(4) من اعتقد أن هدي غير النبي أكمل من هديه (2)
عبد الله بن حمود الفريح
يتحدث الكاتب عن فرضية تحكيم شرع الله وأن الإعراض عنه بين الكفر الأصغر والأكبر
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
المسألة الرابعة: الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل.
إن الإعراض عن حكم الله عز وجل وتحكيم غير ما أنزل الله سواء كان من القوانين الوضعية أو الشرائع السماوية المحرفة كاليهودية والنصرانية كفر أكبر مخرج من ملة الإسلام، وأن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وهل كفره كفر أكبر مخرج من الملة على الإطلاق؟
نقول أن هذه المسألة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
كفر الاعتقاد: وهو كفر مخرج من الملة وهو مراد المصنف في هذا الناقض حيث ابتدأ هذا الناقض بقوله:
(من اعتقد) وهذا الكفر وهو كفر الاعتقاد له أنواع:
الأول: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله حكم الله سبحانه وتعالى ورسوله.
وهذا كفر أكبر مخرج من الملة باتفاق العلماء كأن يكذب أو ينكر الحاكم أن هذا حكم الله عز وجل.
قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].
وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] وسواءًا كان جحوده أصلًا من أصول الدين أو فرعًا من فروعه المجمع عليه أو أنكر حرفًا مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعيًا، فإنه كافر كفرًا يخرجه من ملة الإسلام.
الثاني: أن يعتقد الحاكم بغير ما أنزل الله أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه وأتم وأشمل.
فهذا كافر كفراً أكبر يخرجه من ملة الإسلام بلا شك وسبق أن مثل هذا كافر من وجهين: أن فيه تكذيبًا لله ورسوله وأيضاً انتقاص للخالق سبحانه وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
ومع شديد الأسف ظهر في هذه الأزمان من نُخر في قلبه وعقيدته وزيّن له الشيطان بأن حكم الله الذي أنزله على رسوله لا يَصلُح مع ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان، وتغير الأحوال ففضل أحكام المخلوقين على حكم أحسن الحاكمين سبحانه وهذا لا ريب في كفره ومروقه من ملة الدين، فما من قضية كائنة إلا وحكمها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصًا أو ظاهرًا أو استنباطًا أو غير ذلك علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
الثالث: أن يعتقد الحاكم أن حكم غير الله ورسوله مثل حكم الله عز وجل.
فهو لا يعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، ولكنه يعتقد أنه مثله، فهذا أيضًا لاشك في كفره كفرًا أكبر يخرجه من ملة الإسلام لما في ذلك من تسوية المخلوق بالخالق جلّ شأنه كيف وقد قال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65]، وقال: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].
الرابع: أن يعتقد الحاكم جواز الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى.
وهذا هو الاستحلال وهو كفر أكبر مخرج من الملة باتفاق العلماء.
الخامس: إيجاد المحاكم الوضعية التي مراجعها القانون الوضعي.
كالقانون الفرنسي أو الأمريكي أو البريطاني أو غيرها من مذاهب الكفار، فهو أيضًا كفر أكبر بل من أعظم وأظهر الصور والأنواع معاندة للشرع ومشاقة لله ورسوله.
السادس: ما يحكم به بعض رؤساء العشائر و القبائل من البوادي معرضين عن حكم الله.
فيحكِّمون ما ورثوه من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها (سلُومهم) معرضين بذلك عن حكم الله تعالى. (انظر في رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم ص 13 بتصرف).
السابع: أن يحكم الحاكم بغير ما أنزل الله على أنه حكم لله فيبدل في دين الله.
وهذا أيضاً كفر أكبر مخرج من ملة الإسلام بإجماع العلماء قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فالحاكم بمثل هذا جمع بين التشريع وزعمه أن هذا من الدين وهذا يسمى تبديلًا.
القسم الثاني: كفر العمل:
وهو أن يكون الحاكم بغير ما أنزل الله يعتقد أن حكم الله ورسوله هو الحق الذي لابد من اتباعه، ولكنه حكم بغير ما أنزل الله لهوى، أو شهوة كرشوة، أو انتقام فغير حكم الله ووضع حكمًا من عنده، مع اعترافه على نفسه بالخطأ والعصيان ومخالفة أمر الرحمن ومجانبة الهدى، فمثل هذه الصورة مما كثر فيها الخلاف، هل كفره كفرًا أكبر مخرج من الملة أم لا؟
قال الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالة تحكيم القوانين (ص 13):
"وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج من الملة، فقد تقدم أثر ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قد شمل ذلك القسم وذلك في قوله رضي الله عنه للآية: "كفر دون كفر"، وقوله أيضاً "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه" وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاد أن حكم الله ورسوله هو الحق واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى، وهذا إن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى أكبر من أكبر الكبائر، كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس، وغيرها، فإن معصية سمَّاها الله في كتابه كفراً، أعظم من معصية لم يسمها كفراً".
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في قضية التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال (ص 72-73):
"من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أمور:
1- من قال: أنا أحكم بهذا يعني القانون الوضعي لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية فهو كافر كفرًا أكبر.
2- ومن قال: أنا أحكم بهذا، لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز، فهو كافر كفرًا أكبر.
3- ومن قال: أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهو كافر كفرًا أكبر.
4- ومن قال: أنا أحكم بهذا، وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز، ويقول: الحكم بالشريعة أفضل، ولا يجوز الحكم بغيرها، ولكنه متساهل، أو يفعل هذا لأمر صادر من حكامه فهو كافر كفرًا أصغر لا يخرج من الملة، ويعتبر من أكبر الكبائر".
القول الثاني من حكم بغير ما أنزل هوىً وشهوة مع اعتقاده أن الحكم بما أنزل الله هو الحق وهو أحسنها وأحكمها والذي يجب أن يُصار إليه بأنه كافر كفرًا أصغر لا يخرجه من الملة مال إلى هذا القول الشيخ ناصر الدين الألباني وأيضًا شيخنا ابن عثيمين في فتاوى العقيدة (ص 128).
فائدة: من خلال ما سبق استدل أصحاب هذا القول بتفسير ترجمان القرآن الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهم والصحابة هم خير من يفسر القرآن لأنهم عاصروا التنزيل واستقوا من النبي الكريم وابن عباس رضي الله عنهما إمام في هذا الباب فقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم في (المستدرك) والبيهقي في (السنن) والمروزي في (تعظيم قدر الصلاة) وابن عبد البر في (التمهيد) عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال: "كفر دون كفر". وهذا الأثر ضعيف لأن فيه هشام بن حجير ضعفه أحمد وضعفه ابن معين جدًا، وقال ابن عيينة: "لم نكن نأخذ عن هشام بن حجير مالا نجده عند غيره"، وذكره العقيلي في الضعفاء، إلا أنه يسنده ما روي في معناه موقوفًا على طاووس بسند صحيح كما أخرجه الطبراني في تفسيره، وأيضًا روي معناه عن ابن عباس رواه عنه علي ابن أبي طلحة في صحيفته عن ابن عباس، وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس ولكن يروي من صحيفتة بواسطة من وثق أقوال ابن عباس كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير.
وحملوا ما رواه ابن جرير في (تفسيره) وعبدالرزاق في (مصنفه) من حديث معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال ابن عباس: "هي به كفر" حملوا هذا التفسير عن ابن عباس على المعنى الأول وهو الكفر الأصغر وغيرهم حمله على الكفر الأكبر.
وأثر ابن عباس الأول الذي فيه هشام بن حجير، وتفسير ابن عباس "كفر دون كفر" استدل به ابن تيمية وابن القيم مما يدل على أنهما لا يضعفانه وأنه مقبول عندهما، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد إثبات هذا الأثر عن ابن عباس وتلامذته: "وقد أتبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة" (الإيمان ص 244 ط المكتب الإسلامي) وكل واحد من الفريقين تمسك بفهم لأثر ابن عباس ونظر في السند وشواهد الحديث ومن هنا نشأ الخلاف في هذه المسألة هل هو كفر أكبر مخرج من الملة أم أنه كفر أصغر لا يخرج من الملة؟
وقال شيخنا ابن عثيمين في تعليقه على (فتنة التكفير للشيخ الألباني ص 24-25):
"فيكفينا أن علماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم تلقوه بالقبول، ويتكلمون به وينقلونه، فالأثر صحيح، ثم هب أن الأمر كما قلتم أنه لا يصح عن ابن عباس فلدينا نصوص أخرى تدل على أن الكفر قد يطلق ولا يراد به الكفر المخرج عن الملة كما في الآية المذكورة، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «» وهذه لا تخرج عن الملة بلا إشكال".
وقال أيضًا في فتاوى العقيدة (ص 131): "وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكّام هذا الزمان، فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق لأن المسألة خطيرة.... كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتبين المحجة، فيهلك من هلك عن بَيِّنَة، ويَحْيا من حيَّ عن بينة، ولا يحقرن نفسه عن بيانه، ولا يهابن أحدًا فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. والله ولي التوفيق".