معالم في قضية التربية عند أهل السنة والجماعة - (2) المربي والتربية
الربط التوحيدي الذي يقوم به المربي هو ربط بالمشروع الإسلامي أساساً، فهو ربط بالله، والربط الوساطي الذي يقوم به الوسيط هو ربط بالذات، أو الذوات الشخصانية المؤسسة للتنظيم والُمَسَّيرة له، فيكون الانحراف التربوي من أول الطريق، بحيث إنه بقدر ما يستطيع الفرد المقتدي بالمربي تجريد قصده لله عز وجل، وإخلاص أعماله له وحده سبحانه.
معالم في قضية التربية:
ا- التربية بين المربى والوسيط: إن المربى يعلم الفرد كيف يكون منتجاً، ذلك أن المربي هو الذي يقوم بتنمية الفرد، وترقيته في مراتب التدين، والتشكيل النبوي لشخصيته، على أساس التجرد والاستقلال، فلو أردنا التمثيل المادي للعمليتين من حيث اختلاف المربي والوسيط، لكان المربي هو معلمك كيفية صيد الأسماك في المثال المشهر: "لأن تعلمني كيف أصطاد السمك، خير لي من أن تعطيني كل يوم سمكه"، ولكان الوسيط هو الذي يتصدق عليك كل يوم بسمكة! فانظر أي فرق بينهما؟! وأي فرق بعد ذلك بين العمليتين في الحال والاستقبال؟
فالمربي إذًا هو الذي يعلمك كيف تكون منتجاً، والوسيط هو الذي ينتج بدلاً منك، فيعطيك المفاهيم جاهزة من خلال كتابه أو ورده أو حاله، فلا تكون إلا مستهلكاً والمربي هو الذي يعلمك كيف تنمي قدراتك الذاتية، ومواهبك الشخصية، فتكون بعد ذلك نسيج وحدك، وطراز شخصك، لا فرداً من نمط واحد متعددٍ في الشكل متحد في الجوهر، يسعى لتقمص شخصية الوسيط؛ لأن الوسيط يقوم بالحد من مواهبك الشخصية، ومحاولة إلغاء قدراتك الذاتية، من خلال تلقينك المفاهيم الجاهزة والمقولات المستهلكة، فلا يترك لك فرصة للتفكير أو النقد أو المراجعة، لأنه يقوم من خلال وساطته بتدمير جهاز المناعة الذاتية في العقل، فيحدث في الفرد حالة من الاستسلام التام لكل ما يتلقاه عنه، حقا كان أم باطلاً، إن الوسيط على حد تعبير الدكتور إدريس نقوري: "يحتل مركز الصدارة، ويتمتع بسلطة قوية ذات تأثير ونفوذ كبيرين على الذات، وعلى الموضوع في آن واحد".
بينما نجد المربي متجرداً من كل ذلك،إذ ما هو من الناحية التربوية إلا أداة إجرائية بالقصد الأصلي، تساعد على تنزيل العملية التربوية على أحسن وجه، وتمثل فعل الأمر (قُلْ) المحذوف في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، فلم يذكر النص الرسول صلى الله عليه وسلم حينما تعلق الأمر بمسألة تعبدية تربوية، حيث وجب الربط المباشر للمتربين بالله، إذ لم تكن المسألة تعليمية يرتبط الجواب فيها بوجود المعلم الشارح، كما في سائر أسئلة القرآن، نحو قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222]، ونحوها كثير كما هو معلوم.
فالمربي كما هو في الآية الأولى موجود بالقصد التبعي لا بالقصد الأصلي، لأن السياق يقصد بالأصالة ربط العباد بربهم ربطاً مباشراً، ولا يمنع هذا من تقدير وجود المربي من خلال الفعل المقدر (قل)، باعتباره مكوناً للمتربين بالمادة الشرعية أولاً، وبسلوكه الإسلامي وقدوته الحسنة بعد ذلك ثانياً، ولكن على أساس أن يكون هذا القصد الثاني خادماً للقصد الأول الأصلي، لا هادما له؛ لأنه إنما هو مكمل ومتمم لقصد ربط العباد بربهم، وأي انحراف عن هذا القصد يفقد المربي وظيفته كمربٍ، فيتحول إلى وسيط مزاحم للقصد الأصلي التعبدي ومخالف له..
ومن هنا قال أبو إسحاق الشاطبي في قاعدته المقاصدية: "كل تكملة فلها من حيث هي تكملة شرط.. وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال"، ويختلف المربي بعد ذلك عن الوسيط في منهج: "الاستيعاب الخارجي" كما يسميه الأستاذ (فتحي يكن)، لكون المربي يستقطبه لحركته على أساس مبادئها وبرامجها، لا على أساس أسمائها ورموزها، فلا تطغى الحزبية على المبدئية، ويكون التركيب الأولي للفرد إنما هو على مدى الاقتناع بالمشروع الكلي للحركة، لا على مدى الإعجاب بالقائد الفلاني، أو المفكر الفلاني، ولا على مدى الانبهار بكرامات الشيخ الفلاني أو مقاماته.
فالربط التوحيدي الذي يقوم به المربي هو ربط بالمشروع الإسلامي أساساً، فهو ربط بالله، والربط الوساطي الذي يقوم به الوسيط هو ربط بالذات، أو الذوات الشخصانية المؤسسة للتنظيم والُمَسَّيرة له، فيكون الانحراف التربوي من أول الطريق، بحيث إنه بقدر ما يستطيع الفرد المقتدي بالمربي تجريد قصده لله عز وجل، وإخلاص أعماله له وحده سبحانه، بقدر ما يعجز الفرد المقتدي بالوسيط عن فعل ذلك، إلا من خلال استحضار تلك الوسائط، التي كانت سبب انتمائه للحركة الإسلامية المعنية، وسلوكه في نظامها التربوي، فيعمل العاملون بعد ذلك في إطار التوحيد، بقصد التعبد، ويقع العاملون في إطار الوساطة في شرَك قصد الحظ، المرتبط بالأشكال والرسوم -على تعبير القوم-! وذلك قد يكون هو الشرك الخفي! إن الداخل إلى مؤسسات العمل الإسلامي عبر منهج الوساطة، لا يدخله إلا لأن فيه فلاناً وفلاناً، وتلك أولى الآفات التربوية المترتبة عن وساطة الوسيط، والتي تغرس في النفس تعصباً حزبياً يصعب معه إن لم يستحل إنشاء الحوارات، وتوحيد الجهود وتنسيق الأعمال، بل هو داع خطير للانشقاقات والصدمات (الأخوية)، لأن المتربين هنا إنما يؤمنون بأسماء الرموز لا بما يدعون إليه أساساً! (1).
ب- التربية بين التكوين والتلقين:
أشرنا في المقارنة بين المربي والوسيط، إلى أن المتربي يتعلم من المربي طرائق الإنتاج، وأنه لا يتعلم من الوسيط إلا طرائق الاستهلاك، وذلك هو المقصود عندنا ها هنا من مصطلحي (التكوين، والتلقين)، فهما معنيان متقابلان، لأن التكوين هو طبيعة العملية التربوية في إطار التوحيد، والتلقين هو طبيعتها في إطار الوساطة، فالتكوين إذن هو إعداد الفرد -كما مثّلنَا في مثال اصطياد السمك- ليكون قادراً على تمثُّل المفاهيم الشرعية من مصادرها، إنه محاولة اكتشاف مواهب الفرد وطاقاته الذاتية، لتطويرها قصد إنتاج الشخصية الإسلامية الفعالة، أما التلقين فهو شحنه بالمفاهيم الجاهزة، المتمثلة في فكر المفكر أو سلوك الشيخ.
وعليه: فإن التربية التوحيدية تعمل على إنتاج العقلية القيادية، المنتجة في مجالها، والجندية المبادرة المنتجة في مجالها أيضاً، لأن طبيعة العمل بالنصوص تكسب الفرد قوة منهجية ذاتية، وتدربه على العصامية، فأقل شيء تكونه في المتربي البسيط الثقافة عندما تواجهه بالنص الشرعي، وتكلفه بتفسيره أو شرحه هو أنك تنبه نفسيته الخاملة وتوقظها، إذ تجعله يحس أنه يجب أن يعطي هو أيضاً، لا أن يستهلك فحسب، ثم إنه يقوم بمراجعة ذاتية داخلية، من أجل العمل على استخدام طاقاته وتطويرها، وهكذا يبتدئ تكوُّن العقلية الإنتاجية، فكثيرة هي تلك الشخصيات الانطوائية التي تذم نفسها، وتستهين بقدراتها الذاتية، والواقع أن لها من الطاقة -لو وجدت من يكتشفها كي يتأكد منها صاحبها أولاً، ثم يقوم بتطويرها- ما يعطي الشيء الكثير لهذه الدعوة خاصة وللإسلام عامة، فالتعامل مع النصوص الشرعية كفيل بإيقاع الفرد بذاته أولاً.
ولذلك فإن أول ميزة يتخرج بها المتربي من البرنامج التوحيدي هي القوة الإرادية المبادرة، فهو طاقة فعالة منتجة حيثما حل أو ارتحل، لا وجود في شخصيته للرغبة الاستهلاكية، والشعور الانتظاري، فرب شخص توحيدي التربية، يرتحل إلى بلدة نائية لم يمتد إليها العمل الإسلامي ويتعذر التواصل معه، ورغم ذلك يأتيك بعد سنة أو سنتين متبوعاً بجماعة من الأقوياء الأمناء، تشكل حصيلة إنتاجه التربوي طيلة غيابه، فيمد حركة الإسلام برافد جديد من العاملين، ويضيف إلى جغرافيتها منطقة لم تكن في الحسبان، ورُبَّ شخص آخر تخرج من برنامج وساطي يعين في بلدة آهلة بالعاملين والدعاة، ويكلف بقطاع ما أو عمل ما، وبعد مدة يأتيك شاكياً باكياً: "إن المسؤولين لم يتصلوا بنا، إن المسؤولين لم يهتموا بنا، إنهم لم يزودونا، إنهم وإنهم.. إلخ"، ولا يصدر اتهاماً واحداً لنفسه! فتحس أن الرجل قد فتر فعلاً، بل كاد يتلاشى..
فالفرق بين النموذجين يرجع أساساً إلى طبيعة العمل التربوية، الذي تربى عليه كل منهما، فالأول كما ذكرنا رجل خضع لتربية تكوينية لا تلقينية، فتكونت فيه شخصيته الفاعلة المبادرة، وعقليته الإنتاجية لا الاستهلاكية! فهو وإن رحل إلى بلدة ليست فيها بيئة إسلامية فإنه أوجدها وصنعها، وأما الثاني فهو رجل خضع لتربية تلقينية لا تكوينية، فتلقن ما يصلح به تدينه الذاتي إلى حين، لا ما يصلح به غيره، لأن العقل المصلح أو الإرادة المنتجة لا تلقن أبداً، ولكنها تكون تكويناً، ولذلك رغم أنه عين في بلدة ذات بيئة إسلامية فإنه لم يستطع القيام بمهمته المنوطة به، بل إنه كان ينتظر اتصال المسؤولين به وتزويده ومساعدته، ولما لم يكن ذلك بدأ يتدهور تدينه الشخصي، والتزامه الذاتي، وهو في ذلك معذور لأنه أَلِفَ أن يستهلك ولم يألف أن ينتج، لأن المنهج الذي تربى عليه لم يتح له ذلك، فقد كانت شخصيته مستلبة من لدن الوسيط، الذي كان ينتج كل شيء ويطعم أفراده المفاهيم جاهزة..
ومن هنا لم يدرك هذا المتخرج الجديد أن عليه أن يفطم نفسه عن الاستهلاك، وأن يشرع في الإنتاج، وحتى لو أدرك ذلك فإنه لن يستطيع تحقيق تلك الإرادة في نفسه، وحتى لو أراد فإنه لن يتمكن من الإنتاج فعلاً، لأن عقله لم يشكل ذلك التشكيل فيكون عليه إعادة تربية نفسه من جديد، وهكذا ففرق بين شخص كهذا لو عين في منطقة نائية عن نفوذ العمل الإسلامي لربما ضاع وتساقط، وبين شخص يذهب إلى هناك وبعد عام يأتيك بقبيلتي أسْلَمَ وغفار، تماماً كما صنع أبو ذر الغفاري رضي الله عنه.
ثم إن التربية التكوينية بعد ذلك تنتج عقلاً علمياً وشخصاً منهجياً يصعب أن تتسرب إليه الخرافة، والأفكار الوهمية والغيبية التواكلية، ذلك أن استفادة المفاهيم من نصوص الشرع نفسه كعملية تكوينية تكسب الفرد منهجية تحليلية نقدية، ومقاييس علمية لقبول الأفكار أو ردها، وملكة خاصة لمعرفة المقاصد العامة للشرع، يرجع إليها كل ما يتلقاه من كلام، أو يقرؤه من توجيه وتخطيط، فيدع المخالف ويقبل الموافق، فعقل مثل هذا هو عقل إسلامي مسدد، يصعب أن تتسرب إليه الخرافة، أو الفهوم المنحرفة في هذا الاتجاه أو ذاك، لأنه محصن بحاسة استفهامية لا تدخل في قصد التكليف -على حد تعبير الشاطبي- إلا بعد تَبَيُّن قصد الإفهام، إذ لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت الحاجة.
وأما التربية التلقينية فهي بالمقابل تنتج عقلاً يفتقر إلى أساسيات التفكير المنهجي، ومبادئ العقل العلمي، ذلك أن السكون السلبي الذي يمارسه المتربي إزاء الوسيط، وبرنامجه التربوي هو ضرب من اغتيال العقلية النقدية، وتكريس لقابلية التقبل المطلق، والاستسلام التام لكل المفاهيم الوساطية.. فلا قدرة لمثل هذا على التمييز بين الحق والباطل، وبين المفهوم الصحيح والمفهوم المدلس، ولذلك فهو أبواب مشرعة لدخول التفكير الخرافي، ومفاهيم الغيبية التواكلية ذات الطبيعة الانتظارية، لا الغيبية التوكلية التي تبادر إلى الأخذ بالأسباب الشرعية والسنن الربانية في النفس والمجتمع، وما أكثر أن تلاحظ شيوع الأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة بين مثل تلك العقليات، وكذا ترويج الإشاعات ذات الطبيعة الأسطورية والأقوال الشاذة والفقه! ليس لأنها عقليات غير عالمة، فالعالمية ليست مطلباً للبرامج التربوية -كما أسلفنا- ولكن لأنها عقليات غير استفهامية ولا نقدية ولا منهجية، أي ليست علمية، و(العلمية) ليست حكراً على العلماء والمثقفين، بل ربما تجدها لدى الفلاح البسيط، أو لدى العامل المحدود الثقافة؛ لأنها طريقة في التصرف والتفكير، قبل أن تكون طريقة في البحث.
وأخيراً: فإن التربية التكوينية، تنتج طاقات مختلفة باختلاف مواهبها الذاتية، وميولاتها الجبَّلية، ومؤهلاتها الفطرية، فتستطيع بذلك سد الخلات وملء الثغرات، وإشباع الحاجات في إطار المشروع الدعوي الإسلامي، رغم اختلافها وتعددها، لأن العملية التكوينية تعمل على اكتشاف مواهب كل فرد على حدة، وتوجيهه نحو تنميتها وتطويرها، وهذه بطبعها مختلفة متعددة بتعدد الناس، ولذلك تعمل التربية التكوينية على تيسير الأفراد لما خُلقوا له من اختصاصات، تأسياً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري:4949)، لكن التربية التلقينية، لا تراعي ـباعتبارها تلقيناً جاهزاًـ الفوارق النفسية والتخصصات الجِبلَّيِة، بل تطبع الكل بطابع واحد، فتنتج نمطاً واحداً من الأفراد، كلهم نسخة واحدة صادرة عن الوسيط (2).
يُتبع هذا المقال بآخر نكمل فيه معالم قضية التربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوحيد والوساطة الدعوية للاستاذ فريد الأنصارى حفظه الله، وهذا الكتاب من الكتب الرائعة جداً في مجال التربية.
(2) السابق انظر موقع كتاب الأمة على شبكة الإنترنت.
محمد المصري
معلم وباحث إسلامي مهتم بالقضايا التربوية والاجتماعية ،وله عديد من الدراسات في مجال الشريعة والعقيدة والتربية الإسلامية.
- التصنيف:
- المصدر: