقى هناك بمجموعةٍ مِن المسلمين الأفارقة، الذين طلبوا منه البقاءَ لتعليمهم أمورَ الدِّين الإسلامي، وقد قَبِل الشيخ البقاءَ، وذلك بعد مرور ثلاثة أيَّام كان قد قضاها في التشاور مع قائدِ السفينة حولَ وضْع المسلمين في البرازيل، والجهْل الذي أصابَهم، وتبديل شعائرِ دِينهم، وكانتْ قد تبلورت لديه بعضُ الأفكار الرئيسية لعملية الإصلاح التي عزَم القيام بها.
المسلمون في مدينة "ريو دي جانيرو":
بمجرَّد وصولِ الشيخ للإقامة مع المسلمين في مدينة "ريو دي جانيرو" قام بعمليةِ حصْر لأعدادهم، فتبيَّن أنَّهم 5.000 خمسة آلاف مسلمٍ على وجهِ التقريب، ثم بدأ بعدَ ذلك دراسةَ ومتابعةَ أسبابِ انحطاط المسلمين وبُعْدهم عن شعائرِ الإسلام، ووجد أنَّ مرد ذلك للأسباب التالية:
1- الجهْل بتعاليمِ الإسلام الأساسيَّة.
2- دَوْر المترجِم اليهودي الخبيث في تحريفِ الدِّين الإسلامي.
3- الكَنيسة وعملية التعميدِ الإجباريَّة.
4- محارَبة الدولة لأيِّ مظهَر إسلامي.
أولاً جهلهم بتعاليم الإسلام:
حصَر الشيخُ مظاهرَها في بعضِ الأمور، منها عدمُ حِفظهم للقرآن الكريم، ومَن كان منهم يقرأ إلى سورة عم كانوا يعدُّونه عالِمًا كبيرًا، وكانوا يحتفظون بالمصاحِف في الصناديق بغايةِ البَرَكة، وعندَ تلاوتهم للقرآن يصعب نُطقهم 10 أحْرُف مِن حروف اللغة العربية، ومخالفة طريقة صِيامهم للتعاليم الإسلاميَّة، وعدم احتِجاب نِسائهم، وشُرْبهم للخمور، وعدم مَعرفتِهم بالمواريث، واتِّباعهم للعادات البرازيليَّة في ذلك، وانتشار الكهانة، وحبّ زُعمائهم للرئاسة والدنيا على حسابِ السعي لتوحيد المسلمين.
ابتدأ الشيخُ بالعناية بأمورِ التعليم لأهميتها، وقسَّم النهار أقسامًا؛ لكثرة مَن كانوا يتردَّدون على الدار حتى وصَلوا إلى 500 مسلم، وقد قام باختيارِ الأطفال والراغبين في التعليم مِن الرِّجال، ولاطفَهم في الأقوال والأعمال، وأيقظ همَّتَهم وبالهم، حتى ظهَر فيهم الصلاح، واستطاعوا أن يَنطِقوا الحروفَ بشكل سليم.
وقام بعمل درْس عامٍّ؛ لأجْل تعليم قواعدِ الإسلام بعدَ صلاة الظهر، وقام بتحفيظ الصِّغار والكبار حديثَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الوضوء والصلاة، والصوم والزكاة والحج، وضمَّنها كلماتٍ نافِعةً، ومواعظَ مختلفة؛ قال الشيخ: "وأغلبُ القوم حفِظوا الرِّسالة، واستوعبوا المقالة، فظَهَر عليهم تغيير الحالة، وصاروا يتوضَّؤون، وللخمس يصلُّون، وبالصلاة يقرؤون".
...»، وقام بتأليف رسالة خطها باللغة العربية، وكلامها باللغة البرتغالية، جمَع فيها التعريفَ بصفات الله تبارك وتعالى وكذلك التعريف بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفرائضنلاحِظ مِن خلال استقراء المخطوطة أنَّ عمليةَ تعليم اللُّغة العربية للمسلمين أخذتْ حيزًا كبيرًا مِن تفكير وتربيةِ الشيخ لهم، وشهدتْ هذه العمليةَ تقدُّمًا ملحوظًا، تمثَّل في إخراج الناس المصاحِفَ مِن الصناديق بغرضِ القراءة، ولَمَس المسلمون حاجتَهم لأعداد جديدة مِن المصاحف؛ لقلَّةِ ما كان في حوزتهم، وكان الشيخُ البغدادي لا يَدَّخِر جهدًا في البحث عن مصادرَ للحصول على كُتبٍ تعينه في التعليم "صادَف أنِّي نزلتُ يومًا للأسواق؛ للفُرجة على بديع الخلاق.
فمررتُ على دكَّانة رجل يبيع الكتب الخرستانية، فدخلت لعلِّي أرَى كتابًا في ترجمة العربية والبرتكيزيَّة"، حيث وجد بين الكتب مصحفًا باللغة العربية مطبوعًا في فرَنسا، وبسرعة تلقَّاه وراجَعه فلم يجد فيه تحريفًا، فاشتراه بليرة فَرَنسيَّة، وأخبر صاحب المكتبة بحاجته للمزيدِ مِن المصاحف ودفَع له عربونًا، وفعلاً وصلتِ المصاحف واشتراها المسلمون حتى كثُرتْ بينهم، كتَب الكونت جوزيف آرثر دو كوبينو (1816-1882)م الممثِّل الدبلوماسي الفَرَنسي في البرازيل أنَّ الفرنسيين -فوشون وديبون- كانوا يبيعون سنويًّا للمستعْبَدين وللذين نالوا حريتَهم حوالي 100 نُسخة مِن القرآن الكريم، إضافةً إلى كُتب قواعد اللغة العربية مع شرْح بالفرنسيَّة[1].
وقدِ اعتمد الشيخُ في خِطابهم -وكذلك في الأحكام الفقهيَّة التي يفتي بها- على الأسهل الموافِق لأحكامِ الشريعة مِن المذاهب الأربعة، وعلَّل ذلك بقوله: "خوفًا على قلوبهم مِن النفار، أو أن يستثقلَ أحدٌ منهم دِين النبي المختار صلَّى عليه مدبِّر الليل والنهار".
بالنسبة لصيام شهْر رمضان، فقد ردَّه الشيخ إلى وقتِه الصحيح، وأعلن بذلك في جميعِ الدولة البرازيليَّة، وكان قدْ لاحظ أنَّ المسلمين لا يبلعون ريقَهم أثناءَ الصيام، وإنْ كانوا في الصلاة بصَقُوا في كأسٍ أعدوها لذلك، ولا ينظرون في المِرآة، ولا يُضاجعون نساءَهم، ولا يكلمونهنَّ إلا بعدَ الزوال، ويأكلون قبلَ الشمس، ويُفطرون عندَ العشاء، وفي آخِر رمضان يصومون ثلاثةَ أيَّام متتالية لا يأكلون فيها شيئًا غير نوْع مِن أنواع الشراب يشربونه عندَ الإمساك والإفطار، والنِّساء لا يصمْنَ خلال هذا الشهر الكريم، وقد عمِل الشيخ على بيان فسادِ هذه الأمور، وعَلَّمهم الدين الصحيح.
أمَّا بالنسبة لحِجاب النِّساء والمواريث، فقدْ لاحظ الشيخُ أنَّ النساء كنَّ يتمددْنَ في الأسواق على ظهورهنَّ مِثل نساء الإفرنج بغيرِ حِجاب، وتتعاطين المنكرات، وترِث المرأة مِن زوجها النصفَ إذا ماتَ، والنصف الآخَر يُوزَّع بالسوية بيْن الذكور والإناث، فقام الشيخُ ببيان الحقِّ في هذه المسألة، ولكن هذا الأمر لم يرُقْ للنِّسوة، فترك الأمر لهم على الاختيار بدون مشاحَنة، حتى لا يتنازعوا وينكشِف أمْر إسلامهم للدولة البرازيليَّة؛ "وقدْ أعلنتُ وبينتُ للإسلام بعضَ طرائق من عِلم الفرائض، وما بيَّنه الله في كتابه المجيد، وقلت: مَن رضِي بهذا التحديد فنعمْ، ومَن لم يرضَ شأنه وما يريد مِن اقتدائه بالدِّيانة الإفرنجيَّة، ولا تشاحنوا ودعوا أحوالَكم خفيَّة، وذلك حينما رأيتُ عدمَ قَبول النساء تلك القسمةَ الإسلامية، ونفور طباعهنَّ منها بالكلية".
لاحَظ الشيخُ انتشارَ عِلم الكهانة، وخصوصًا بين رؤساء العشائر، وكانتْ وسيلتهم لجذْبِ قلوب الأتباع والعشيرة، وقد بيَّن لهم الشيخ أنَّ هذه العلوم غيرُ نافعة، وحرام تعاطيها أو العمل بها، وبالَغ في نهيهم عنها، وقال: إنَّهم أظهروا ترْكَها إرضاءً له فقط، وإنَّ مِن الصعب إزالةَ هذا المنكر؛ لاعتمادِهم عليه في كثيرٍ من الأحوال.
كما ركَّز الشيخ على انشغال زُعماء العشائر بحبِّ الدنيا والرِّئاسة، وسَعْي كل عشيرة لاحتواء الأُخرى، وقِلَّة المحبَّة فيما بينهم، ولقدْ حاول الشيخُ أن يُؤلِّف بين قلوبهم، ويُزيل عيوبهم، وواضح أنَّه استطاع في بعضِ الأمور أن يَصِل لمراده، وأخْفق في بعضها.
ثانيًا المترجم اليهودي وتحريفه للدين:
حينما عاد الشيخ مع المُسلمين للإقامة بينهم، جاؤوا بالمترجِم؛ ليكون أنيسًا له، ولقد استفاد الشيخُ منه في تعلُّم أصول اللغة البرتغاليَّة، وساعده على ذلك كونُ جميع المسلمين لا يتكلَّمون العربيَّة؛ مما جعله يُتْقِن اللُّغة خلال فترة قياسيَّة، وهو أمر مهمٌّ بالنسبة للداعية، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم من الآية:4]، وبدأ في إلقاء الدُّروس والخطب، وتفسير الأحكام، واستغنى بذلك عن هذا المترجِم الخبيث الذي لم يَسترح له يومًا، وكان يتشكَّك في كونه مسلمًا، وبالفعل اختفى هذا المترجم عن الجالية المسلِمة فترةً من الزمن، قام خلالها الشيخُ بِجَمع كلِّ ما قام به هذا المترجم من التحريف والتبديل لدين الإسلام، فوجد الكثيرَ من الأمور التي يَشِيب من هولها الولدان.
كان أوَّلُ ما حرَّف هذا المترجم هيئةَ الصلاة، حيث علَّم الأفارقةَ طريقة غريبةً لأدائها؛ فقد كان الواحدُ منهم ينوي تكبيرة الإحرام، ثم يميل قائمًا؛ مرة لليمين، ومرة للشمال، ويسجد للأرض لاثمًا، بلا ركوع، ولا قراءة، ويكرِّر ذلك ما شاء بدون الجلوس الأخير، ويخرج من الصلاة بدون سلام، ويقول ما يريد فيها من الكلام، وإذا ضايقه البلغم أعد (كاسة) إلى جواره يبصق فيها!
أمَّا تحريفه للصيام، فقد أباح للناس الإفطارَ في صيام رمضان، وعلَّل ذلك بشدَّة الحرارة، وقدَّم صيامه لشهر شعبان، وقد أخبر المترجمُ الشيخ البغداديَّ أنه أفطر 15 يومًا في رمضان الماضي، وأنه ليس عليه ذنبٌ، ولا يجب عليه الإعادة، وعلَّل ذلك بأنَّهم في البرازيل يصعب عليهم إقامةُ الفرائض وشعائر الدِّين.
وتحيَّة الإسلام هي "السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، قام هذا اليهوديُّ الخبيث بتحريفها، قال البغداديُّ رحمه الله: "وفي بعض يومٍ جاءني رجل من أكابرهم، ومعه آخر، وبدأ بالسَّلام حسبما تعلموا من هذا الدليل كيفيته؛ لأن كيفيَّة سلامهم أنَّ الرجل منهم حين دخوله يركع كاشفًا عن رأسه، ويلقي نفسه على البلقع، ويضع رأسه ووجهه على الغبراء، ولا يرفع حتى يُؤْذَن له، وهو مخصوصٌ في مجالس العلماء"، وقد أوضح الشيخُ أنه تخلص من هذه العادة السيِّئة.
ولقد أباح ذلك المترجم اليهوديُّ للمسلمين شربَ الخمر! يقول الشيخ البغداديُّ: "وكلٌّ منهم يشرب المُدام، ويضعونها على سُفَرهم بغير اكتِتام، ودعاني بعضُ أكابرهم، ووضع على السُّفرة مع الطعام قناني الخمر، وأواني المدام، فعرَّفتُهم بتحريم ذلك الأمر، فقالوا: إن اليهودي هو الذي أباح لنا شرب الخمر"، وقد استطاع الشيخُ -بفضل الله- القضاءَ على شرب الخمر، وقد سأله بعض المسلمين عن بيع الموجود بِحَوزتهم، فأفتاهم أنَّ الذي حرَّم شربه حرَّم بيعه، "فسفح في هذه الليلة جملة أوعية وفية، والبعض ما تركه بالكلية، فأسأل الله أن يتفضَّل عليَّ وعليهم بتوبة سنيَّة، وعلى جميع المسلمين، إنه جواد كريم".
أخطر الأمور التي قام بها هذا اليهوديُّ الحاقد على الإسلام: أنه قد فرض ضريبة على من يريد الدُّخول في الإسلام، عبارة عن 20 ليرة من الذهب الأحمر؛ فقد جاء رجلٌ من أكابر القوم إلى الشيخ البغدادي يريد اعتناقَ الإسلام، وحينما وقف بين يديه أخبره أنه الآن قد اكتمل معه كامل المبلغ اللازم لاعتناق الإسلام، فتساءل الشيخ: ولماذا المال؟ فقال الرجل: إنَّ الترجمان كان لا يقبل دخول أحدٍ في دين الإسلام إلاَّ إذا دفع عشرين ليرة من الذهب الأحمر، لا تنقص ليرة واحدة، وكان يقول لهم: هذا ما قاله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم!
هؤلاء الذين كذَبوا على الأنبياء، ألن يكذبوا على خير الخلق صلوات ربي وسلامه عليه؟ وقعَتْ هذه الكلمات على سمع الشيخ البغدادي وقوعَ الصاعقة، فطلب جمع المسلمين لمؤتمر جامعٍ؛ حتَّى يُبيِّن لهم الحقَّ في هذه القضية الخطيرة، "فحين سماعي زادتْ لوعتي، وتصاعدت زفرتي، وهطلَتْ عَبرتي، وحالًا لقَّنتُ الرجل الذي مرادُه الدخول في الإسلام كلمِتَي الشهادة، وأخرج المال فردَدْتُه عليه، وأخرجت له مقدارًا من الدراهم أهديتُها منِّي إليه، وطلبت جمعيَّة جميع المسلمين، فبعد زمن قليلٍ كل أخذ عندي مكانه بالتمكين، فحمدتُ مولى الإسعاف، وصليت على سيِّد الأشراف.
وقلت: أيُّها الإخوان، اعلموا أنَّ السعيد من وفَّقه الله، والشقي من طُرِد عنه، فلْيَستعد للانتقام، ومن هدى الله به أحدًا إلى هذا الدِّين خيرٌ له من حُمر الأنعام، وأَخْذُ الجائزة من الداخلين في عقْد هذا الدِّين، محرَّم باليقين، ومتى الرجل قال كلمة الشهادة، كُتِب من أهل السعادة، له ما لكم وعليه ما عليكم، وينبغي أن تتلقَّوه بالإكرام، ولا يَخْطر بأذهانكم أنَّه لا يظهر صِدْق الداخل في الإسلام، إلاَّ بدفع المال؛ فهذا خلاف الحال؛ فإنَّ الإسلام له الظاهر، والله يتولى السرائر، والمقصود بَذْل المجهود بتكثير هذه الفِرْقة الإسلاميَّة، وإخلاص النيَّة والطوية.
وما زِلْتُ أقرع أذهانَهم بالمواعظ بألطفِ عبارة، وأكرِّرها بأحسن إشارة، إلى أن جرَتْ من عيونهم الدموع، وقالوا: أيُّها (الفا)[2] الذي كلامه مسموع، إنَّه لو علمنا أنَّ الأمر كما ذكرْتَ، وسِرْنا على النحو الذي به سِرْت، لكُنَّا في هذه البلاد ألوفًا، وفي كل يوم ننوف؛ لأنَّ خلقًا كثيرًا مُرادهم الدخول في ديننا ويمنعهم دَفْع المال، فقلت: بادروا -يرحمكم الله- إلى إصلاح هذا الحال، وإعلان ذلك المقال، وانفضَّ المجلس في ذلك اليوم".
هذا الكلام يدلُّ على ما كان يتَّصِف به الشيخ البغداديُّ رحمه الله من فَهْمٍ عميق لأصول الدعوة، وطرقها المختلفة، فبَيَّن أن هداية الناس للإسلام خيرٌ من حمر النعم، وحرَّم وأبطل أخْذَ المال من الناس نظيرَ بيان صدْقِهم لاعتناق الإسلام، وأن الإنسان يكفيه أن يتلفَّظ بالشهادتين ليصبح مسلمًا، ويكون من أهل السعادة، والله يتولى سرائره، وأن الواجب على المسلمين أن يرحِّبوا به ويكرموه، والواجب هو بَذْل الجهد لإدخال الناس في دين الله، وقد بكى الناس من هذه الموعظة، وبيَّنوا له أنَّهم لو سلكوا هذا الطريق لكانت أعداد المسلمين في البرازيل بالآلاف، وقد طلب منهم الشيخُ أن يهبُّوا للدعوة، ويذيعوا بين الناس حقيقةَ ما حدث في هذا الاجتماع.
ولقد كان لهذا الموقف ردَّةُ فعل قوية داخل المجتمع البرازيلي، حيث أسلم بعد ذلك 19.000 من الأفارقة، يقول الشيخ البغدادي: "ووردتُ بعدها إلى أقوام راغبين في دين الإسلام، فاعتنيتُ بإكرامهم، والتفَتُّ إلى تهذيبهم وتعليمهم، وكان عدَّة من أسلم في هذه البلاد تسعة عشر ألفًا من العباد".
تيقَّن الشيخُ أن أفعال هذا المترجم لا يُمْكِن أن تصدر من مسلمٍ، فأرسل في استدعائه بعد مرور فترة من الزمن، وواجهه مباشرةً بسؤال: "أما أنت يهودي؟ قال: نعم، غير أنِّي لا أخاف منك ولا من هؤلاء القوم نزول النِّقم، فقلت: لِم فعَلْت هذه الفعال، أيُّها الخبيث المحتال؟ فقال: قصدًا لإيذاء المسلمين، وتمامًا لحصول نفعي المبين؛ لأني بسبب هذه الحيل، نلت من الدنيا أكبر أمل".
هكذا اليهود في كل زمان ومكان، يعيشون على آلام الشُّعوب، ويسعون إلى التبديل والتحريف للأديان والملل، قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة من الآية:64].
"إن هذا الترجمان الخبيثَ يسمِّي نفسه أحمد، وهو الذي لعقائد المسلمين بدَّل، ولحسن جمع شملها فرق وبدَّد؛ لأنَّه كان عندهم الأوَّل، وعليه في أمور الفتاوى المعوَّل، وهو مغربيُّ الأصل، من طنجة، مجاورٌ للمسلمين، عارف ببعض كلماتٍ من القرآن المبين، ولما جاء لهذه البلاد الغاربة، كان ابتداء دخوله لابسًا لباس المغاربة، فرأوه أسمرَ فتلافوه واعتقدوه، وهو يعرف لسانهم فبجَّلوه واحترموه، فصار يعلِّمهم اليهودية بالتدريج، ويسلك بهم طريق الفساد الفجيج، وما علمهم شيئًا خاليًا من القبح، سوى الختان والذَّبح؛ لأنَّه يأكل معهم ويأبى طعام الخرستيان".
لقد اغترَّ المسلمون في هذا الرجل حينما رأوا لباسه المغربيَّ، وكان أول من يصل إليهم مِن العرب، وكان يُجيد البرتغاليَّة، فاتَّبَعوه ووصل بهم الأمر إلى فقدان الكثير من الشَّريعة على يديه، وأصبح الدين ممسوخًا، ولم يبقَ لهم منه إلاَّ الختان والذبح؛ لأنه لم يكن يأكل من طعام النصارى، بعد هذا الاعتراف من ذلك اليهوديِّ بإفساده لدين المسلمين، وعدم خوفه منهم، طلب المسلمون من الشيخ أن يُفْتيهم فيه، وكيف يتصرَّفون معه، فغلَّب الشيخُ المصلحةَ العامة للمسلمين، وطلب منهم أن يتركوه لعقاب الله؛ لأنَّهم لو قاموا بأيِّ تحرُّك ضده رُبَّما ينكشف أمر إسلامهم للسُّلطات الحاكمة؛ "فشاورَني القوم في شأنه، فقلت: دعوه لمن يعلم بشأنه؛ لأنَّكم مستترون، ومن الاشتهار تَخافون، وذهب لا فزعًا ولا خائفًا، فلعنة الله عليه أنَّى كان واقفًا".
ثالثًا الكنيسة والتعميد الإجباري للمسلمين:
مارسَت الكنيسة دورًا غير أخلاقي، كان يبدأ في إفريقيا قبل شحْن العبيد إلى البرازيل، بإرغام المسلمين على التعميد وتغيير أسمائهم، ولا بدَّ من حصول مَن يتمُّ تعميده على ورقة تُفيد ذلك، وإلا تعرَّض لكثيرٍ من الأذى طوال حياته، وكذلك كان يتمُّ الأمر مع كلِّ المسلمين في البرازيل؛ يقول الشيخ البغدادي: "وجميع المسلمين بهذه الديار يُغَطِّسون أولادهم بماء جرن المعمودية... وسبب دخول المسلمين في هذا الشرك أنه حين التغطيس يؤخَذ ورقة من البترك، وهي فلان بن فلان قد غطس، وحضَر تغطيسه فلان أحد الأكابر، فيكون كأبيه الشحي ذلك الحاضر، ويسأل عن الورقة بعد مدة فإذا ما وجدت وما وجد قيدها بالدفاتر، يؤخَذ للميري رأْسًا كالرقيق، ولا ينجو في كلِّ عُمره من الضِّيق".
وهذا الأمر كان يندرج على مراسم الدفن، فإذا لَم توجَد الورقة التي تُفيد التعميد، كان لا يتمُّ قبول دفْن الميِّت، وقد استطاع الشيخ أن يجدَ حلاًّ لهذا الأمر بالتحايُل على هذه القوانين الصارمة، وقام بتغسيل بعض المسلمين ودفْنهم تُجاه القِبلة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ "ولا بدَّ لكلِّ ميِّت من المسلمين أن يأتوا له بأحدِ مأموري البترك خانة وبعض الحُكماء، ويُعطون ورقة ليد أهْله بلا خَفاء، حتى إنَّ بوَّابين المقابر يدفنوه، وإذا لَم توجَد الورقة معهم لَم يَقبلوه، فأشرْتُ عليهم أن بعد مَجيء المأمور يَشلحوه ويُغَسِّلوه، ويُصَلُّوا عليه وللمقابر يحملوه وما أمكن أن نُظهر للدفن حيلة، فإنَّ خُدَّام المقابر يضعونه كما يعرفون ولا يراعون بذلك قِبلة، وغَسَّلت في هاتيك المحلات بعضَ أفراد من الرجال؛ قصدًا لتعليم المسلمين كيفيَّة الحال".
رابعًا مُحاربة الدولة لأيِّ مظهر إسلامي:
لقد تعاوَنَت الدولة مع الكنيسة؛ للقضاء على أيِّ مظهرٍ إسلامي، ومع ذلك التضييق حافَظ المسلمون على دينهم في الخَفاء، حتى إنهم طلَبوا من الشيخ البغدادي ألاَّ يَظهر بملابس العلماء؛ حتى لا يَلفت النظر، ويُعَرِّضهم للخطر؛ "وكنت أشتهي أنْ ألبسَ لباسي المألوف إذا خرجْتُ للتفرُّج في البلدة، فيمنعني المسلمون من ذلك، ويُقَدِّمون لي أعذارًا، عد منها أنَّك إذا لَبِست لباسَك، لا نقدر على المجيء عندك، وذهَب نفعُك؛ لأنه متى عرَفك الخرستيان أنَّك مسلم، ظنوا بِنا مثلك".
وكانوا يؤدُّون صلواتهم في السرِّ: "وكان الرجل منهم حين صلاته يُغلق الباب، ويتوارى عن الخِلاَّن والأصحاب، ويُصَلِّي منفردًا؛ خوفًا من أن تشتهر عليه الخرستيان".
وواضح أنَّ أيَّ تصريحٍ بشعائر الدِّين الإسلامي أو مظاهره، كان يعرِّض صاحبه لإحدى العقوبات التالية: الحبس المؤبَّد، أو النفي، أو القتل؛ "وأنكَر المسلمون لهذا الدين خوفًا من المهالك، حتى إلى الآن إذا اشتهرَ النصارى على أحدٍ من الإسلام رُبَّما قتَلوه أو نفوه، أو مؤبَّدًا حبسوه".
صُوَر من بذْل المسلمين وتضحيتهم:
على الرغم من كل ما ورَد ذِكْره من أمراض اعْتَرَت المسلمين، فإنهم حافَظوا على دينهم وتوارَثوه فيما بينهم، وحَمَلت ذاكرتهم الكثيرَ من شعائر الإسلام، صحيح أنه تَمَّ تشويه الكثير منها لأسباب خارجة عن إرادتهم، ولكنَّهم احتفَظوا بمقومات أخلاقيَّة، حصَر الشيخ البغدادي الكثير منها، فلقد كان لَدَيهم زُهْدٌ فيما في يد غيرهم، تجلَّى ذلك في خطابهم لقائد السفينة التي حَمَلت الشيخ البغدادي للبرازيل: "نحن لا نُريد منكم حُطامًا"، وكانوا يحافظون على صلواتهم سرًّا، فمنهم من كان يقطع عمله، ويُغلق دُكَّانه لواجب الصلاة، ومنهم مَن كان يعود لمنزله؛ ليؤدِّي هذه الفريضة، وكان بين المسلمين الكثير من المحبَّة التي كانت تُغْري غيرهم من الأفارقة وتُحَفِّزهم لاعتناق الإسلام؛ حتى يصيروا جزءًا من الأُمَّة الإسلامية؛ "وعندما ينظرون إلى الطائفة الإسلامية منهم وأنهم شديدو المحبَّة لبعضهم، تأخذهم غيرة جنسيَّة، ويدخلون في دين الإسلام بأنْفس شهيَّة، والله الموفِّق لِمَن شاء، وإذا حلَّت الهداية قلبًا نَشطَت في العبادة الأعضاءُ".
وكانوا ينفقون من أجْل الحفاظ على الدين؛ سواء بشراء الكتب، أو بتأجير المصلِّيات وأماكن تجمُّعهم، يصف الشيخ البغدادي الدار التي أعدَّها المسلمون للتعليم واللقاء فيما بينهم، فيقول: "وكنَّا في دار عظيمة البناء، واسعة الفِناء، بعيدة عن السكان، قريبة من القيعان، أعدُّوها لأجْل هذه القضيَّة، بأُجْرة وفيَّة".
سجَّل الشيخ البغدادي مشاهداته عن الأرض والعُمران، والنبات والفواكه، ووصَف كلَّ ما رأى في مدينة "ريو دي جانيرو"، وهذه المشاهدات تحتاج لتحليلٍ خاصٍ، ولكن أهم ما يَلفت النظر هو حرْصه على مشاهدة ومعرفة ما كان يدور في المناسبات المختلفة، وخصوصًا اليوم الذي كان يحتفل فيه البرازيليون برفْع المسيح.
ومن كثرة حديث المسلمين عما يصير في ذلك اليوم من أعاجيب، قرَّر الشيخ أن يرى بعينَيْه هذا الأمر، يقول: "ثم وهذا الداعي بهذه البلاد في اليوم الذي يُصادف به رفْع عيسى ابن مريم عليهما السلام وهو اليوم الذي يعتقد الخرستيان به صلْب ذاته المشرَّفة، نزَل إمبراطور برازيليا إلى الكنيسة العُظمى عندهم، وبصحْبته البترك الكبير وهما بالألْبِسة التي يَظهر عليها الحزن، وجميع العساكر والمراكب منكِّسِين البواريد والإشارات، وجميع الأهالي كذلك بَادِينَ الحُزن والكآبة، أرْخى عليهم الحُزن جِلبابه.
وقد أخبرني بعضُ المسلمين عن أعجوبة ذلك اليوم المهين، فكنت للاطِّلاع على ذلك من المبادرين، وذَهبت مع جملة من المسلمين، كلٌّ منَّا عليه لباسُ الإفرنج، فدخلْنا الكنيسة، فرأينا الإمبراطور والبترك وقوفًا على يمين الصنم، الذي هو بالفضة والذهب معلم، ثم أشاروا بالسجود على رُكَبهم باركين، رافعين أيديَهم كالمستجيرين، وأظهروا هيئة العبوديَّة، لتلك الصورة الرسميَّة، فلمَّا رأى الداعي فِعالهم، اقشعرَّ مني الجسد، وقلتُ لرِفاقي: قولوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4]، وذلك سرًّا مرة بمرة، وفي ذلك الوقت تذكَّرت ذلك المنام، الذي رأيتُه قبل هذه الأعوام، فكان عين اليقين، بلا شُبهة ولا مين".
كان هذا تفسير الرؤية التي رآها الشيخ البغدادي، والتي بدأنا بها الحلقة الثالثة من تاريخ المسلمين في البرازيل، قبل أن يعلم أنه سيعيش على أرْضها في يوم من الأيام، ولَم يكن يَدور بخَلَده أنه سيتعرَّض لهذا الموقف، حتى إنه في ذلك الوقت استيقَظ فَزِعًا من رُؤياه، وهذا الموقف يدلُّنا على كامل التوحيد عند الشيخ البغدادي وأتباعه، فمع أنهم كانوا داخلَ الكنيسة التي قامَت بتعميدهم رغمًا، وبوجود أركان النظام والدولة وعلى رأسهم إمبراطور البرازيل، ومع أنَّ هذا الموقف كان سيكلِّفهم الكثير إذا تَمَّ كشْفهم، إلاَّ أنهم أقرُّوا بالوحدانيَّة لله ربِّ العالمين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
بدأتِ الدعوات تتوالَى والوفود تَصِل للقاء الشيخ البغدادي في مدينة ريو دي جانيرو، طالبين زيارة الشيخ لتجمُّعات المسلمين الأخرى داخل دولة البرازيل، والاستفادة من علْمه، وهذا يدلُّنا على وجود تواصُل بين الأُمَّة البرازيلية المسلمة في ذلك الوقت، وتبادُل الأخبار فيما بينهم، فأين توجد هذه التجمُّعات؟ وكيف تعامَل معها الشيخ البغدادي؟ وما هي تطلُّعاتهم؟ وهل يمرُّون بمشاكل كالتي يمرُّ بها المسلمون في مدينة ريو دي جانيرو؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة الخامسة من تاريخ المسلمين في البرازيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] J-F de RAYMOND (ed), Arthur de Gobineau et le Brasil: correspondencediplomatique de France a Rio de Janeiro,Grenoble, PressesUniversitaires de Grenoble, 1990 :143-148.
[2] تَعْني: عالِمًا جليلًا عارفًا بِمُحكم التَّنْزيل.
خالد رزق تقي الدين